- فراس حج محمد/ فلسطين
يومي السبت والأحد: 17و18 نيسان 2021
بدأت نهار السبت 17 نيسان بنشاط، إنه يوم الأسير الفلسطيني، تشجّعت وكتبت الرسالة الأربعين، واحدة من رسائلَ كثيرة، أكتبها للفراغ، تجاوز عددها المئة كما يشير مجلد الرسائل على الحاسوب، إنما "أربعون" هو عدد الرسائل المنشورة.
على موعد هذا اليوم مع المحامي الصديق القادم من حيفا حسن عبادي، للمشاركة في الفعاليات الخاصة بيوم الأسير الفلسطيني. ينبغي أولا أن أكون في مقر تلفزيون "هوانا TV" لتستضيفني المذيعة والإعلامية قمر عبد الرحمن من قلب الاستديو على الهواء مباشرة للحديث عن إبداعات الأسرى، ثم لنذهب في جولة في البلدة القديمة، والإفطار الجماعي، والندوة الخاصة بيوم الأسير، وأخيرا حضور مسرحية "رحم الخليل". إنه سيكون حافلاً بلا شكّ.
في الرسالة الصباحية ثمة هاجس مخفيّ أنني ربما سأتأخر عن الموعد المضروب بيينا؛ الساعة الواحدة ظهرا، المخاوف تزداد، ويتأخر وصول السيارة التي ستقلني إلى رام الله. اليوم السبت، والحركة ضعيفة، والدنيا رمضان، ودرجة الحرارة عالية، والجو غير مطمئن. كعادتي متوتر جداً، أخشى أن أصل متأخراً.
أصل مجمع السيارات في مدينة رام الله في حدود الساعة الحادية عشرة والنصف، السيارة التي ستقلني إلى الخليل يلزمها بعد وصولي راكبان آخران، ننتظر قليلا، ثم ننطلق. تخفّ حدة القلق قليلا، ما زال لديّ متسع من الوقت حتى لا أتأخر، لكننا شعب لا يسلم من المفاجآت الضارة، هكذا أعيش إحساس القلق كلما أبطأت السيارة في المسير، لا أكفّ عن التحديق في ساعة الهاتف، أراقب المناطق، يهاتفني حسن عدة مرات، الطريق طويلة، ومن حسن الحظ أن السائق نشيط، على الرغم من أنه ربما قطع من العمر ستين عاما أو يزيد إلا أن روح الشباب وحيويته ما زالت تسكنه، السيارة مسرعة وتلتهم الطريق، تنفرج أساريري وأهدأ. أقطع المسافة بحديث لم ينقطع مع رفيق سفر، كنا متجاورَيْن في المقعد الخلفي.
وصلت إلى مقر التلفزيون أخيراً، قبل الواحدة بدقيقتين، مشهد حقيقي، كأنه مشهد درامي من تلك المشاهد السينمائية التي كنت ألتفت إليها، حيث يصل الشخص إلى مبتغاه في اللحظة الأخيرة. أنا بالفعل وصلت في اللحظة الأخيرة، أدلف إلى مقر التلفزيون، أسلم على السكرتيرة، يراني حسن أول أن دخلت، يبادرني بتحيته المعهودة "أهلاً فراس". مع حسن في بهو الانتظار تجلس الحاجة أم نضال، أم الأسيرين نضال ومنذر مفلح. ومعها ثلاث من الفتيات، إحداهما سلافة حنايشة ابنة أخت الأسيرين وطفلتان أخريان يبدو أنهما ابنتا الأسير نضال. تحدثنا حول الفعاليات واللقاء. تأكد حسن من وجود كتب الأسرى في حقيبتي، وخاصة ديوان "أنانهم" للأسير أحمد العارضة، وكتاب "جدلية الزمان والمكان" للأسير كميل أبو حنيش. سلمت على رفاق دربه الأصدقاء مصطفى نفاع أبو فراس، وجميل عمرية، وعلي رافع.
أجرينا المقابلات، حسن عبادي أولا ثم أم نضال ودخلت ثالثهم. تحدثتُ في الجانب الإبداعي لكتب الأسرى، وركز حسن كثيرا على أهمية الاهتمام بالأسرى متحدثا عن مبادراته الإبداعية، وأهدى البرنامج لوحة "المليون أسير" للفنان العكّي وليد قشّاش. وكشفت أم نضال عن الجانب الإنساني والاجتماعي والنضالي لابنيها نضال ومنذر.
ما زلت قلقا على الدكتورة لينا الشخشير، رئيسة "منتدى المنارة للثقافة والإبداع" التي استجابت لطلبي لتكون معنا في الخليل وتشاركنا في حضور الفعاليات. أهاتفها مرتين أو ثلاثاً، تخبرني أنها أصبحت قريبة جدا من "برج العرب"، حيث نحن موجودون، أصف لها المكان، وهبطتُ من الطابق الرابع حيث مقر التلفزيون لأستقبلها، لحظات، وتترجل من سيارة بيضاء فارهة. حسن عبادي ورفاقه الثلاثة ينضمون إلينا، ونستقلّ سيارتين، أنا ولينا وعلي رافع نستقلّ السيارة مع حسن، أما جميل ومصطفى وشخص آخر من الخليل لم أعرفه، يستقلّون سيارة أجرة.
نتوجه جميعاً إلى قلب المدينة، نترجل من السيارتين يستقبلنا شابان نشيطان أحدهما يضع الكوفية الفلسطينية على كتفيه لم أعرف اسمه، والآخر يدعى مفيد الشرباتي، مفيد يتولى تعريفنا بالمكان، درجة الحرارة عالية، الطريق أخذت كثيرا من الطاقة، أشعر بالتعب من بداية المشوار، والحساسية تشتعل في أنفي وحلقي، وتضطرني لاستخدام المنديل باستمرار، ولكن أتجالد وأسير مع الرفاق، ومفيد يشرح. إنه أحد الشباب النشيطين في مدينة الخليل وأظنه قال إنه من شباب مقاومة الاستيطان وهو أسير سابق.
نسير تحت شمس الله الحارقة، متوجهين نحو شارع الشهداء، الشارع المغلق منذ سنوات طويلة، نلتقي بأحد سكان حيّ الرميدة، بيته يقع بعد نقطة الحاجز التي تسدّ الشارع، لتنتهي منطقة H1، وتبدأ منطقة H2، حيث السيطرة الإسرائيلية الكاملة، دخلنا من البوابة الحديدية، فحص عادي على البطاقة الشخصية، نتوجه إلى بيت من بيوت المنطقة، كثير من الأماكن مغلقة ولا يُسمح للفلسطينيين أصحابها بفتحها، ومحالّ تجارية ما زالت بضاعتها على حالها لم يسمحوا لأصحابها بأخذها، قامت سلطات الاحتلال أيضا بإغلاق بعض البيوت بلحمها وسكانها في الداخل، إحدى العائلات حتى تستطيع الدخول والخروج إلى البيت، فتحوا الجدران الداخلية للمحلات الملاصقة للبيت، فصارت طريقهم كأنهم يتحركون داخل سجن كبير أو جُحر داخلي وضعوا فيه. الوضع مؤلم جدا في هذه المنطقة، تشعر فعلا بالاحتلال واختلال المنطق المتسم بالقسوة والجبروت والتحكم والإذلال، مشهد خال من الإنسانية، في هذه المنطقة بالذات تشاهد بأم عينك ماذا يعني أننا نعيش فعلا تحت الاحتلال.
نصل إلى بيت قديم، البيت قبل الأخير تقريبا المحاذي لنقطة عبور، هي في الحقيقة مغلقة، لا يسمح للفلسطينيين باجتيازها، جندي يقف على رأس الشارع، لا يعيرنا اهتماما، بمقابله نقطة تفتيش يقبع فيها جنود مسلحون. إغلاق الشارع منع الفلسطينيين من التنقل بحرية وبسرعة وباختصار للمناطق التي يريدون الذهاب إليهاـ عليهم أن يسلكوا طرقا أخرى التفافية. المعاناة في هذه المنطقة لا تطاق، ولكن من سكنوا هناك أصبحوا أقدر على التأقلم مع هذا الوضع المزري.
ندخل إلى بيت مفيد الشرباتي ابن عم الأسير الكاتب أيمن ربحي الشرباتي، ومفيد هذا ليس هو دليلنا الذي استقبلنا على دوار ابن رشد، ابن عمه أيضاً، لم يتفقا في الاسم الشخصي فقط بل في اسم الأم، وتوفي أبواهما في اليوم ذاته، وقد احتفى المستوطنون برحيلهما، فقد تخلصوا من مقاومَيْن عنيدين، هذا الرجل أسير سابق، له تجربة مرة في الاعتقال يسردها علينا، حيث امتنع عن الأكل والشرب ألبتة خلال اعتقاله لبضعة أيام، ولم يكن الموت بعيدا عنه جراء ذلك. يتعفّن جلده نتيجة الإضراب والعزل الانفرادي، يقرر الاحتلال الإفراج عنه حتى لا يموت داخل المعتقل، يصاب بفعل التعذيب الوحشي بظهره ويفقد خمسة من فقرات العمود الفقري، يستعيض عن ذلك بعد عملية جراحية ببراغي البلاتين ليستطيع التنقل وممارسة نشاطه الاعتيادي. أيام اعتقاله كان التعذيب في سجون الاحتلال وحشياً مجنوناً. أحد الأسرى- كما روى مفيد الشرباتي- فتح المحقق رأسه بالمقدح "الدرلّ"، يعترف هذا الأسير بأعمال قام بها ويحاكم مدة طويلة، أيمن الشرباتي لم يعترف إلا عن طريق العصافير. يتمتع أيمن بصلابة عجيبة، ومعنوياته عالية، و"راسه يابس"، كما وصفه ابن عمّه.
ونحن داخل البيت يروي لنا مفيد الشرباتي معاناتهم التي لا تنتهي مع المستوطنين المحتلين لبيوت "الخلايلة"، معاناة يومية، واعتداءات، تحرشات المستوطنين محمية من الاحتلال والرد عليها يعرّض الفلسطينيين للاعتقال ودفع الغرامات العالية، ظلم لا يوصف، واحتلال لا يعرف للعدالة معنى. يقصّ علينا الشرباتي رحلة صموده وصمود أبيه وجده أمام جبروت الاحتلال وإغراءاتهم بعشرات الملايين من الدولارات وبكثير من الامتيازات ليتركوا البيت، الشرباتي استعاد بيته وسكنه وتشبث به بعد معارك قضائية. يناضل يومياً ليظل في بيته، ولن يستطيع أحد أن يخرجه منه. يتحدث بطلاقة وبحرقة، يسرد أحداثا خيالية، تحدث في زمن انتهت فيه العبودية والسيطرة والتجبر، لكن على ما يبدو الإنسان هو الإنسان والاحتلال وحشي متى وقع وأينما حلّ، ليس معنيا بأي دين أو قانون أو حضارة، لا يعرف سوى القتل ديناً، والتجبر قانوناً، وسلب الناس سعادتهم حضارة. حدثنا الشرباتي كثيرا عن مبنى "الدبويا" وقصتها وعن المفاوضات ومهزلتها.
باعتقادي أن الأوضاع التي وصلنا إليها كانت بفعل المفاوض الفلسطيني والسياسي الفلسطيني اللذين لم يحسنا فعل أي شيء منذ وجدا إلى الآن. صدقت فيهم نبوءة إبراهيم طوقان: "في يديْنا بقية من بلاد // فاستريحوا كي لا تضيع البقية"، لقد ضاعت كل البلاد نتيجة مراهقتهم السياسية.
لا نستطيع أن نكمل مشوارنا إلى البلدة القديمة والسوق من تلك النقطة، لو كان الأمر مسموحا به، لم نستغرق سوى دقائق أربع كما أخبر بذلك الشرباتي. نتجول في السوق الطويلة الغاصة بكل البضائع والأطعمة، نصل إلى الحرم الإبراهيمي مع صلاة العصر، بعد اجتياز الفحص الأمني، لم أدخل أولا إلى الداخل، جلست على كرسي أمام الباب الرئيسي للحرم، أتأمل المشهد، ثمة أناس صابرون مقاومون، يمارسون حياتهم رغما عن كل تلك الظروف السيئة. يصومون ويصلّون ويربّون أبناءهم، ويشترون بشغف حاجياتهم. في البلدة القديمة في الخليل هذا عمل أسطوريّ.
وأنا في هذه الحال، صديقان عزيزان يخرجان من الحرم، إنهما عودة صبارنة وأنور عوض، صديقاي القديمان من "بيت أمّر"، يتفاجأان كما أنا، تماماً. هل يعقل أن تحدث معي هذه المشاهد الدرامية، إن هذا اليوم شبيه جدا بالدراما التي تصنع اللقاءات بالصدف، إنها الآن صدفة حقيقية وواقعية، نتصافح ونتحدث ونستذكر الرفيق الشهيد هاشم أبو ماريا، برفقة الصديقين شخصان آخران، أحدهما يدعى "نبيل صبارنة" ابن اخت الرفيق هاشم وإبراهيم مطلق وهو رفيق درب وفكرة للشهيد هاشم. يتعرفان عليّ سريعا ويتذكرانني، تذكرنا هاشما- رحمه الله- يذكر نبيل صورتنا نحن الأربعة (هاشم، وأنور، وعودة، وأنا) تلك الصورة التي التقطناها في ساحة كنيسة المهد في بيت لحم، وكنت قد كتبت بعد استشهاد هاشم نصا بعنوان "أربعة ناقص واحد". يستذكر عودة القصة ويقول "ثلاثة ناقص واحد"، يا له من فأل! ينقبض قلبي قليلا، ثمة من سيرحل منا نحن الثلاثة قريباً. في زمن الوباء والاحتلال كل شيء جائز وقريب التحقق. نتبادل الأحاديث حول الأوضاع والتعليم والوظيفة، ونلتقط صورا للذكرى. من يدري من يرحل ومن يبقى؟
التقاط الصور في مكان مرور الناس محرج، لا تسطيع أن تمنع الناس من المرور ريثما يضبط المصور صوره. أناس تخرج وآخرون يدخلون ونحن نحتل الباب الرئيسي للتصوير! أيّ فساد ذوق هذا! حدث هذا أيضا معنا عندما التقطت لي الدكتورة لينا الشخشير صورة أمام المتحف القديم الواقع في الطريق إلى الحرم. المتحف مغلق بسبب جائحة كورونا، كنت زرته منذ سنوات بصحبة رشاد العرب أيام انعقاد ندوة الخليل الثقافية. المتحف خال من الناس، ولكن الشارع مكتظ، بيني وبين لينا يمر الناس ولا يتوقفون ولا يهتمون لشخصين يلتقطان صورة. ثمة أمور أكثر أهمية، نصطنع قليلا من الدعابة، ونطلب من الناس التوقف قليلا. وهكذا فعلنا عندما التقطنا الصور أمام الحرم الإبراهيمي.
استهلكت الجولة وقتا طويلا، الوقت يقترب من موعد الإفطار، نتوجه إلى قاعة المحافظة في وسط مدينة الخليل، حيث مكتب مساعد المحافظ. بدأنا نشعر بالراحة، نتعرف في القاعة ونلتقي بأناس كثيرين من معارف الفيسبوك، صورة واحدة فقط التقطتها مع أخوي الأسير أحمد العارضة، ونحن نقدم أنا وحسن عبادي لهم ديوان "أنانهم". بعد الإفطار الجماعي وصلاة المغرب تبدأ الفعالية الرئيسية ليوم الأسير، ثمة حضور رسمي وشعبي، يشارك فيه قدورة فارس وقدري أبو بكر وشخص آخر يمثل المحافظة (نسيت اسمه)، وأسر شهداء وعوائل أسرى.
في كلمات المستوى السياسي ثمة كلام إنشائي له أبعاد انتخابية، تلفزيون فلسطين يركز على كلمات هؤلاء، يستضيفهم للحديث أمام الكاميرات. أنا وحسن عبادي نقدّم كتب الأسرى، ثمانية كتب، لم يهتم التلفزيون بنا أنا وحسن ولا بالكتب الثمانية، مع أن الفعالية لم تعقد إلا من أجل إبراز هذه الإبداعات. تحدث حسن عن أربعة كتب وأنا تحدثت عن أربعة. نُكرم بدروع عليها صورنا ومليئة بلوغوهات الجهات الرسمية التي حذفتنا من المشهد لتختصرنا بدرع!
نتوجه بعد ذلك إلى قاعة في أحد البيوت القديمة المرممة، لنشاهد عرض مسرحية "رحم الخليل" وهي من كتابة الأسير أيمن الشرباتي، ومعالجة مسرحية وإخراج رائد الشيوخي، وتمثيل سامح العملة وعلا أبو سنينة. مسرحية من فصل واحد، فيها التقاطات ذكية، نقد سياسي واجتماعي هادف، وتصوّر الأوضاع في الخليل وخاصة ضرورة الثبات في البلدة القديمة لأن الثبات هو مقاومة في هذه الحالة الغريبة. غصت القاعة بالحضور، نساءٌ ورجالٌ وأطفال. كان عرضا جيدا بالمجمل.
بمشاهدة مسرحية الشرباتي أعود إلى حيث يجب أن أبيت هذه الليلة، سأذهب إلى بيت معدّ خصيصا لاستقبال المتضامنين الأجانب، بيت صغير في محاذاة بيوت إحدى المستوطنات، بين البيت وبيوت المستوطنين شيك من الأسلاك. البيت مكون من غرفتي نوم، وغرفة أخرى فيها فُرش وأغطية، ومطبخ صغير، وحمام.
ألتقي في ساحة البيت بمجموعة من الشباب منهم الناشط عضو اللجنة الشعبية لمقاومة الاستيطان أحمد عمرو، يضيفونني فنجاناً من القهوة، ونتبادل الأحاديث حول الانتخابات والتشرذم الحاصل في حركة فتح ومآلات ذلك، وأهداف المرشحين، وانعدام البرامج الانتخابية للقوائم المرشحة للانتخابات التشريعية، أستأذن الموجودين بعد انتهاء شرب القهوة، لأتعرف على المبيت، فيشرح لي أحمد كيفية التعامل مع البيت ومفتاحه وأين أضعه إذا تأخر أحد الشباب في الحضور غداً صباحا، ويشرح لي أيضا الطريق المختصر التي سأسلكها عند المغادرة. بدت الأمور سهلة وميسورة.
أقضي الليل سهران، لم أستطع النوم، فأنا لا أتأقلم مع الأمكنة سريعاً، أسترجع الفعاليات ليوم الأسير، لقد كانت هذه هي الفعالية الوحيدة في فلسطين بكاملها التي احتفت بيوم الأسير وكرمت أبناء الحركة الأسيرة وعوائل الشهداء والأسرى. ولكنها كانت ناقصة وفئوية ولم تشمل الحديث عن جميع الأسرى، لقد تمّ اختطاف الفعالية وتحويلها من كونها فعالية نضالية ثقافية تهتم بإبداعات الأسرى، إلى فعالية انتخابية ممجوجة وليست عادلة.
هنا تبرز أهمية المبادرات الشخصية التي تعتني بالأسرى، كل الأسرى، بغض النظر عن انتماءاتهم الفصائلية، كمبادرات الصديق حسن عبادي: "لكل أسير كتاب"، و"من كل أسير كتاب"، و"لكل أسير رسالة"، ومبادرة الإعلامية قمر عبد الرحمن وبرنامجها "وتر النصر"، ولقاءات "أسرى يكتبون" التي تعقدها رابطة الكتاب الأردنيين، والمسابقة الرمضانية التي يعمل عليها منتدى المنارة للثقافة والإبداع في نابلس، وتعدها وتقدمها الدكتورة لينا الشخشير. تشتمل المسابقة على ثلاثين حلقة تتناول ثلاثين كاتبا ما زالوا يقبعون داخل سجون الاحتلال، وهم من ذوي الأحكام العالية، حوكموا على أعمال نضالية وعسكرية متنوعة، فهم ليسوا فقط حملة أقلام بل أيضا –جلهم- حملة سلاح
غادرت البيت بعد آذان الظهر، ومشيت الطريق التي وصفها أحمد عمرو، طريق وعرة، لكنها مختصرة، أسير بين أشجار الزيتون، الطريق ليست سهلة، إن تعثرت سأصاب بالأذى، ولن يعلم بي أحد فينقذني، وصلت نهاية هذه الطريق، الشارع الرئيسي؛ شارع الشهداء أمامي الآن، جنود في الشارع ومتضامنون أجانب وبطرَف هذا الطريق بوابة حديدية بمفتاح إلكتروني والجندي محشور في غرفته، يتحدث معي بكلام لم أفهمه. لحسن حظي أنه فتح الباب، شكرته بالإنجليزية، ولم أصدق أنه سمح لي بالمرور، لو لم يسمح لي بالمرور فإن عليّ العودة من حيث أتيت، الطريق الجبلية الوعرة، والبيت الذي كنت فيه مغلق الآن، ولن أستطيع المرور إلى الطرف الآخر؛ فالبوابة مقفلة أيضاً، وسأحتاج وقتاً إضافيا كبيرا حتى يحضر أحد هؤلاء الشباب لينقذني من هذا المأزق. هذه الإنسانية العابرة للجندي هي التي جعلتني أقدم له الشكر.
ذهبت في جولة إلى السوق، تزودت ببعض بضاعة الخليل، ذرعت السوق كلها تقريبا، السوق التي مشيتها مع الفريق أمس، حتى وصلت إلى محل لبيع الحلويات التي ظلت في البال عند مرورنا أمس من أمامها، أخذت حاجتي وقفلت راجعاً حيث مجمع السيارات، أحدهم يصيح: "رام الله.. رام الله"، أجبته: "نعم". السيارة لحسن الحظ أيضا تحتاج إلى راكب واحد، كأنني والسائق على موعد، وصدفة أخرى تضاف إلى مثيلاتها. جلست في المقعد الخلفي، وانطلقت عائداً، هذه الصدفة ذاتها تتكرر عندما وصلت إلى موقف السيارات، السيارة بحاجة إلى راكب واحد.
عشت بالفعل دراما حقيقية في هذين اليومين، وكانت رحلة ممتعة على الرغم مما فيها من تعب ومشقة، ومنغصات لما يحدث على أرض الواقع من ظلم يعيشه أبناء الخليل كل لحظة، ليلا ونهاراً. وشعرت بالرضا عن نفسي إذ إنني قدّمت جهدي وبذلت ما بوسعي للمشاركة في عمل وطنيّ، متيقناً أن هذا العمل لم يكن ليساوي ساعة واحدة يقضيها أسير خلف القضبان، وإنه لَعملٌ خجول بمقابل دمعة أم أسير أو قلق أب أو اشتياق زوجة، ولكن "فليسعد القولُ إن لم يسعد الحال".
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت