- د. سنية الحسيني
من الصعب تقييم السياسة الخارجية لجو بايدن الرئيس الجديد للولايات المتحدة بعد ١٠٠ يوم فقط من وصوله للحكم، اذ أن هذه المدة القصيرة قد تعطي مؤشرات عامة على التوجهات التي ستبدأ بها الإدارات الجديدة عملها. وتقييم الـ ١٠٠ يوم ما هو الا بروتوكول شكلي، يلجأ اليه المهتمون لتتبع المداخل التي تستهل بها الإدارات الجديدة عملها، وليس بالضرورة أن تعكس طبيعة ومستقبل هذه السياسة. وترسم الإدارة الأميركية الجديدة سياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط بعد انتهاء أربع سنوات من حكم الرئيس السابق المثير للجدل دونالد ترامب الذي حملت سياسته عموماً وتجاه الشرق الأوسط خصوصاً الكثير من الجدل والانتقاد، بينما اعتقد الكثيرون أن سياسة بايدن ستكون أقرب إلى سياسة الرئيس الأسبق باراك أوباما، والذي شغل بايدن نفسه منصب نائب الرئيس خلال السنوات الثمانية لحكمه. كيف تعاملت إدارة بايدن مع الملفات الساخنة في منطقة الشرق الاوسط ذات الرمال المتحركة، وإلى أي التكتيكات الإستراتيجية مالت سياستها؟
تقع مقاربة تحقيق السياسة الخارجية الأميركية عموماً بين منهجين، الأول يميل لتطبيق المبادئ الليبرالية لتحقيق المصالح، والتي تقوم في مظهرها بالتركيز على الدبلوماسية ودعم الديمقراطيات وحقوق الإنسان، وينتهجها الرؤساء الديمقراطيون بصفة عامة، والمنهج الثاني يركز على النظرية الواقعية، ويسعى لتحقيق مصالح الولايات المتحدة بغض النظر عن آليات الوصول اليها، وهو المنهج الذي يميل الرؤساء الجمهوريون لاتباعه عموماً. وما بين هذين المنهجين يكون التركيز فقط على تحقيق المصالح الأميركية، والتي تشكل العامل الثابت لهدف أي من الحزبين. ركزت الإستراتيجية الأميركية الخارجية منذ مطلع الألفية الجديدة على آليات التصدي لصعود الصين السريع والمتصاعد، المتحدي للهيمنة الأميركية في العالم. إن هذا يفسر توجيه تركيز السياسة الخارجية الأميركية منذ ذلك الوقت نحو آسيا، بهدف محاصرة النفوذ الصيني في عقر داره.
لم تفقد منطقة الشرق الأوسط أهميتها في السياسية الخارجية الأميركية، بل كانت في ذلك الوقت منطقة تحت السيطرة، حافظت الولايات المتحدة فيها على تميز مكانة إسرائيل حليفها الاستراتيجي الأول عالمياً. وارتبطت الولايات المتحدة بتحالفات قوية وصلت درجة التبعية مع دول عربية مركزية وأخرى دارت في فلكها. في حين كانت الدول المتمردة إما أنها لم تكن تشكل تهديدا حقيقيا لسياستها كإيران، التي أعلنت عن برنامجها النووي عام ٢٠٠٣، أو ضعيفة لا تمتلك أدوات التغيير كسورية، أو يمكن التعامل معها واخضاعها كما جرى في العراق. اليوم هناك العديد من الاعتبارات التي تبلورت في أعقاب الثورات العربية في منطقة الشرق الأوسط، وخلخلت معادلة توازن القوى في المنطقة، والتي كانت تميل لصالح حلفاء الولايات المتحدة. وتساعد مراجعة تلك الاعتبارات في تفسير سياسات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط اليوم.
تعد زيادة قوة إيران ونفوذها وتدخلاتها في المنطقة، رغم سياسة الحصار ضدها، على حساب حلفاء الولايات المتحدة فيها، من أهم تلك الاعتبارات وأخطرها. ويفسر ذلك الاعتبار تركيز السياسية الأميركية على التصدي لايران ومواجهتها باستخدام استراتيجيات مختلفة. كما أن تصاعد قوة ومكانة روسيا عموماً، الند التقليدي للولايات المتحدة، ومساعيها للتغلغل في منطقة الشرق الأوسط، منطقة النفوذ التقليدي للولايات المتحدة، والذي برز بشكل مباشر في سورية وليبيا، وغير مباشر في اطار تعميق علاقاتها مع دول مركزية أخرى منها دول حليفة للولايات المتحدة بالإضافة إلى إيران، لا يخرج عن تلك الاعتبارات. ولا يخرج تمرد تركيا، حليفة الولايات المتحدة، لصالح تحقيق مصالحها في المنطقة حتى وإن كان على حساب علاقاتها مع الولايات المتحدة، عن تلك الاعتبارات، كما يتضح ذلك في سورية وليبيا. ويتضح أخطر تلك الاعتبارات في تمدد النفوذ الصيني في المنطقة وعبر البوابة الاقتصادية، التي تجيد الصين اللعب فيها باحتراف، ليعمق معضلة الولايات المتحدة، بنقل المعركة بين القطبين إلى منطقة نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
يعتقد المتتبع للسياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط خلال الأشهر الثلاثة الماضية أن هناك حالة من التخبط والتناقض فيها، الا أن طبيعة تعيينات الإدارة الجديدة لمسؤولي الملفات المختلفة المتعلقة بالمنطقة والتي تعكس دراية وخبرة، تفيد بغير ذلك. وتنتهج إدارة بايدن سياسية مزدوجة في تعاملها مع ملفات المنطقة الحساسة، كسياساتها مع إيران والسعودية واليمن والعراق وسورية وفلسطين. مع إيران، ورغم توجه إدارة بايدن لاستخدام سياسة العصا لضرب النفوذ الإيراني في العراق وسورية، وهي السياسة الشبيهة بتلك التي ميزت سياسة إدارة ترامب تجاهها، تركز الولايات المتحدة أيضاً بالتلويح بالجزرة، وتلجأ إلى الطريق الدبلوماسي والمفاوضات معها، استرشاداً بسياسة إدارة أوباما. وتسعى الولايات المتحدة في اطار تلك السياسة بالتلويح لإيران برفع العقوبات عنها عبر المفاوضات سواء كان ذلك معها في اطار الملف النووي، أو مع السعودية ودول أخرى ممكنة في اطار الملفات الإقليمية. ولا يمكن التنبؤ الآن بأي من السياسات ستعتمدها الولايات المتحدة في تعاملها مع إيران مستقبلاً. مع السعودية، ورغم تهديدات الإدارة الجديدة بمحاسبتها انطلاقاً من انتهاكاتها لحقوق الإنسان، وصدور التقرير الخاص بمقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، اختارت الولايات المتحدة معاقبة شخصيات ثانوية، وأغفلت توجيه الانتقاد للنظام نفسه. كما أنها تراجعت عن تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية، لضمان وصول المساعدات في اليمن، وفي نفس الوقت تساعد وتدعم السعودية في مواجهة الحوثيين.
مع العراق، وفي سياسة مشابهة مع سياساتها في أفغانستان، أعلنت الولايات المتحدة نيتها سحب قواتها العسكرية من العراق، بعد أن أرست نظاماً سياسياً حليفاً لها فيها، في توجه عام يتبنى خفض عدد تلك القوات العاملة في الخارج، والذي يتبناه كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي. يأتي ذلك على الرغم من تصاعد مكانة ونفوذ إيران في العراق، وتزايد الهجمات المسلحة ضد الوجود الأميركي فيها. عادت الولايات المتحدة وأعلنت قبل أيام فقط تراجعها عن نيتها الانسحاب من العراق. ويتناقض توجه الولايات المتحدة بالانسحاب من العراق مع إعلان نيتها الاحتفاظ بقواتها في سورية، والذي يتطلب بشكل خاص بقاء التواصل والحصول على الدعم لقواتها المتواجدة في العراق. ويمثل الملعب السوري، الذي يتصارع في اطاره العديد من القوى الخارجية المنافسة للنفوذ الأميركي، أهمية أمنية خاصة لإسرائيل. مع الفلسطينيين، أعادت الولايات المتحدة التأكيد على حل الدولتين وأرجعت المساعدات المالية لهم، لكنها لم تتراجع عن القرارات الجوهرية التي اتخذتها إدارة ترامب، والتي تمس بشكل مباشر نتائج تلك المفاوضات.
ليس من السهل التنبؤ اليوم بسياسة الولايات المتحدة القادمة في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً في ظل المعطيات الجديدة المتطورة التي تسيطر على المشهد السياسي فيها. وتفسر سياستها المزدوجة أو حتى المتناقضة في اطارها، أن الولايات المتحدة لا تزال في حالة من الدراسة للاستراتيجيات الأمثل لتحقيق أهدافها فيها، وكلها سياسات قابلة للتبدل والتغير.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت