- جهاد سليمان/ عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
بعد حالة من الترقب الشديد، التي سادت الشارع الفلسطيني، في ظل الغموض السياسي، الذي لف مصير الانتخابات التشريعية (البرلمانية)، والتي كان من المقرر اجراؤها بتاريخ ( 22 أيار 2021)، أطل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بتاريخ (29 نيسان 2021)، ليلقي قنبلة صوتية، على مسمع الجماهير الفلسطينية، معلنا قرارا رسميا بتأجيل الانتخابات، متذرعا بعدم موافقة دولة الاحتلال، على طلب السلطة، السماح بإجراء الانتخابات في مدينة القدس المحتلة، ومؤكدا أن الإسرائيليين، أبلغوا الاتحاد الأوروبي، بقرار منع إجراء الانتخابات في القدس المحتلة، مع التأكيد على عدم الاعتراض، على إجراء الانتخابات في الأراضي الفلسطينية، كما ورد في الكلمة "نصا"، بمعنى أدق، تبلغ الجانب الفلسطيني الرسمي، بأن القدس المحتلة والموحدة، هي عاصمة دولة الاحتلال الإسرائيلي، تكريسا لإعلان الإدارة الامريكية السابقة، إعترافها بالقدس الموحدة، عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، ومؤكدا ايضا بأن القرار الرسمي بعدم إجراء الانتخابات دون القدس، محملا الاتحاد الأوروبي، والمجتمع الدولي، مسؤولية الضغط على "إسرائيل"، للإنصياع لقرارات الأمم المتحدة، التي تعتبر القدس الشرقية، أراضي فلسطينية محتلة.
على خلاف الشارع الفلسطيني الشعبي، لم يكن قرار التأجيل مفاجئا، للكثير من الفصائل الفلسطينية، التي أدركت ومنذ الإعلان الرسمي، عن ضرورة، إعادة هيكلة النظام السياسي الفلسطيني، من مدخل الانتخابات الشاملة، وعلى قاعدة التتالي والترابط، بدءا من الانتخابات التشريعية، أن الاحتلال الإسرائيلي سيبذل جميع الجهود، وبمختلف الوسائل، لعرقلة المضي في عملية إعادة ترتيب الأوضاع الفلسطينية الداخلية، وإعادة انتاج المؤسسات الفلسطينية وتشريعها، إنطلاقا من إرادة الشعب الفلسطيني وخياراته، وأن إجراء الانتخابات في مدينة القدس المحتلة، سيكون العائق الرئيسي في إتمام هذه المحطة الديمقراطية، مما دفع ببعض الفصائل، ومنذ البدء بجولات الحوار الأولى للفصائل الفلسطينية، لطرح عملية الانتخابات في مدينة القدس المحتلة، من زاوية اشتباكية مع الاحتلال، ومن منطلق خوض معركة تكريس سياسة الامر الواقع في المدينة المحتلة، وتحويل الانتخابات الى فرصة لاستنهاض الشعب الفلسطيني بمختلف قواه، في عملية اشتباكية مع الاحتلال، تكريسا لما تم الاتفاق عليه في اجتماع الأمناء العامين (بيروت- رام الله)، الذي إنعقد بتاريخ (3 أيلول 2020)، وما تضمنه من قرارات واضحة، توجه بوصلة النضال الوطني الفلسطيني على قاعدة برنامج (تنظيمي سياسي)، يرتكز بالأساس على قاعدتين أساسيتين وهما الوحدة الوطنية والمقاومة الشعبية الشاملة.
لم تدم حالة الاستياء الشعبية من التفريط السهل بالحق الديمقراطي للشعب الفلسطيني طويلا، بل سرعان ما إنفجرت بشكل ملفت، من خلال مسيرات جماهيرية غاضبة، خرجت في مختلف أرجاء الضفة الفلسطينية المحتلة، للتعبير عن حالة الغضب والرفض، للإستفراد بمصير الشعب الفلسطيني، وتسليم رقبة الحياة السياسية الفلسطينية ل "نتن ياهو"، وعصابات اليمين المتطرف الصهيوني، خاصة وأن الشعب الفلسطيني، وعلى وجه الخصوص الفئة الشابة، عبرت عن تعطش غير مسبوق، لخوض تفاصيل العملية الديمقراطية، من خلال نسبة التسجيل المرتفعة في لجنة الانتخابات المركزية، بحيث وصلت الى ما يقارب (93.3%) بعدد (36) قائمة انتخابية، وهذا ما يدلل بشكل واضح، على وصول النظام السياسي الفلسطيني بشكله الراهن، مرحلة اضمحلال تاريخي غير مسبوقة، على صعيد شرعية المؤسسات، وآليات إدراتها والتعاطي معها.
لم تقف غطرسة العدو الإسرائيلي عند حدود تعطيل العملية الانتخابية، بل تعدتها وبشكل متزامن، الى تصعيد ميداني خطير، بل الأكثر حساسية على مستوى القضية الوطنية الفلسطينية، وذلك من خلال بدء منظمات صهيونية متطرفة، بحماية الشرطة الإسرائيلية، بممارسة اعتداءات ممنهجة على أهالي حي الشيخ جراح، الواقع في قلب مدينة القدس المحتلة، في محاولة لاستمرار مسلسل طرد العائلات، والاستيلاء على ممتلكاتهم، لصالح مشروع التطهير العرقي الكبير، الذي بات يتهدد أكثر من (500) عائلة فلسطينية، مما أدى الى تصعيد حدة التوتر داخل مدينة القدس المحتلة، خاصة وأن قضية العائلات المهددة بالطرد، حظيت بتفاعل لافت على وسائل التواصل الاجتماعي، مما حولها الى قضية رأي عام عالمي، وأصبحت واحدة من أكثر القضايا تفاعلا، وهذا ما سلط الضوء بشكل أكبر، على نكبة جديدة تحضر للشعب الفلسطيني في الخفاء، سرعان ما ظهرت وإنكشفت للرأي العام العربي والعالمي، بفعل صمود الشعب الفلسطيني، ومواجهته بصدره العاري، لإجرام المستوطنين، ما أدى الى تصعيد إسرائيلي آخر، تجاوز جميع الخطوط الحمراء، بتحويل باحات المسجد الأقصى، الى ساحة حرب حقيقية، واستخدام القوة المفرطة في قمع المصليين والاعتداء عليهم، مما أطلق شرارة حرب عسكرية، بعد سلسلة من التهديدات التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية، محملة الاحتلال الإسرائيلي، تداعيات هذه الحماقات المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني.
لم تقف حدود التصعيد الفلسطيني، في مدينة القدس المحتلة وقطاع غزة، بل سرعان ما إمتدت نيران الغضب الفلسطيني الى الداخل المحتل عام 1948 والضفة الغربية المحتلة، في تحول ومنعطف تاريخي شهده الشعب الفلسطيني، يتكون ويتطور ويتسع، بالفعل الميداني المقاوم، وفي تكريس لمعادلة جديدة وواضحة، عنوانها الكل الفلسطيني، في معركة الدفاع عن مدينة القدس المحتلة، والكل الفلسطيني كتلة ثورية واحدة، في التصدي للاعتداءات الصهيونية المتواصلة، في تلاحم وطني عظيم، شكل مثلث العمل الوطني الذهبي، في الداخل المحتل عام 1948، والضفة الغربية والقدس وفي قطاع غزة، ودول اللجوء والمهجر، وهذا ما رفع مكانة القضية الفلسطينية مرة أخرى، الى رأس أولويات المجتمع الدولي، خاصة بعد موجة التضامن الغير مسبوقة، مع الشعب الفلسطيني، التي شهدتها قارات العالم، وخاصة على صعيد الشخصيات المؤثرة الأجنبية، اذ أضحت القضية الفلسطينية في غضون أيام، وبعد دخول الكل الفلسطيني في معركة الدفاع عن حقوقه الوطنية، قضية العالم الأولى، مما فرض مرة أخرى الانتخابات الفلسطينية، في مدينة القدس المحتلة، بورقة التضحية والدماء، وبصندوق المقاومة، الذي أعاد منح الشعب الفلسطيني، حقه في التصويت، بطريقته الثورية الخاصة.
استطاع الكل الفلسطيني، في مرحلة حرجة من مراحل القضية الفلسطينية، وكعادة الشعب الفلسطيني، أن ينقذ مرة أخرى، قضيته الوطنية، في ظل حالة التيه السياسية، التي وضعته بها، سياسات القيادة الرسمية الفلسطينية، في إدارة الدفة السياسية. إذ بعد سنوات طويلة من حشر القضية الفلسطينية في عنق الزجاجة، على يد فريق سياسي طبقي، لا يجيد الا لغة الاستجداء ورفض أي صيغ كفاحية جديدة، تتضارب مع مصالحه وإمتيازاته، إستطاع أخيرا الشعب الفلسطيني، أن يكرس معادلة كفاحية جديدة، لها بعدهها السياسي الواضح، بأن المساس بحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، وخاصة في مدينة القدس المحتلة، يعني بشكل مباشر، دخول الشعب الفلسطيني أينما كان، في معركة موحدة، دون الاستئذان من أي طرف سياسي، حيث أرسل الشعب الفلسطيني رسالة واضحة وصريحة، بأن عناصر قوته، تمكنه من فرض معادلات سياسية جديدة، خارج حسابات القيادة الرسمية الفلسطينية من جهة ومن جهة أخرى العدو الإسرائيلي، الذي وقف مذهولا أمام عظمة شعبنا، وقدرته على فهم لغة المقاومة الموحدة، وعلى التنسيق النابع من فطرية وطنية فلسطينية خالصة، في استشعار خطورة المرحلة، وإجتراح متطلباتها النضالة، كل حسب مكانه، وكل وفق ظروفه وإمكانياته. فمنذ الالتحام الشعبي العظيم، مع مشروع التطهير العرقي، المخطط لتنفيذه، ومن اللحظات الأولى التي اعلن خلالها الشعب الفلسطيني، أنه شعب حي قادر على مواجهة جميع مشاريع التصفية لحقوقه الوطنية، إنهزم "نتنياهو" وغطرسة يمينه الفاشي، وسقط المطبعون الذين راهنوا على افول نجم الشعب الفلسطيني وثورته، خاصة وأن للشعوب العربية التي خرجت وتضامنت، كلمتها الفصل في تأكيدها على مركزية القضية الفلسطينية ومكانتها، خلافا لما حاولت وسائل الاعلام الرجعية تصويره، والايهام به، فما كان من الشعوب العربية، الا وأن حطمت أصنام التطبيع بقرار شعبي واضح، وبحرارة لهيب الشعب الثائر ومقاومته الباسلة، حرقت صفقة القرن، ونثر الشعب الفلسطيني رمادها، على ذات الطريق الذي سلكه ترامب خائبا وعائدا الى بارات المقامرات القارية، لتبقى فلسطين وشعبها قضية الحرية والعدالة الإنسانية لجميع الشعوب الحرة في هذا العالم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت