ما بعد حرب غزة لا يشبه ما قبلها

بقلم: سنية الحسيني

سنية الحسيني
  • د. سنية الحسيني

فرضت حرب غزة الرابعة معطيات جديدة، لم تكن ضمن حسابات إسرائيل، استدعت ضغطاً أميركياً عليها لوقف الحرب، بوساطة مصرية. هذه ليست المرة الأولى التي تضغط فيها الولايات المتحدة على إسرائيل لوقف الحرب في قطاع غزة، إلا أنها المرة الأولى التي تتحرك فيها الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل وسط أصوات عديدة علت بشكل ملحوظ في الكونغرس والإعلام والشارع الأميركي ضد عدوان إسرائيل على الفلسطينيين، وفي مظهر غير مألوف في الولايات المتحدة. لم يأتِ غضب الأميركيين من ممارسات إسرائيل ودمويتها في حربها الأخيرة ضد غزة منفرداً، فقد اقترن بمئات النشاطات المشابهة وعلى المستويات المختلفة في بلدان العالم أجمع. لا يمكن فصل ذلك الحراك العالمي خلال فترة الحرب عن التراكمات التي خلفتها سياسية إسرائيل الاستعمارية الإحلالية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي انعكست بوضوح في التقرير الأخير لمنظمة «هيومن رايتس ووتش»، وآخر قبله مشابه صدر عن مؤسسة «بيتسلم» الإسرائيلية، وغيرهما من التقارير لمؤسسات حقوقية دولية ركز جميعها على انتهاكات إسرائيل بحق الفلسطينيين. ورصدت هذه التقارير انتهاكات إسرائيل الصريحة لحقوق الإنسان الفلسطيني فوق أراضيه المحتلة، فاتهمتها بعضها بممارسة سياسة التمييز العنصري، وأخرى بجرائم حرب أو حتى إبادة جماعية.
 
من المرجح أن هذا الزخم في التفاعل والدعم العالمي للفلسطينيين خلال حرب غزة الأخيرة تبلور بفعل النهج الفلسطيني الشعبي العفوي، السياسي والإعلامي التصادمي مع الاحتلال، الذي برز في الأسابيع الأخيرة قبل حرب غزة، وبشكل محدد في أحداث حي الشيخ جراح ومن بعدها في المسجد الأقصى وما حوله، واستكمل بأداء الفلسطينيين خلال تلك الحرب، الذي أبرز جرائم الاحتلال خلالها، بشكل عكس نظاماً تكاملياً شعبياً وطنياً عفوياً بامتياز. يأتي ذلك رغم أن ممارسات الاحتلال الصهيوني بحق الفلسطينيين في جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة دون تمييز لم تتوقف ليوم واحد طوال عهد الاحتلال، والتي كثيراً ما ثار ضدها الفلسطينيون بين الفينة والأخرى، إلا أن تبحح الاحتلال في حي الشيخ جراح، وتصاعد ممارساته بشكل عام في جميع المناطق الفلسطينية في الآونة الأخيرة، في ظل انعدام لأي أفق سياسي، فجر الشارع الفلسطيني اليائس.
 
منذ توقيع اتفاق أوسلو، والاحتلال الإسرائيلي يسابق الزمن في حرب ضروس ضد الوجود الفلسطيني وفرص استمراره، لتغيير واقع الأراضي الفلسطينية المحتلة العام ١٩٦٧. في القدس، ما بين إجراءات المصادرة والهدم وترحيل وقمع السكان الفلسطينيين، تسعى إسرائيل لتهويد المدينة المقدسة وإزالة مظهرها الفلسطيني ومحو الحدود ما بين شرق المدينة وغربها. وفي الضفة الغربية، يعمل الاحتلال على فرض واقع مصادرة معظم أراضيها والتي تشكل أكثر من ٦٠٪  من مساحتها، والتي تشبه إلى حد كبير ممارساته في مدينة القدس، بالإضافة إلى انتهاكه لسيادة السلطة الفلسطينية حتى في حدود الأراضي الضيقة التي تديرها، من خلال اجتياحها واقتحام منازل الفلسطينيين فيها، ناهيك عن الاعتقالات اليومية، والتي تصل حد اغتيال للعزل الفلسطينيين أحياناً.  وفي غزة، يخضع الاحتلال القطاع لحصار مستمر لأكثر من ثلاثة عشر عاماً، فارضاً عليه طوقاً أمنياً عازلاً بتحكمه بجوه وبحره ويغلق حدوده البرية، كما استهدفه بأربع حروب مدمرة، بما سمح له فقط بالبقاء على قيد الحياة فقيراً وضعيفاً اقتصادياً وعاجزاً عن الحلم بأي فرصة باتجاه التتطور أو التنمية.

وتسيطر إسرائيل على جميع ما يدخل أو يخرج من القطاع، من مواد أو بشر، وتخضعه تحت نظام أمني صارم، مانعة عنه دخول مواد أساسية في بعض الأحيان. كما تستغل إسرائيل آلية إعادة إعمار غزة والتي تم التوافق عليها بعد حرب العام ٢٠١٤، لتتبع الفلسطينيين أمنياً من داخل القطاع نفسه، مستغلة حاجتهم لبناء ما تم تدميره في حروبها معهم من بنية تحتية وشوارع ومؤسسات ومنازل. وتمتلك تلك الآلية نظاماً رقابياً أمنياً يسمح لإسرائيل بتتبع مراحل بناء أي مشروع، منذ بداية وضع المخططات التي يكون بعلمها، إلى دخول المواد اللازمة للبناء من معابرها، إلى أن يتم تخزينها في قلب قطاع غزة تحت رقابة الكاميرات التي تتتبع تلك المواد. يأتي ذلك بالإضافة إلى تحكم إسرائيل في تحديد الجهات الفلسطينية المسموح لها بالعمل في تلك المشاريع، ما يفتح أبواب الابتزاز المالي والمساومات الأمنية التي يجيدها الاحتلال بامتياز. ناهيك عن الأموال التي تستقطع من تلك المخصصة للإعمار لخدمة تحقيق شروط تلك الآلية الأمنية، لم تنجز تلك الآلية جميع مشاريع الإعمار التي كان يفترض إنجازها بعد عامين من حرب العام ٢٠١٤ حتى الآن. تأتي سياسات الاحتلال تجاه الأراضي الفلسطينية في القدس والضفة الغربية وغزة مقرونة بسياسة التمييز العنصري تجاه سكانها، والتي تطبق أيضاً على الفلسطينيين في أراضي ١٩٤٨، والتي انعكست في ثورتهم الأخيرة المدوية خلال حرب غزة الرابعة.
    
ما بعد هذه الحرب لا يشبه ما قبلها، فقد جاء الضغط الأميركي على إسرائيل لوقف هذه الحرب ليفتتح مرحلة جديدة من سياسات الولايات المتحدة تجاه القضية الفلسطينية، تختلف عن تلك التي فرضها دونالد ترامب الرئيس الأميركي السابق. من الواضح أن إدارة الرئيس الجديد جو بايدن بدأت تعمل على تنفيذ إجراءات بناء الثقة مع الفلسطينيين، بإعلانها عن نيتها إعادة فتح القنصلية في القدس لخدمة المواطنيين الفلسطينيين، وتوجهها لتوفير ٧٥ مليون دولار للتنمية والتطوير الاقتصادي قريباً، ناهيك عن دعواتها لحشد الدعم الدولي لإعادة إعمار غزة. وتسعى الولايات المتحدة لاستغلال فترة وقف إطلاق النار أو الهدنة الهشة القابلة للكسر في أي لحظة، من خلال التلويح بالإعمار، الذي بدأت مصر بالترويج له؛ لأن مقاربة الهدوء مقابل الهدوء التي قامت عليها تلك الهدنة لم تعالج أيا من الأسباب التي فجرت الحرب، والتي من الصعب حلها عموماً، على الأقل في هذه المرحلة.

وعلى ما يبدو أن حرب غزة أجبرت إدارة بايدن على تسريع البدء في تنفيذ مقاربتها تجاه التعامل مع القضية الفلسطينية، والتي ترجمت بزيارة أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي إلى منطقتنا، وهي الأولى وجاءت بعد انتهاء الحرب بثلاثة أيام. وتستطيع الإدارة الجديدة ضمن رؤيتها للتعامل مع الفلسطينيين إحداث اختراق في إجراءات بناء الثقة معهم، وفي الحد من ممارسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، كمساعيها لوقف الحرب، والترويج للإعمار وتسجيل رفضها لتهجير الفلسطينيين من حي الشيخ جراح، إلا أنه من المستبعد أن تستطيع دفع إسرائيل لتنفيذ حل الدولتين، حتى وإن تمكنت من إقناعها بالانخراط في مفاوضات مع الفلسطينيين. وهذا تحديداً ما عكسه تقرير صدر العام 2018 عن مركز الأمن الأميركي الجديد بالاشتراك مع معهد بروكينغز، وقام بكتابته أربعة باحثين، من بينهم هادي عمرو المسؤول الحالي في الخارجية الأميركية، والذي يعكس عملياً سياسات الإدارة الأميركية الحالية، والذي لم يبلور آلية تحقق سلام كامل ونهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين أو يتوصل لحل من خلال المفاوضات.
 
هناك إشارات جاءت بعد حرب غزة الأخيرة بشكل خاص، من قبل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، بقبول التعامل مع حركة حماس، وهو ما يحمل بعدين، إما تدعيم فرصة ومكانة حكومة فلسطينية قوية تعكس الوحدة الوطنية، وهو ما ينسجم مع الرؤية الأميركية الجديدة في تعاملها مع الفلسطينيين، والتي تدعم رفع الحصار عن غزة، أو ترسيخ الانفصال بين غزة والضفة وبقاء حكومتين متنازعتين، وهو ما ينسجم مع رؤية حكومة بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، والتي تقوم على أساس تقويض حل الدولتين، والذي عمل على ترسيخها طوال سنوات حكمه. الكرة الآن في يد الفلسطينيين، إن تشكيل حكومة وحدة وطنية تعكس توافق القوى الفلسطينية المختلفة ويلتف حولها الشعب الفلسطيني بأكمله، يعني الحصول على دعم سياسي عالمي واسع، لمواقفنا ومطالبنا الوطنية، كما يعني أيضاً حصد أموال إعادة الإعمار ضمن شروط جديدة تضمن تحررها من قبضة المتابعة الأمنية للاحتلال. إن ذلك من شأنه أن يفتتح مرحلة سياسية فلسطينية جديدة تقوم على أساس التعاون والتكامل لتحقيق الهدف المشترك الذي يحلم به جميع الفلسطييين، ويخلصنا من حالة الجمود السياسي الحالي.  

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت