- بقلمي:إبراهيم أمين مؤمن
سعيًا وراء عمل خطوات جادة وفعالة لبناء المصادم FCC-2 قرر مهدي أن يبدأ بنفسه ثم بالنظام الحاكم، وهذا البدء يمتاز بالذكاء والحكمة فضلا عن أنه يتسم بالعدل. فمهدي يعلم بأن أكبر محفز لتحريك كافة أطياف الشعب للمساهمة في بناء المصادم هو الوزن بالقسط في الدولة، وهي ملكة مرتكزة في نفوس المحكومين ولاسيما العائل منهم والفقير سواء بسواء.
ومن قلب الرقيب على النظام الحاكم، ومن قلب درع الأمة، من قلب المؤسسة العسكرية قرر مهدي حثهم على المساهمة من رواتبهم وحوافزهم عن طريق فكرة رائعة أيضًا وهي إجراء استفتاء شكلي والغرض منه تطوع إجباري.
وبالفعل قام القادة ومَن يلونهم مِن الرتب الكبيرة بعمل الاستفتاء عن طريق فتح لجان انتخابية داخل المعسكرات والكتائب والوحدات وكلّ فصائل الجيش بكافة رتبه.
وتم الاستفتاء، وقد صُدم مهدي بعد أن أبلغ بنتائجه.
فأكثر من 70% من أفراد المؤسسة العسكرية على كافة رتبهم رفضوا المساس بمرتباتهم وحوافزهم معًا. ولقد هاله الأمر إلى حد الصدمة، وكاد أن يُغشى عليه لولا أن تداركه من حوله.
بعدها بأيام عقد جلسة طارئة مع المجلس العسكريّ، واستهلّ كلامه بمشاورتهم قائلاً: «يا أصدقائي، نحن وضعنا أرواحنا على أكفّنا إبان الثورة لخلع الرئيس الخائن الذي باع مصر لكل من هب ودب، واليوم أود أن نضع أرواحنا مرة أخرى لننهض بمصر. فماذا ترون؟»
قال وزير الدفاع متمتمًا نتيجة هاجس بداخله: «ماذا تقصد بالضبط يا مهدي؟»
رد: «تعرف مقصدي يا سيادة الوزير بعد أن عرفت نكسة الاستفتاء، أظن أن وقعها على قلبي كان أشد من نكسة 1967 على عبد الناصر.»
تقهقر وزير الدفاع للخلف مستاء من تهويل مهدي للأمور.
قال أحد الأعضاء: «أرى أن تُنحّي الجيش وتخرجه من مسألة دعم بناء المصادم FCC-2.»
نظر إليه مهدي متلهفا وهو يقول: «ولِمَ ؟ ولم؟»
أجابه: «الجيش هو الدرع الذي حافظ على مصر منذ عقود طوال، وهو الدرع الذي يتصدّى دائمًا للمخططات الخارجية التي تهدف لإضعاف مصر وخاصة المخطط الصهيوني، وضياعه أو تمزيقه سيُحدث يقينًا إضعافا للوحدة الداخليّة لمجتمعنا في شتى مناحي الحياة، هذا فضلاً عن أنّه البوابة أو الدرع الذي يحمي الجيوش العربيّة، فإن فُتحت البوابة أو تحطم الدرع فسوف تسقط المنطقة جزءًا جزءًا، تباعًا تباعًا.»
ارتدّ مهديّ إلى الوراء، واختلجتْ عيناه وقال منكرًا كلامه: «مستحيل، مستحيل أن أعرض الجيش لمثل هذه العثرات، هو يتعثر أحيانًا بسبب اضطلاعه بحمل ثقيل يحمله على كتفيه، أما أن يتعثر لأننا نطلب منه الوقوف بجانب شعبه فأنا لا أعتقد ذلك.»
وعمّ الصمتُ المجلسَ دقيقة وذلك مرجعه إلى أنّ المجلس لم يتصور أن هذه نظرته في المجالس العسكرية في الأزمان الغابرة، كما أنهم يرون عكس ما يعتقد مهدي، فاضطلاع الجيش بحثه على بناء مختبر علمي من أمواله هو الذي سيسقط الجيش.
فكرّ عليهم قائلا: «أرى في وجوهكم الإنكار عما قلت، نسيتم كيف ضاع نيل مصر بسبب الحمل الثقيل الذي ذكرته آنفا، نسيتم مجموعة القرارات التي كانت تُتخذ بصورة خاطئة بسبب الثورات الداخلية.»
ما زالوا خائفين من إثارة قضية دعم الجيش الإجباري في بناء المصادم، فهم متأكدون بأن مهدي سوف ينظر في أموالهم الطائلة التي يحصلون عليها من خلال عملهم.
استأنف مهدي: «لابدّ أن نبدأ بأنفسنا حتى نشجّع الشعب على المشاركة والتفاعل في بناء المصادم، لابدّ أن نكون البادئين بوضع حجر الأساس لبناء المصادم من هنا من هنا ..من الجيش.»
ووقع ما كانوا يحذرون بالفعل، ولكن إلى أي مدى سوف تكون الكارثة؟ وزير الدفاع وأكثر الأعضاء ينتظرون متخطفي الأبصار.
عضو آخر قال: «على مرّ العصور يا سيادة الرئيس والجيش يأخذ، ويأخذ، ويأخذ، فمن الصعب الآن أن ...»
قاطعه مهدي وهو يحدج فيه بقوله: «ليس صعبًا أن يأخذ وصعبًا أن يعطي؟!»
عم الصمت لحظات بعد أن صمت مهدي فجأة، فما زال الهاجس يكتنفهم ويكاد يحبس أنفاس قلوبهم ويسألون من الله اللطف بهم على ما يود مهدي فعله.
ثمّ تابع مهديّ كلامه: «الجيش هو درع الشعب الحصين ولا مانع أن أعطيه أكثر مما يأخذ غيره عن بقيّة المؤسسات، ولكن جاء دوره الآن ليعطي، نحن في أزمة.»
سكت هنيهة مجددا ثمّ أعاد نفس الكلمة إمعانا في التوكيد : «جاء دوره ليعطي، في مثل هذه الظروف لابد أن يضحي.»
قال نفس العضو السابق آملا في الإفلات من عزم مهدي على المساس بمرتباتهم: «لا أرى أن نغامر بمصير دولة كاملة مِن خلال الاعتماد على فتى صغير يدّعي القدرة على بناء مصادم حذر منه كلّ فيزيائيّ العالم لخطورته على الكون.»
هنا قال مهدي في نفسه: «ما زلتم تريدون الإفلات من الأمر الذي أود فرضه عليكم بأي وسيلة.» توقف الكلام، وكادت أنفاس أكثر الأعضاء تتوقف. فقال وهو يرمقهم: «يبدو أنني سأعلن في اللحظات القادمة عن موت محبيني إثر أزمات قلبية. تعسًا لكم.» بدأ العرق يتصبب من بعضهم بعد قوله الأخير، ثم قال بعد هذه الحالة التي عاينها: «هذا الفتى الذي لم تعرفوا قيمته عرفها الموساد، وكذلك السي آي أي، وعلى خلفيّة معرفتهم وإصرار الفتى على عدم التصريح بمكان بناء المصادم تيقّنوا أنّه سيدين بالولاء لبلده كما فعل عالم الفندق المقتول، فحاول أفراد الكيدون اغتياله، إسرائيل تعرف مدى أهمية العلم ونحن نجهله سيادة الوزير، الفتى كرّس حياته من أجل هذا البلد ونحن نبخل عليه بحفنة من الدولارات.»
قال أحد الأعضاء رغبة في إثناء مهدي عن عزمه: «الحكومة تخلّصتْ من الديون القديمة لدى البنك الدوليّ في عهد الرئيس المعزول على حساب الشعب فجاع وتعرّى وسكن القبور، ولا نريد أن نكون نحن السبب في الاستدانة مرّة أخرى و..»
صرخ فيه مهديّ: «تخلصنا كيف؟! لمّا بعنا أرضنا، وناولنا كئوسًا من دماء الفلسطينيين للجيش الإسرائيليّ ليروي بها ظمأه.»
قال عضو لم يتكلم من قبل رغبة في توسيع الفجوة بين ما يود مهدي فعله وما هم يودون: «أرى إعطاء منح للجيش حتى يحرسوا المصادم حال بنائه فضلاً عن سواعد أيديهم التي ستشترك في بنائه لا أن يُطلب منا.» قال ما في قلبه، لذلك تمتم وتراجع عن قوله السابق بقوله: «لا أن يُطلب منهم الدعم المالي من رواتبهم ومنازلهم و..»
قاطعه مهدي ساخرًا: «نسيت أن تقول سيادة العضو:وأولادهم.» رفع مهدي يديه اليمنى باسطا كف يده في وجوههم وقال: «كفى كفى.» ثم نظر إليهم محدقًا ثمّ استفتاهم استفتاء المجبرين لا المخيرين: «وأخيرًا الموافق بشأن دعم الجيش لبناء المصادم بالمال والنفس يرفع يده.»
كشر وزير الدفاع عن أنيابه وهو يقول: «يساهم بعرقه نعم، يكدّ ويتعب لبنائه نعم، لكن يساهم بالمال فذاك أمر عصيب عسير.»
نظر إليه مهديّ بحنق مشوب بالحزن ولم يعلّق، ثمّ أعاد نفس الكلمة.
فرفع قرابة 15 % من عددهم على استحياء.
عبس وجه مهديّ وازورّ للوراء كأنّما يتّقي سهمًا سُدد إليه ثمّ قال في نفسه: «لعلّ وطنيتهم نائمة تحتاج إلى من ينشطها، فهم أصدقائي وأنا أعرفهم فرادى فرادى، إذا رموا غدْرًا فضمائرهم ترعش أياديهم فتهوى الرميّة، وإذا انتقوا سهمًا ليرموا به بريئًا انتقوه مكسورًا لأنّ نفوسهم تأبى الجور، علي أن أفرض عليهم وأنا متأكد أن عملي سوف يكون مأمون الغوائل.
قال في حزم: «نؤجّل الأمر ريثما اجتمعُ بالحكومة.»
انفضّ المجلس وظلّ مهديّ يفكر فيما قال أعضاء الثورة المجيدة من المجلس العسكريّ، ورأى أنّهم جانبهم الصواب في كثيرٍ ممّا قالوا ولكن لاَ بُدَّ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ بُدٌّ وهو إشراك الجيش بالجهد والمال في بناء المصادم وإلّا سيعزف الشعب عن الإسهام فيه.
كما رأى أنّه لابدّ من الاجتماع السالف حتى يؤهّل نفوس أصدقائه لقبول أيّ قرارات يتخذها، فعنصر المباغتة في مثل هذه الأمور لا يصبّ مطلقاًَ في مصلحة المشروع.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت