- فيصل علوش
بعد ضغوط داخلية وخارجية تدخلت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لإقناع إسرائيل بضرورة وقف عدوانها على غزّة، ثم أوفدت وزير خارجيتها أنتوني بلينكن إلى المنطقة (من 24 إلى 26 أيار/ مايو)، وهي زيارته الأولى لها، بهدفٍ معلن هو البحث في فرص تثبيت وقف إطلاق النار وإعادة إعمار المناطق المتضررة، بما يحول دون انفجار المواجهات مجدّداً، الأمر الذي شكل أول أزمة تواجهها سياسة بايدن الخارجية.
وخلافاً للمواجهات السابقة، التي كانت تتدخل واشنطن لوقفها ثم تعمل بعدها على استئناف المفاوضات السياسية بين الجانبين، فإنّ تصريحات بلينكن ركّزت هذه المرة على الجانب الانساني فقط، حيث أشار إلى أنّ أولوياته تقتصر على معالجة الوضع الإنساني الخطير في غزة، إضافة إلى العمل على تخفيف التوتر بين الطرفين، وخلق الظروف «التي يمكن، مع مرور الزمن، أن تعزّز من فرص المفاوضات السياسية».
وشدّد بلينكن على أهمية التعاون مع السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة، ووضع آلية دولية لا تسمح لحركة حماس الاستفادة من المساعدات المُقدمة لإعادة الإعمار. وبعد جولته التي شملت إسرائيل والأراضي الفلسطينية ومصر والأردن، أعرب مسؤولون أميركيون عن أملهم بإشراك الأردن ومصر في إيجاد الحلول المناسبة للقضايا التي أثارت الاحتجاجات الفلسطينية الأخيرة، إضافة إلى إشراك قطر في المساهمة المالية في إعادة بناء ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية.
وكانت واشنطن أعلنت في نيسان/ أبريل الماضي، عن تقديم مساعدات للفلسطينيين بقيمة 235 مليون دولار، واستئناف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وإعادة مساعدات أخرى كان أوقفها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
وإلى ذلك، فقد أكد بلينكن خلال جولته على أن الإدارة الأميركية سوف تعيد فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، ومكتب التمثيل الفلسطيني في واشنطن، (بعد التغلب على العقبات القانونية التي تعيق ذلك)، ولكن من دون أن يعطي أية إشارة إلى أنّ هذه الخطوات يمكن أن تفضي إلى مراجعة اعتراف إدارة ترامب بالقدس الموحدة عاصمة لدولة اسرائيل، ومراجعة نقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب الى القدس.
وفي مؤشر على استمرار المراوحة في مربع إدارة الصراع وليس السعي إلى حله، وبأن إدارة بايدن ليس لديها أي رؤية استراتيجية في هذا الشأن، في الوقت الذي لم يكن إعادة إحياء المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين مدرجا على أجندتها أصلاً!. فإن بلينكن وعلى رغم تأكيده على مبدأ «حل الدولتين»، إلا أنه استبعد قيام أيّ مفاوضات سياسية بشأن ذلك، وأعلن أنّ هذا «ليس الأولوية الملحة على جدول الأعمال الآن»، وبأنّ «علينا أن نبذل جهودا كبيرة للوصول إلى تلك النقطة».
وقد ربط بلينكن إمكان التمهيد لبناء أفق سياسي يسمح مستقبلا البحث في تسوية سياسية للصراع على أساس ما يسمى حل الدولتين، بتشكيل حكومة فلسطينية تكون مقبولة دولياً، وتعمل على وقف الحروب مع دولة الاحتلال وتحاصر حماس، أي حكومة تكون أداة طيعة بيد المحتل الإسرائيلي وحليفه الأميركي.
حدود التدخل الأميركي
ورأى مراقبون أنّ إدارة بايدن يمكن أن تطلب من إسرائيل (دون أن تضغط عليها بالقدر الكافي) احترام الوضع القائم في المسجد الأقصى وإلغاء قرار إجلاء العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جراح. وقد تطلب كذلك وقف الأعمال الاستفزازية للمستوطنين في القدس الشرقية والضفة الغربية، وغيرها من الإجراءات التي تهدف إلى احتواء العنف، ولكن من دون العمل الجدي على توفير أفق ومسار حقيقي يُفضي لتسوية سياسية.
وعلى ذلك، فإن زيارة بلينكن إلى المنطقة لا تعتبر، في نظر كثير من المحللين، مؤشراً إلى عودة الاهتمام الأميركي بالمنطقة وصراعاتها، خصوصاً وأنّ الرئيس بايدن لم يُبدِ منذ وصوله إلى البيت الأبيض أي اهتمام بها. وقد تجاهل الشرق الأوسط على نحو شبه تام في خطاب حال الأمة، (نيسان/ إبريل الماضي).وما خلا إحياء المفاوضات النووية مع إيران، فإنه لم يكترث بأيٍّ من الملفات الأخرى، مثلما لم يكن على قائمة أولوياته أبداً الدفع بما يطلق عليه الإعلام الغربي «عملية السلام» المتعثرة والمتوقفة منذ سنوات بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وعزا البعض عدم رغبته في الانخراط في أية مفاوضات جدية لحل القضايا الجوهرية في المنطقة، إلى أنه يريد تجنب الانزلاق مرة أخرى إلى مستنقع الشرق الأوسط، وبأنه لا يودّ أن يقامر برصيده السياسي في مفاوضات يَعتبر أن الظروف ليست مؤاتية وغير ناضجة لها، وأن فرص نجاحها شبه معدومة في الوقت الحاضر.
ولعلّ أقصى ما تطمح إليه إدارته على هذا الصعيد، هو الإبقاء على نافذة مفتوحة، لما يسمى «حل الدولتين»، في المستقبل. وذلك من خلال رفضها لمشاريع الضم الإسرائيلي لأجزاء من الضفة الغربية، ومعارضة التوسع الاستيطاني، ولكن من دون اتخاذ أية خطوات عملية لإجبار إسرائيل على الالتزام بذلك.
يجدر بالذكر أنّ الحديث الأميركي عموماً عن «حلّ الدولتين» لا يتضمن أية أسس أو تصورات واضحة ومحددة لترجمته العملية على أرض الواقع، خصوصاً في ظل التعنت والرفض الإسرائيلي للمبادئ والقوانين الدولية ذات الصلة، إضافة إلى تواطؤ الإدارات الأميركية المتعاقبة مع إسرائيل، وأقلّه عدم استعدادها لممارسة أية ضغوط حقيقية عليها، هذا فضلاً عن أنها تعتبر أن «حل الدولتين» يستوجب إقرار الفلسطينيين والعرب بإسرائيل كـ«دولة يهودية» أولاً. وقد أكد الرئيس بايدن أخيراً بأنه ما لم تقل «المنطقة بشكل لا لبس فيه إنها تعترف بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية مستقلة، فلن يكون هناك سلام»!.
ملامح السياسة المتوقعة
يطرح كثيرون، داخل أميركا وخارجها، ضرورة عودة الدور القيادي لأميركا في ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وسط تغيّرات ملحوظة في مزاج الأميركيين، وفي «الحزب الديمقراطي» خاصة لصالح الفلسطينيين.
وقد تعرضت إدارة بايدن أخيراً إلى انتقادات غير معهودة من الجناح التقدمي واليساري في قاعدة الحزب الديمقراطي. وطالب نواب بارزون في مجلسي الكونغرس؛ (من بينهم بيرني ساندرز، وكريس فان هولن، وإليزابيث وارن، إضافة إلى رشيدة طليب وإلهان عمر وكوري بوش وغيرهن)، من الرئيس بايدن «اعتماد سياسة متوازنة أكثر تجاه الفلسطينيين واحترام حقوقهم الشرعية»، ووصف السناتور ساندرز سياسات حكومة نتنياهو بالعنصرية.
و دعا بعضهم بوضوح إدارة بايدن إلى العمل من أجل حلّ «طويل المدى للصراع القائم، والضغط من أجل سلام دائم للإسرائيليين والفلسطينيين»، وذلك من خلال «معالجة جذور العنف والعمل باتجاه حل الدولتين وإنهاء الحصار والاحتلال»، كما غرّد السيناتور رو خانا على «تويتر».
ويرى هؤلاء النواب وغيرهم، أنه في غياب دور فاعل للولايات المتحدة، فليس علينا أن ننتظر سوى «المزيد من دوامات العنف وإراقة الدماء، في ظل تمدّد حاد لليمين القومي والديني في إسرائيل، وأيضاً في ضوء الشعور المتزايد لدى جيل جديد من الفلسطينيين بخيبة الأمل، والحاجة إلى تحدي الوضع القائم بشتى الوسائل».
وفي المقابل، فإن الرئيس بايدن لا يُخفي انحيازه المطلق لإسرائيل. وينصّ برنامج سياسته الخارجية صراحة على «الالتزام الصارم بأمن إسرائيل». كما أن برنامج الحزب الديمقراطي يرفض وصف الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بـ «المحتلة»، على رغم حديثه عن «حل الدولتين».
وقد يشجع بايدن على استمرار وتعزيز التطبيع بين إسرائيل ودول عربية، قبل حل القضية الفلسطينية، ولكن أغلب الظن أن لا يفعل ذلك بالحماس ذاته الذي كان لدى ترامب وإدارته، ومن دون محاولة ابتزازها للقيام بذلك، كما حصل مع السودان، حيث كان التطبيع مع إسرائيل شرطًا لرفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب وإلغاء العقوبات المفروضة عليه.
يجدر بالذكر أنّ إدارة ترامب السابقة كانت عملت على محاولة فرض أمر واقع لصالح إسرائيل بما يتصل بقضايا «الوضع النهائي»؛ مثل القدس واللاجئين والسيادة والأرض والمستوطنات، من دون العودة إلى الفلسطينيين. وعندما رفضوا خطته عاقبهم ترامب بقطع التمويل عن أونروا، ثمّ أوقف المساعدات الإنسانية عنهم، وأغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وعمل على تهميشهم في سياق اتفاقات تطبيع عربية - إسرائيلية.
وعلى العموم، فإنّ مقاربة بايدن للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ستكون مختلفة عن تلك التي اعتمدها سلفه ترامب. ويُرجّح المراقبون أن يعود إلى ممارسة السياسة التقليدية للولايات المتحدة التي تقوم على أن أيّ حل للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ينبغي أن يكون تفاوضياً، ويقوم على معادلة «الأرض مقابل السلام، وحل الدولتين». ولكن مع التشديد على أنّ حلّ القضية الفلسطينية لن يكون أولويةً بالنسبة إلى إدارته، وخصوصا في ظل التحدّيات الكبرى التي تواجهها داخليا وخارجيا.
أولويات أميركية مختلفة
ومنذ مجيء الرئيس الديمقراطي الأسبق، باراك أوباما، بات من الواضح تغيّر الأولويات الأميركية في سياسات واشنطن الخارجية، وانتقال مركز اهتمامها إلى جنوب شرق آسيا والشرق الأقصى، لمواجهة النفوذ الاقتصادي والاستراتيجي المتنامي للصين، بوصفها التحدّي الرئيسي للمصالح الأميركية على مستوى العالم، وذلك بالتزامن مع تناقص الاعتماد الأميركي على مصادر الطاقة في الشرق الأوسط.
وإلى جانب الصين، تتمحور أبرز أولويات الإدارة الأميركية الجديدة على روسيا والعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران. وهي تريد تلافي أية أزمات أخرى يمكن أن تحوّل انتباهها عن هذه الأولويات. ولذلك فهي تسعى إلى تخفيف الالتزام الأميركي في منطقتنا التي تعتقد أن الاستثمار فيها جاء بنتائج عكسية. ويلاحظ المتابعون أنّ التوجه الأميركي ينصبّ حاليا على تهدئة أو تجميد الصراعات في المنطقة، من منطلق أن الصين تستغل انشغال واشنطن بها لتصعد في غفلةٍ منها.
ولهذه الأسباب وأسباب أخرى عديدة، سعت الولايات المتحدة إلى الانسحاب من أفغانستان، وستنسحب كذلك من العراق وسوريا، حسب كثير من المؤشرات، وتُخفّف من وجودها العسكري في منطقة الخليج، وتتخرط في مفاوضات لإحياء الاتفاق النووي الإيراني. كما تعمل على تخفيف التوتر السعودي - الإيراني من خلال إنهاء حرب اليمن، من دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى حل الأزمة اليمنية. وينسحب هذا التوجه على بقية الساحات الساخنة والأطراف الإقليمية الفاعلة فيها، التي ترى واشنطن أن لا مصلحة كبيرة لها فيها، وأنّ البحث عن أي حلٍّ سياسي فيها يحتاج وقتا وجهدا وموارد ليست مستعدّة لبذلها.
وفي كل الأحوال، يجدر بالفلسطينيين وبقواهم الوطنية عدم الرهان مجددا على المواقف والسياسات الأميركية، والتعويل على دور بناء ومختلف للإدارة الأميركية الحالية، والتركيز بدلا من ذلك، على تعديل ميزان القوى على الأرض (المائل بصورة ساحقة لصالح إسرائيل المتفوقة عسكريا والمدعومة من العواصم الكبرى في العالم، على النحو الذي يجعلها تشعر بعدم الحاجة إلى تقديم أيّ تنازل)، وتطوير أدوات وأساليب النضال ضد الاحتلال، والاتفاق على استراتيجية موحدة ومتفق عليها بين مختلف القوى الفاعلة، والسعي إلى الارتقاء بالحالة الجماهيرية العفوية التي صاحبت الأحداث الأخيرة إلى حالة منظمة تؤطرها وتقودها قيادة وطنية موحدة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت