هموم نقدية

بقلم: نبيل عودة

نبيل عودة
  • نبيل عودة

"الشعر هو الذي يعيد الحياة الى اللغة"

الجملة أعلاه قالها الشاعر الفلسطيني محمود درويش، في حوار جرى معه قبل سنوات عديدة.

ربما لو عاش حتى اليوم ليرى ان بحر الشعر الهائج اليوم، بدأ يتحول الى مقبرة للغة الشعرية ولجمال المبنى اللغوي، ولجمالية المعاني والاحساس باللغة نفسها، لأنكر ما يسمى شعرا.

 لا اتحدث عن الفكر وراء ما ينشر من نصوص تحمل اسم الشعر، قد يكون موزونا على بحور الخليل او مجرد صياغات عمودية بلا حس لغوي وبلا معاني تشد انتباه القارئ، لدرجة أني اكاد اجزم ان عدد القراء الذين ينهون قراءة نص من هذا النوع لا يتعدى أصابع اليد الواحدة.

للأسف اكاد أقول بلا وجل ان الشعر يتحول لدى أوساط تزداد عددا الى مقبرة للغة ولجمالية المعاني!

قديما أطلق محمود درويش صرخته المحذرة بمقال افتتاحي في مجلة "الجديد" الثقافية التي كان يحررها في حيفا، بعنوان لمقال كتبه: "أنقذونا من هذا الحب القاتل" وذلك تنبيها للحب الجارف لعالمنا العربي لشعر المقاومة الفلسطيني، الذي كشف عنه الأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، اذ لاحظ درويش ان الشعر أصبح المعشوقة لكل من يخط حرفا ادبيا من بين أبناء شعبنا الفلسطيني بمناطق 48، وحتى لو افتقد لموهبة كتابة انشاء صحيح، الا انه يريد ان يصبح شاعرا!!

أقول بلا تردد اليوم انه كلما ازداد عدد ناظمي الشعر في بلادنا على الأقل، وبغض النظر عما يميز الكثير من النقد (النقد مجازا) من استعراضات عضلية بعيدة عن بديهيات النقد، كلما تعمق هروب القراء من قراءة الشعر، رغم أني لا انفي ان بعض ما ينشر يرتقي بشكل او آخر لمستوى الشعر الجيد، لكن الفيض بلا ضوابط شعرية، وبغياب النقد الصريح والجاد وليس التطبيل والتزمير لكل ما يصدر من شعر، يقتل الجيد أيضا، غرقا بنصوص لا تستحق اسم الشعر حتى لو اكتمل فيها الوزن والصياغة اللغوية.

طبعا بعض ما ينشر مغتصبا اسم الشعر يمكن ان يقرأ أيضا من النهاية للبداية ولن يتغير المعنى، لأنه أصلا لا معنى للنص.

اعترف أني مستاء جدا من الفوضى الثقافية، من معظم ما ينشر باسم النقد، حاولت قبل سنوات ان أقف بالمرصاد لبعض النصوص واصحابها، لنقاد يحتلون ساحة النقد شكليا رغم الألقاب العليا التي يمهدون بها لأسمائهم، لكن تبين لي ان جهودي تذهب جفاء، ولن اكسب الا العداء، وانا كل هدفي التنبيه حتى لا يتحول الأدب، والشعر خاصة، الى مهزلة وملعب لمراهقين ادبيا ونقديا.

للأسف الكلمة الصادقة، حتى لو كان فيها تجاوز ما، يمكن ان تناقش، اما الرد العشوائي لأني لم أجد شعرا او نقدا يستحق التسمية، حسب رأيي الشخصي، فهذا تجاوز لكل الفكر الثقافي.

كنت قد شاركت بأمسية ثقافية، في صالون ثقافي تديره الشاعرة نهى قعوار في الناصرة، استمعت فيها لشعر أستاذ بدأ يكتب الشعر بعد تقاعده، واعترف انه ملم ببحور الخليل وبنحو وقواعد اللغة بمستوى سيبويه، واختار ان يقرأ لنا نصوصا من شعره السياسي الذي ميز مرحلة شعرنا التي عرفت بشعر المقاومة، لا شك انه متمكن لغويا وبحورا وصورا، لكنه نسي ان ما كان رائعا قبل خمسين سنة ومذهلا بقوة تحديه للواقع الذي ساد مجتمعنا العربي ، بمواجهة السياسات العنصرية والارهابية الصهيونية ، ومصادرة الأرض والتشريد وتقييد التنقل والتحكم حتى بلقمة الخبز، والحرمان من الحقوق الأولية كمجتمع بشري، لا يمكن تكراره ثقافيا. بتجاهل للمرحلة التاريخية الهامة ثقافيا وسياسيا التي ميزت شعر المقاومة، تكرارها بنفس المضامين هي مهزلة. فهل نام صاحبنا ستة عقود ليكتشف انه شاعر ووطني ليكتب مثل هذه القصائد في واقع تغير بسبب صمودنا ونضالنا والثمن الذي دفعناه بحريتنا ودفاعا عما تبقى لنا من ارض، وحقنا بالعمل ووقف سياسات التمييز العنصرية؟ والسؤال الذي غاب عن بال ذلك الشاعر، ان شعر المقاومة ارتبط بتاريخ سياسي وثقافي لم يعد قائما، ونفس شعراء المقاومة انتقلوا الى مراحل جديدة إنسانية وجمالية تجاوزت الصبغة القومية التي طبعت شعرهم في فترة زمنية محددة سياسيا وادبيا ولا يمكن تكرارها بنفس المضامين.

كلامي لم يعجبه ورد على ملاحظاتي بهجوم صبياني تجاهلته. وانا لم اقصده كشخص بقدراته اللغوية والصياغية، بل ككتابة أرى نهاية لمضامينها ومبناها الفكري والشعري وحتى السياسي طبعا.

لم اتعود ان أخون نفسي ومواقفي الفكرية والنقدية، إذا لم اقتنع بالمرافعة – أي العمل الادبي، والموقف التحليلي للنص الأدبي وعلاقته بالواقع المتغير. فلن اتردد من قول رأيي بغض النظر عن قدرات صاحب النص اللغوية والصياغية.

كتبت مرات عديدة عن النقد ومكانته وعن مشكلة النقد في ادبنا المحلي وفي الآداب العربية عامة.

قلت مرات عديدة ان المشكلة تتعلق بغياب نظرية نقد عربية، لكن هذا لا يعني ان النقد ظل منعزلا عن الابداع الأدبي. هناك مراجعات ودراسات نقدية ارست القواعد لنشوء نقد عربي، مثلا المنهج النقدي لمحمد مندور ولمارون عبود ومحمود امين العالم وغيرهم. البعض يرى بهذه المدارس، خاصة نهج مارون عبود، كتابة أقرب للنصوص الأدبية، لكن غاب عن بالهم ان النقد هو فن ادبي. والسؤال الهام هنا هل ظهرت دراسات نقدية في ادبنا تتجاوز هذه المدارس؟ ربما لست مطلعا كفاية على ما ينشر، ولكن بكل ما وقع تحت يدي من كتب نقدية لم أجد ما يتجاوز هذه المدارس فكرا ونقدا رغم وجود أسماء أخرى لها مكانتها النقدية، لكنها كما يبدو لا تثير اهتمام دور النشر من ناحية ربحية.

ولا بد ان انوه الى مدرسة محمود امين العالم أيضا، بتميزها انها مدرسة تنتمي للتيار الماركسي المتجدد والذي طرح رؤية فلسفية أيضا بكل ما يخض النظرية الماركسية وبناء النظام الاشتراكي، والفكر الأدبي، ربما لهذا السبب غيب عن التداول الواسع في المجتمعات العربية.

وأود ان أقول إني عادة اعود لمارون عبود ومدرسته النقدية الإبداعية التي تأسر القارئ بأسلوبها وعمقها الثقافي وصورها النقدية التي تجعل نقده موازيا حتى للنصوص الإبداعية غير النقدية.

انا شخصيا اعود دائما بلا كلل الى مارون عبود، الى مدرسته العبقرية في النقد والابداع، وأظن ان أكبر مكسب للثقافة العربية هي مدرسة مارون عبود النقدية، للأسف غاب مارون عبود، ولكنه أرسى نهجا نقديا واسلوبيا ليس من السهل ان يتكرر مع ناقد آخر بمثل هذا الزخم الثقافي الموسوعي. كان مارون عبود موسوعيا في ثقافته، وتتميز شخصيته بروح المبدع الفنان التي طغت على كل كتاباته، تقرأ نقده وكأنك تعيش بأحداث روائية. مدرسة عبود لم تكن نقدا بالمفهوم الدارج عن النقد، بل إبداعا بأسوبه النقدي بحيث ينقلك الى عالمه المسحور بالثقافة والفن بأرقى صوره الأدبية.

مدرسة عبود هي ظاهرة عبقرية وفريدة من نوعها، وليس من السهل ان تتكرر، لكن هناك إمكانية لتحويلها الى مدرسة نقدية ثقافية، بالمضامين التحليلية للنصوص وأسلوب عرضها وتحليلها، ولا أرى مستقبلا للنقد العربي بدونها. وهنا يلزمني التنويه الى ضرورة التخفيف من فذلكات المدارس النقدية واصطلاحاتها المستوردة التي تطورت في آداب اجنبية تختلف مضامينها الفكرية والثقافية والفلسفية (لأن النقد فلسفة أيضا) فاتنا اللحاق بها، نتيجة الاوضاع السياسية والفكرية التي تعيق تطور مجتمعاتنا، ربما ليس بالصدفة ان مدرسة مارون عبود وادباء المهجر وأبرز المثقفين العرب كانوا من لبنان. حيث مساحة الحرية والديموقراطية أكثر اتساعا من سائر الدول العربيةـ فهل بالصدفة ان اللبنانيين اسسوا اهم الصحف المصرية وان المسرح المصري بدأ بهم في مصر وان دور النشر والصحافة أيضا بدأت مع اللبنانيين وان الشعر تطور في لبنان قبل ان يخترق الثقافة العربية التقليدية الغارقة بفكر مغلق؟

للأسف انقطعنا عن تاريخنا ولم نتواصل معه، وبتنا نردد مقولات تاريخية أشبه بالبكاء على الاطلال. بينما ارادتنا كشعوب عربية مسلوبة بفعل أنظمة الفساد، التي لم نتخلص منها حتى اليوم وما تزال تعمق الضياع العربي في عالمنا.

حتى لغتنا تعاني من قصور نتيجة خضوعها لقواعد ونحو وضع قبل قرون. بمقارنة اجراها بروفسور سليمان جبران رئيس قسم اللغة العربية سابقا بجامعة تل ابيب، بين العربية والعبرية، نجد ان العبرية أصبحت لغة تصلح للترجمات من اللغات الأجنبية بلا مشاكل ولغتنا تواجه إشكاليات تصعب على المترجمين وبعض الترجمات التي نفذها لغويين كبار لا تفهم حتى للمثقفين، مثلا ترجمة كتاب "الاستشراق" لادوارد سعيد، قال عن ترجمته مثقفين من لبنان بوضوح ان ترجمته عربية تحتاج الى ترجمة عربية أخرى، وانا شخصيا لم انجح بقراءة الترجمة العربية المعقدة والمرهقة، فقرأت الكتاب باللغة العبرية، وزملاء مثقفين أخبروني انهم قرأوه باللغة الإنكليزية لصعوبة الترجمة العربية.

هل بالصدفة ان تتحول لغة الصحافة الى أكثر لغة مفهومه ومستعملة في المجتمعات العربية حتى لو رفضت مجامع اللغة بعض تعابيرها وتركيباتها الصياغية؟

هناك بحث أجرته طالبة جامعية تونسية كما اذكر لشهادة الدكتوراه بإحدى الجامعات الأمريكية عن واقع اللغة العربية في العالم العربية، تبين ان 60% - 70% من المواطنين العرب لا يفهمون حتى لغة الصحافة المستعملة بكل وسائل الاعلام، وان السائد هي اللهجات المحلية التي لا يُفهم معظمها الا بمناطق استعمالها.

وملاحظة أخيرة: انت عزيزي القارئ المعيار الصحيح للأدب الجيد. المشكلة ليست في فهم النص او مفرداته، بل في فشل النص نفسه من التواصل معك ثقافيا واجتماعيا ولغويا.

[email protected]

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت