قمة بايدن – بوتين والسلام البارد

بقلم: سنية الحسيني

سنية الحسيني
  • د. سنية الحسيني

لم يكن من المتوقع أن تنتج عن قمة بايدن - بوتين أمس، اختراقات كبيرة أو لحظية، لكن مجرد اللقاء بين الرئيسين بشكل ودي يمكن أن يحمل الكثير من النتائج المستقبلية المأمولة. يأتي ذلك اللقاء بين جو بايدن رئيس الولايات المتحدة والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ظل أجواء متوترة في علاقة البلدين، وعلاقة الرجلين أيضاً على المستوى الشخصي، الا أنه يأتي أيضاً في ظل حاجة البلدين إلى خط تفاهمات لاحتواء أضرار قد تصبح أشد وطأة، في لحظة يصبح من الصعب تدارك تبعاتها. وتأتي زيارة بايدن ذات الأيام الثمانية، إلى لندن وبروكسيل وجنيف، لعقد لقاءات متتالية مع مجموعة السبعة الكبار وأخرى فردية مع قادة الاتحاد الأوروبي، ومع القادة الثلاثين لحلف الناتو، وأخيراً مع الرئيس بوتين لتعكس مسار السياسة الخارجية الأميركية في السنوات القادمة. وعلى الرغم من دعوة بايدن لروسيا في قمة الناتو للتراجع عن أعمالها الاستفزازية التي وصفها بالخبيثة، وهو أيضاً ما اشتمل عليه بيان الناتو، الا أنه من الواضح أن واشنطن باتت تميل باتجاه عقد سلام، حتى وإن كان سلاماً بارداً مع موسكو، لمواجهة الصين، عدوها الاستراتيجي الأساس. وكان بايدن قد بدأ عهده الرئاسي باستعداء روسيا إلى جانب الصين، مخالفاً بذلك توجهات الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي شهدت حقبته علاقات جيدة مع روسيا.

 

بدأ بايدن حقبته الرئاسية بعداء معلن شديد اللهجة ضد روسيا، استدعى رداً مشابهاً من قبل روسيا أيضاً. ووجه تقرير صدر عن المخابرات الأميركية الاتهام المباشر للرئيس الروسي بوتين بتورطه في التأثير على نتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة لصالح ترامب. ورغم انكار بوتين ذلك، الا أنه لم ينكر دعمه لترامب عموماً. كما رفضت واشنطن الاعتراف باحتلال روسيا لشرق أكرانيا وضمها للقرم، وتعتبر روسيا مناورات حلف الناتو في شرق أوروبا تهديداً لها ويأتي بدعم من بايدن. وفي خطوة تصعيدية جديدة، نشرت روسيا مؤخراً عشرات الآلاف من جنودها على حدود أكرانيا. وتتهم الولايات المتحدة والدول الغربية روسيا بالوقوف وراء حملات القرصنة الالكترونية التي تتعرض لها واشنطن وبلدان غربية أخرى منذ العام الماضي. وتنكر روسيا ذلك الاتهام، وتتهم الولايات المتحدة بالمقابل بمسؤوليتها عن أعمال قرصنة مشابهة وجهت ضدها، وتدعو لتوقيع على اتفاقية مع واشنطن تحد من هذه الاعمال. كما أشارت الولايات المتحدة والدول الغربية بأصابع الاتهام إلى روسيا وحملتها المسؤولية عن محاولة تسميم المعارض الروسي اليكسي نافالني في شهر آب الماضي، وصلت إلى حد فرض عقوبات على عدد من المسؤولين الروس وكذلك مؤسسات  تدعي واشنطن تورطها في تلك المحاولة وفي إنتاج مواد كيميائية سامة. وتقف واشنطن ضد احتجاز موسكو للمعارض نافالني، واحتجاز مئات المعارضين الآخرين، وتدعو للإفراج عنهم. وترفض موسكو تلك التدخلات الغربية، معتبرة أن ذلك يدخل في صلب قراراتها الداخلية. وصلت المواجهة بين البلدين حداً أكد فيه بايدن على وصف بوتين بالقاتل في شهر آذار الماضي، الأمر الذي اضطر روسيا لاستدعاء سفيرها من واشنطن للتشاور، لتبدأ معها فترة من المناكفات المتبادلة والتضييق وتقليص عمل الدبلوماسيين في البلدين. 

 

ورغم ذلك يبدو أن واشنطن تراجعت مؤخراً عن حملتها المعادية لروسيا، فقد أعلن البنتاغون والحكومة الأميركية عن إستراتيجيتها القادمة لمواجهة الصين، باعتبارها التحدي المركزي للولايات المتحدة خلال هذا القرن. ووافق الكونغرس قبل أيام على تخصيص ٢٥٠ مليار دولار في ميزانية العام المقبل لتطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والروبوتات وصناعة أشباه الموصلات لمجابهة الصين. وخلال الاجتماعات التي عُقدت في بريطانيا وبروكسل مع زعماء مجموعة السبع وقادة حلف الناتو، ظلت الصين في مقدمة اهتمامات بايدن، حيث أكد قادة الحلف في بيانهم الختامي على اعتبار أن طموح الصين وسلوكها يمثل تحديا للنظام الدولي القائم. ورغم أن عداء واشنطن لبكين ليس جديداً، فأنفقت الولايات المتحدة ١٩ تريليون دولار على جيشها منذ نهاية الحرب الباردة، بما يزيد على ما أنفقته الصين بحوالي ١٦ تريليون دولار، وبما يعادل ما أنفقته بقية دول العالم مجتمعة خلال نفس الفترة، وعلى الرغم من ذلك يعتقد العديد من الخبراء الأميركيين أن بلادهم على وشك خسارة حربها مع الصين، مؤكدين أنه في غضون ست سنوات فقط سيتفوق الجيش الصيني على نظيره الأميركي، ما سيستدعي تغيير الوضع الراهن بالقوة في شرق آسيا. ويزداد هذا الخطر تفاقماً على الولايات المتحدة في ظل التطور الملحوظ في علاقات روسيا والصين، والتي وصفها بوتين مؤخراً بأنها الأفضل على مستوى تاريخ علاقة البلدين. واعتبر زيغيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي السابق بأن أسوأ سيناريو يمكن أن تتعرض له الولايات المتحدة هو تحالف قوى بين روسيا والصين، في ظل إدراك البلدين للاهمية الاستراتيجية لكل منهما تجاه الآخر في مواجهة سياسة الولايات المتحدة المنافسة للبلدين.  

 

تمتلك روسيا العديد من عناصر القوة  الإستراتيجية التي استطاعت حشدها خلال السنوات القليلة الماضية، والتي أجبرت إدارة بايدن الآن لإعادة التفكير في علاقتها معها. ولا تطمح الولايات المتحدة بالطبع إلى تحويل حالة العداء التاريخي والتنافس المستشري الآني بينها وبين روسيا  إلى حالة من التحالف والاتفاق، وتقبل في سبيل احتواء الخطر الصيني بسلام بارد معها، يحقق اختراقات جزئية في العديد من الملفات التي تمتلك روسيا مفاتيحها. كما تطمح روسيا لتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة ورفع العقوبات عنها، وهو ما أعلنه الكرملين صراحة. ويبدو أن فريق بايدن اختار أن يذهب رئيسهم للقاء بوتين أمس ضمن ترتيب متسلسل مقصود يعكس عودة الولايات المتحدة لممارسة دورها القيادي والالتفاف الغربي حول توجهاتها. بالإضافة إلى علاقاتها النامية بالصين، تمتلك روسيا علاقات طيبة متطورة مع إيران، قد تساعد في مساعدة الولايات المتحدة في استعادة الاتفاق النووي معها. وفي ظل توجهات الولايات المتحدة للانسحاب من أفغانستان، التنسيق مع روسيا قد يقلل من فرص استعادة طالبان لموقعها وسلطتها في البلاد. ولا يخفي النفوذ الذي حققته روسيا في سورية بدعمها لبقاء الرئيس بشار الأسد، حيث بات الفيتو الروسي والصيني المهدد بالسماح بإبقاء منفذ المساعدات الأخير بين سورية وتركيا مفتوحاً، مهدداً لنفوذ الولايات المتحدة في سورية من أساسه. 

 

جاء لقاء بايدن – بوتين أمس لفتح آفاق التعاون وليس لإحراز نتائج آنية.  إن كل ما يمكن أن يحققه بايدن في علاقته مع روسيا في المستقبل المنظور هو سلام بارد يضمن على المستوى المحدود إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وتبادلاً محتملاً لمعتقلي البلدين. ويمكن على مستوى أعلى أن يحقق السلام البارد نوعاً من التعاون في ملفات أكثر أهمية وأشد حساسية، كالحد من خسارة النفوذ الأميركي في سورية، والمساعدة في الوصول لاختراق في البرنامج النووي الإيراني، وإبرام معاهدة ثنائية بين البلدين لتخفيض تطوير الأسلحة الإستراتيجية النووية، وضمان التعاون فيما يتعلق بمشكلة تغير المناخ، والحد من الحروب الإلكترونية. إن فكرة السلام البارد هي استعارة جيدة من أجل إيصال العلاقة إلى مكان للتفاهم بين البلدين، وهو ما أحرزته الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في الماضي خلال الحرب الباردة. فهل تنجح محاولات الولايات المتحدة هذه المرة، وهل ستستطيع سد كل هذه الثغرات في سياستها الخارجية؟ الأيام وحدها يمكن أن تجيب.

 

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت