- د. زهرة خدرج
- كاتبة وأخصائية بيئية
منذ كنت طفلة، ومن فوق سطح بيتنا، كنت أشاهد منطقة مرتفعة تحجب شروق الشمس عنا، تجثم فوقها بيوت غريبة الشكل تتشابه حدَّ الملل.. كانت جدتي تشير لها من بعيد بإصبعها قائلة: هذا الجبل جبلنا، كان مزروعاً بالتين والعنب والمشمش وتزينه أيضاً أشجار الزيتون.. وقبل أن تُكمل جدتي حكايتها في كل مرة تتدافع العبرات وتخنقها.. فتصمت باكية.. فتنهض الطفلة داخلي وتطنب في السؤال والاستفسار عما جرى تحديداً آنذاك.. حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن.. كيف فقدنا الأرض، وكيف شُوِّهت السهول ومُضغت الجبال واقتُلع الزيتون وحُرق اللوز وقُتلت البلابل وأُريق دم الحنون!
نسيت أن أخبركم أنه في ذات ظهيرة غبراء.. هاجم غرباء مدججون بالسلاح جدي وكان يحصد خيرات أرضه.. سُلب منا الجبل، واستشهد جدي!
لم تتوقف هذه الحكاية التي تختزل ما جرى بذات التفاصيل واختلاف المسميات إلى هنا..
أعلنوا فلسطين أرضاً محتلة عام 1948 رغم أن فكرة الدولة اليهودية وُلدت قبل ذلك بكثير وجُندت لها الطاقات والعقول تخطط وتيسر وتُسخِّر لها الإمكانيات ليتم التنفيذ ويسيطروا على الأرض بشتى السبل مهما كانت حتى القذرة منها! ألا تبرر الغاية الوسيلة من منظورهم؟ فكيف إذا كنا نتحدث عن خلق دولة من العدم إذن؟
وبدأ فصل جديد من انكسارنا وشتاتنا ما يزال مستمراً حتى الآن.
وفي حزيران 1967احتلوا ما تبقى من الأرض، فتتوا بلادي، وأنشأوا ما أصبح اسمه الضفة الغربية وقطاع غزة، الذي أخذت أراضيه تتقلص وتتلاشى لحساب مستوطناتهم التي تتضخم مثل ورم خبيث وتلتهم أراضينا بوقاحة وبلطجة!
جبال في خطر.. القمم تستغيث
" أحط ثم تغلغل" هذه هي القاعدة التي يسير عليها المحتل للسيطرة على الأرض.
انطلِقْ مُتَنقِّلاً في الطرق المحاذية لجبال نابلس والقدس وبيت لحم ورام الله والخليل، الممتدة من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها.. كن يقظاً، ولا تدع أي من التفاصيل المهمة تفوتك، وانتبه جيداً إلى رؤوس الجبال.. سيلفت انتباهك تجمعات استيطانية تُحكم حبال مشانقها حولها، تخنقها وتحاول الفتك بها! تغرس فوق صخورها الجيرية وتربتها الخصبة بيوتاً غريبة الشكل، نشاز، لم تتجانس يوماً مع النمط العمراني في بلادي..
ما من مناطق تجذبهم في الضفة ليصادروها ويقيموا على أرضها مستوطناتهم ومعسكراتهم أو حتى محمياتهم الطبيعية المدَّعاة، أكثر من قمم الجبال.. فماذا يريدون تحديداً من وراء هذا التشويه والانتشار؟ فليرفعوا دنسهم عن جبالنا وليتركوها تعانق السماء بطهر ونقاء!
في تسعينيات القرن الماضي، دعا أرئيل شارون جماعات فتيان التلال (وهم مجموعة متطرفة من طلبة المعاهد الدينية في المستوطنات ولا يزيد عمر الواحد منهم عن 16سنة "ليكون تحت السن القانوني؛ فلا يجري عليه القانون فتتم محاسبته حتى ولو صُوَرياً"، رغم أنهم مدعومون من أعلى المستويات في دولة الاحتلال، يتواطؤون معهم ويشدُّون على أياديهم) إلى اعتلاء قمم الجبال، ووضع بذور مستوطنات عليها. أُقيمت بناء على هذه الدعوة نحو 100 بؤرة استيطانية.. دون أن يتوقف النهب حتى اللحظة!
تبدأ البؤرة الاستيطانية عادة، بارتياد المستوطنين لقمة الجبل الذي ينوون السيطرة عليه تحت دعاوي شتى، أحدها أنها مجرد زيارات عشوائية للتنزه أو الاستكشاف مثلاً، تتحول بعد ذلك إلى زيارات منتظمة، يبدؤون بعدها بإحضار أمتعة ومنازل متنقلة ثم يحيطون المنطقة بسياج لتحديدها، وعادة ما تتكون البؤرة الاستيطانية من بضع أفراد أو عائلة واحدة. يلي ذلك الخطوة الأخطر حين تهرع الجرافات لشق طريق للبؤرة الاستيطانية وتعبيدها وتمهيد الجبل ليصبح منطقة سكنية للمستوطنين.. تسقط قمة الجبل بيد الاحتلال الذي يفترض أن له الحق الكامل في فعل ما يشاء متجاهلا أي احتجاج شعبي أو قانوني من أصحاب الأرض.
ويبدأ بعدها التوسع وصولاً إلى الذروة حين تُصبح البؤرة الاستيطانية مستوطنة كبيرة لا ينقصها أي من مقومات كبرى المدن..
يُعادي المستوطنون المدججون بالسلاح الأشجار، فقد اقتلعوا نصف مليون شجرة شكَّل الزيتون منها نسبة 70%، وأغلقوا مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية ومنعوا أصحابها من دخولها وممارسة عملهم الزراعي فيها تحت حجج وذرائع أمنية واهية..
فالاستيلاء على القمة يعني بالتأكيد الاستيلاء على المنطقة المحيطة جمعاء بلا منازع، فالقمم تكشف المناطق المحيطة وتحاصر الشعب الواقع تحت الاحتلال وتضعه في دائرة مراقبة دقيقة وخضوع للسيطرة الأمنية الكاملة..
إذن.. لتَأمنوا على أنفسكم وترتاح قلوبكم، فلا خطر عليكم!
نقطة أخرى مهمة توضح أهمية الجبال للمحتل وتفسر استهدافها على هذه الشاكلة؛ يحتوي كثير من الجبال على ينابيع وعيون ماء وخيرات طبيعية وثروات ومعادن وصخور وغابات وأحراش، يسيطر المحتل على هذه الموارد بسيطرته على الجبل ويؤمِّنها لنفسه فينتفع من خيراتها لخدمة أهدافه.
وما إن تُقام بؤرة استيطانية على أي أرض حتى تعاجل حكومة الاحتلال إلى مدِّها بالماء والكهرباء والخدمات الضرورية الأخرى، ناهيك عن توفير الحماية اللازمة للمستوطنين بقوة السلاح! فالاحتلال لا يعترف بتصنيفات المناطق التي أفرزتها الاتفاقيات المختلفة تحت مسميات شتى.. هو لا يعترف إلا بمصالحه وما يتماشى مع أهدافه.
أصل الحكاية: المستوطنات، الخنجر المسموم ينغرس في قلب فلسطين
بدأت الحكاية مع تبلور فكرة إقامة دولة قومية لليهود على أرض فلسطين، وكان نابليون أول قائد يطرح هذه الفكرة خلال حروبه الاستعمارية على مصر والشام. وفي نهايات القرن الثامن عشر حاول السفير البريطاني الوساطة لدى الدولة العثمانية للسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، ووضع هرتزل بعد قرن من الزمان تقريباً كتاب" الدولة اليهودية" مفصِّلاً أدق التفاصيل التي تتعلق بإقامة هذه الدولة.
بدأ أثرياء يهود يحاولون امتلاك أراضي فلسطينية بشرائها عبر سُبل ملتوية، مثل ادِّعاء إقامة مشاريع خيرية من مدارس ومستشفيات.
وفي القرن التاسع عشر، تحديداً في عام 1878، وصلت أول جماعة من اليهود( 3000 يهودي) إلى فلسطين من أوروبا الشرقية، وتمكنوا من شراء 3375 دونماً من أراضي قرية ملبِس التي باعها أصحابها لأنها مُحاطة بمستنقعات يكثر فيها البعوض الناقل للملاريا، وبعد أن خدع هؤلاء أهل القرية بإخفاء نيتهم وتزييف هويتهم الحقيقية.. اشتروا الأرض وقاموا بتسجيلها باسم رجل أعمال نمساوي، ثم شرعوا يعملون على قدم وساق بعد حصولهم على إمدادات من اليهودي الفرنسي الثري إدموند روتشيلد.. جفَّفوا المستنقعات، وأهَّلوا الأرض للزراعة وبدأوا بإقامة أول مستوطنة دخيلة على أرضي القرية، بيتح تكفا( أي بوابة الأمل).
وتمكنوا أيضاً من الحصول على أراضي قرية عيون قارة عن طريق مساعد القنصل البريطاني التي أقاموا عليها مستوطنة ريشون لتسيون( أي الصهيوني الأول) التي جعلوا منها مدينة كبيرة ومركزاً صناعياً وتجارياً وثقافياً كبيراً. أُقيمت بعدها مستوطنات زخرون يعقوب وروش يبنا. واستمر الحال حتى وصل عدد المستوطنات الزراعية إلى"22" مستوطنة، سيطرت على 418 ألف دونم.
وفي عام 1948 أعلن الصهاينة قيام دولتهم على ما يقارب النصف من أراضي فلسطين التاريخية وهو ما سُمي لاحقاً بمناطق داخل خط الهدنة، بعد أن دمروا القرى، وهدموا المدن، وفتكوا بساكنيها، وهجَّروا من بقي من أهلها قسراً بقوة الرصاص والنار.. وشرعوا يلتهمون الأرض كما تلتهم النار الهشيم.
تأثير الاستيطان في بيئة فلسطين
مستوطنات تولد بسرعة على أراضي الضفة الغربية، وتتضخم بشكل لا يُعقل على حساب البيئة الفلسطينية، تجذبها رؤوس الجبال وأعالي التلال حتى فاض عددها عن 121 مستوطنة، صادرت الأرض وطردت أصحابها، وأنهكت البيئة وأثَّرت في مصادرها وتوازنها، حتى فرضت على الأرض واقعاً جديداً لم يكن موجوداً ذات يوم.. فهل يؤثر الاستيطان حقاً في البيئة الفلسطينية؟ وإذا كانت له تأثيرات حقيقية، ما هي؟ وما مدى خطورتها؟ ألم يكن الامتداد العمراني جزء لا يتجزأ من النشاط البشري على هذه الأرض منذ وُجد الإنسان على سطحها؟ لماذا إذن ترى الفلسطينيين يملؤون الدنيا صراخاً ويحذِّرون من تأثير تسارع الاستيطان وامتداده فوق فلسطين؟
منذ سقوط كامل الأرض الفلسطينية تحت الاحتلال، شكَّل الاستيطان الخطر الأكبر على الموارد الطبيعية. فدعونا نتنقل من مكان لآخر، ومن وقت لآخر، لنرقب قضية الاستيطان بعين الحقيقة، ونتبيَّن مدى تأثيراتها وخطورتها البيئية.
تأثير الاستيطان في الحياة البرية:
صادر الاحتلال مساحات شاسعة من الأرض الخالية من السكان والتي كانت موائل للحياة البرية؛ لإقامة مستوطناته عليها، وشق شبكات من الطرق الواسعة التي تنتشر في جميع الاتجاهات لتؤمِّن اتصال المستوطنات ببعضها وتشبكها مع المناطق داخل الخط الأخضر، أدى ذلك إلى حدوث تدهور بيئي خطير وشكَّل تهديداً حقيقاً على التنوع الحيوي، حيث عمد إلى إزالة الغطاء النباتي عن مساحات كبيرة من الأرض، أدى إلى اختفاء وتهديد وجود أنواع كثيرة من النباتات البرية، ومنع من انتقال بذورها من منطقة إلى أخرى بفعل العوامل الطبيعية، كما هدم جحور وأوكار الحيوانات البرية وحدَّ من انتقالها من مكان إلى آخر للتزاوج، عدا عن حوادث دعسها المتكررة خلال تنقلها، وأدى اقتلاع الأشجار البرية إلى القضاء على أعشاش الطيور وفرارها إلى أماكن أكثر أمناً وأقل ضجيجاً.
تلوث الهواء والاستيطان:
وجود المستوطنات بكثافة على رؤوس الجبال أدى إلى تلوث الهواء، ولم تقتصر مسببات التلوث على وسائل النقل التي تعمل ليل نهار لنقل المستوطنين الذين يرتبطون بأماكن عملهم داخل الخط الأخضر أو المستوطنات الصناعية الكبيرة، أضف إلى ذلك المصانع المنتشرة في أغلب المستوطنات والتي تنفث سمومها وتلوث الهواء، ولا ننسى الغبار الكثيف الناتج عن مقالع الحجارة وقص الحجر التي تنتشر في الجبال التي تمت مصادرتها، وتعمل على توفير الحجر لبناء المستوطنات، حيث ينتشر الغبار على مساحات واسعة حول المحجر، فيمنع النباتات والأشجار من النمو ويدمرها، ويسبب التصحر في المناطق المحيطة. وعادة ما يتم استخدام مقالع الحجارة كمكبات للنفايات الصلبة والمياه العادمة بعد الانتهاء منها.
عدا عن أن جميع تلك الأنشطة يرافقها مستوى عالي من الضجيج يؤثر سلباً في الحياة البرية والتجمعات السكنية الفلسطينية.
الماء تحت الاستيطان:
منذ بدء الاحتلال، صدرت مجموعة من الأوامر العسكرية مكَّنت المحتلين من السيطرة الكاملة على المياه الفلسطينية جوفية كانت أم سطحية، وسلبت الفلسطينيين حق التصرف في مواردهم المائية حسب احتياجاتهم، ومنعتهم من حفر الآبار لاستخراج المياه الجوفية في الوقت الذي قام فيه الاحتلال بحفر أكثر من 300 بئر في على حدود الخط الأخضر لاستنزاف مياه الحوض الغربي، وحفرت 51 بئراً في المستوطنات المقامة على أراضي في الضفة الغربية.
كما فرض الاحتلال رقابة صارمة على الآبار القائمة ووضع حداً أعلى للاستهلاك الفلسطيني اليومي، ما أدى إلى حدوث تباين واضح، فانخفض معدل استهلاك الفرد الفلسطيني السنوي إلى 93 متر مكعب، مقابل 344 متر مكعب للفرد "الإسرائيلي".
التربة وتأثرها بالاستيطان:
أعمال التجريف الواسعة، وإزالة مساحات واسعة من الغطاء النباتي لإقامة المستوطنات وشق الطرق الالتفافية، تؤدي إلى تفكك التربة وانجرافها. ناهيك عن تلوثها بمياه الصرف الصحي ونفايات المستوطنات.
مياه المستوطنات العادمة:
تقوم المستوطنات سنوياً بضخ ملايين الأمتار المكعبة من المياه العادمة غير المعالجة في الأودية والأراضي الزراعية الفلسطينية التي تسبب تلوث التربة وزيادة ملوحتها والتي تؤدي إلى تقليل الغطاء النباتي على سطحها وانتشار ظاهرة التصحر إضافة إلى انتشار الروائح الكريهة والحشرات الضارة، أضف إلى ذلك تلوث المياه الجوفية وزيادة نسبة النترات فيها.
وفي تقرير صدر عن مركز "بتسيلم" للمعلومات وحقوق الإنسان، أوضح أن المستوطنات في الضفة الغربية والبالغ عددها (121) مستوطنة من دون القدس، تنتج ما يقارب (17.5) مليون متر مكعب من المياه العادمة الملوثة سنوياً.
نفايات المستوطنات الصلبة:
تتخلص المستوطنات من نفاياتها الصلبة في المناطق الفلسطينية، بغض النظر عن كونها نفايات منزلية أو صناعية، وهو ما يُعرِّض هذه المناطق إلى خطر الانبعاثات السامة وانتشار الحشرات والقوارض والحيوانات الضالة وتشويه البيئة والتضاريس للمنطقة التي تُستعمل كمكبات للنفايات، أضف إلى ذلك إمكانية تلوث المياه الجوفية بسوائل النفايات الراشحة، قرية جيوس مثلاً التي تتبع لمحافظة قلقيلية تحتوي على مكب نفايات يغطي مساحة 12 دونماً ويخدم مستوطنات: كارني شمرون وقدوميم وتسوفيم ومعاليه شمرون.
وهناك خطر محدق أيضاً ينتج عن دفن النفايات الصناعية التي تحمل تلوثاً كيميائياً ونووياً وتحتوي على مواد سامة ومشعة في ثناياها في الأراضي الفلسطينية، على سبيل المثال لا الحصر: الألمنيوم، والرصاص، والزنك، والنيكل، التي تخرج مع مخلفات مصانع الألمنيوم، والجلود، والبطاريات، والبلاستيك، والإسمنت، والمنظفات الكيماوية، والغاز، والمبيدات الحشرية، والصناعات العسكرية السرية... وغيرها.
ناهيك عن الزحف العمراني المفاجئ للمستوطنات والذي يشكل إرباكاً لكل مكونات البيئة بشكل لا تستطيع التأقلم معه فتكون البيئة الخاسر الأكبر وأول الشهداء.
د. زهرة خدرج
كاتبة وأخصائية بيئية
خاص بمجلة آفاق بيئية
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت