- آهات من أحاسيس شعرية صادقة عميقة على وتر المشاعر الإنسانية السامية، حبلى في داخل كل قلب ولو تحت كِمامة
"أنفاسٌ تحتَ كِمامة" عنوان المجموعة الشعرية في طبعتها الثانية الصادرة حديثا عن مؤسسة قرطبة للطباعة للكاتب والشاعر المغربي محمد آيت علو، وهي طبعة أنيقة ورشيقة ضمت عشر قصائد مطولة، تتفاعل كلها مع معطيات اللحظة الراهنة حيث الجائحة المستجدة والوضع الوبائي الذي يجتاح العالم، وكما يوحي عنوان الكتاب وموعد إصداره، فهي أنفاس تحت كِمامة تحدّثنا عن حالة الجائحة ووباء ثقيل غير منتظر، والذي هزَّ العالم وما ترتّب عليه من عدوى وفقد، إنه فيروس كورونا الخبيث، والذي زلزل وغير من حضور الانسان ومن أشياء كثيرة في العالم، وصار لزاما تجديد ووضع رؤية استراتيجية متكاملة لطرق الوقاية والعلاج وحسن التعاطي والاستباق إلى استراتيجيات، للتصدي للجوائح والأوبئة والتفكر في كيفية التعامل مع المرض والحرص على الرعاية الاجتماعية التي تمنح حياة جيدة... وقد وقعت المجموعة على سبع وستين صفحة من الحجم المتوسط حاملة قصائد نثرية وأخرى ضمن شعر التفعيلة، وما سُمّيَ بقصائد النثر كنصوص مفتوحة ومطولات شعرية شاعرية، وترنيمات أقرب الى قصائد الحجر والعزلة، ليبوح الصمت بأنفاس وأروع الكلمات، وتلتئم معها كلمات تتكسر على حروفها آهات من أحاسيس، حبلى في داخل كل قلب ولو تحت كِمامة؛ وعبر كينونات سردية كثيفة تتمطى خطى الشعر على مختلف تجلياتها، ويشتمل مجموعة من النصوص الإبداعية المفتوحة، تتمحور جميعها حول موضوعة " قيم كورونا المستجدة"، بيروتُ :عاصفةُ الجروح، غربةٌ في ليالي الشتاء، يطيرُ القلب..!، بيننا والذي فاتْ، عصرٌ شاحب...، موجُ الشتاء...، كوفيد غول تاجي جاثم...؟، ماذا يبقى لك...؟!، عالقون، رائحة الموت، حرب اللقاحات...، خلف الأبواب هناك، مضى عصرنا، كِمامَة كورونا.. !، فضلا عن مقاطع شذرية وهي قصائد كلية تتجاوز كل الحدود مثلما المضامين، حيث تعميق التجربة الابداعية ضمن حداثة الكتابة والتجريب في بنية الصور، ضمّنها الشاعر تشظياته بين الداء والوباء، وتداعيات الجائحة والفقد، حيث يعيد الشاعر تأمل علاقة الشعر بالذات والعالم، تصوغ القصيدة أسئلة أخرى لوظيفة الكتابة الشعرية في ظل الجائحة، وحيث اللغة الشعرية لاتكف عن المزيد من ابتكار التقنيات في الصور وفي الإيقاع بمختلف مستوياته... من داخل هذه اللحظة الفارقة وما خلفته من أسئلة جديدة للإبداع عموما، وبتماسك وانسياب في ظل الانكسار وأمام حجم المعاناة، خلطة آسرة من المشاعر المربكة، امتلاء ودهشة وتدفق شعري جميل وفتح إضاءات وصورولوحات شعرية من الحياة بكل تفاصيلها وقلقها، بعمق وإحساس معيش وأكثر امتاعا، كتابة تحاول دون أن تعكر وتفسد الدهشة بلغة التأويل، ودون اعتبارات جاهزة أومسبقة...
كما أن قصائد المجموعة تبدو مشغولة بتفاصيل الجائحة والموت والفقد والغياب والمعيش اليومي ...حيث يمزج الشاعر الواقع بالمعاناة بالأحلام بالكوابيس بالأمل ليترك المتلقي يحبس أنفاسه أمام مشاهد مشحونة بالتأمل بالملل بالتألم وبالأمل، مشاهد واقعية وصوفية روحانية مختلطة بالالتباس والمعاناة، نبش بالذاكرة تارة، وطورا احتفاء باليومي ثم الاقتراب من صورة مستقبل طازج يداعب المشاعر والرؤى للانتقال إلى مشاعر المتلقي بشعرية صافية صوفية، متخطية الجائحة والتشوهات والخيبات النفسية.
هذا وتفيض القصائد ببوح مع الذات وتأملات فلسفية وصوفية، ليصل إلى نتيجة وخلاصة الخلاصة يمكننا أن نبرأ من خلالها أن الشاعر حاول جاهدا أن يلوح للمتلقي موضوع آن بالغ الخطورة مبينا ما بثه في سيكولوجية المرء من خوف وتأثير سلبي، وكما ذهب إلى ذلك ذ."نور الدين النوني" بقوله: يعد ديوان؛ "أَنْفَاسٌ تَحْتَ الْكِمَامَةِ" من الأعمال الأدبية التي تفجرت من نبع واحد همه الإنسانية جمعاء، والتي عانت الغموض جراء وباء كان أثره أقسى على النفس، ذاقت البشرية من ورائه مرارة الفقدان بلا سابق إنذار... وتحيل إلى مسألة بديهية، وإلى فهم يوحي بأن النص بُني في فضاء زمني اتسم بالتخويف والتهويل تجاه وباء كسر العالم يمنة وشمالا... وهاته الأنفاس تتموقع تحت الكِمامة التي يقي بها الناس أنفسهم من العدوى في زماننا هذا، "زمان كورونا"، لكن رغم هذه الوقاية، فأنفاس الأشخاص محرومة من حرية التنفس بالطريقة المعتادة، حيث تجد نفسها مقيدة، وهذا مما يزيد للنفسية اختناقا وخنوعا، فأصبح يُنْظَرُ إلى الكِمامة ومدى ارتداء الأنفاس لها، أكثر مما يُنظر إلى حالة الأنفاس نفسها المحرومة مما كانت تتمتع به، والذي أصبح زمان كورونا محرما في حيز مكاني، تكون فيه النفس تحت الكِمامة، وهذا الحيز هو الأماكن العامة...، فضلا عن هذا فإنه بإمكاننا أن نصور لهذا العنوان معنى آخر لا ينأى عن الدلالة على زمن كورونا و حالة الناس النفسية زمنئذ".
وعموما فهي قصائد تنشغل بالهم الإنساني، وتنقلنا إلى عوالم اللغة الشعرية والدهشة الإشراقية، والمستجدات الحياتية الراهنة وبواقعنا المأساوي والكابوسية التي يشهدها العالم، وأمام تحديات الواقع المتخن بالجراح والاضطراب والداء والوباء...، ولا سيما ما تعرفه الإنسانية من انتكاسات ومواجع، وأمام الانحسار والانكسار، وضبابية القيم ومفارقات الوجود... والواقع الجميل أيضا، وقد يلمس القارئ في قراءة هذا الديوان الكم الهائل والزاخر من الصور الشعرية الرائعة المشوبة بالايحاءات تارة والرمزية السوريالية تارة أخرى مما يدل على مهارة نادرة شحادة في القدرة على جمع شوارد الأفكار من خلال خيال واسع، بأسلوب أدبي شفاف سلس وواضح يحمل في أعماقه أسمى المعاني، طافحا بالتعبيرات المجازية الاستعارية مما يؤكد نضوج شعري ملفت، حاملا في طياته رؤى بعيدة وتفكيرا عميقا، وشفافية مطلقة، وهي قصائد تحمل الكثير من فلسفة الحياة، وتتسم بعاطفة إنسانية رقراقة تنبض بالحياة، وفيها تجديد للمضمون من جميع النواحي التي تساهم في بناء قصيدة متوازنة منضبطة في تركيبتها من حيث الفكر والجمال، والتي تخدم المعنى والمضمون، على وتر المشاعر الإنسانية السامية والرؤى النبيلة، والمعاناة والهم الوجودي والكوني بحدس ملهم ورهافة حس، وتمة نزوع إلى المغايرة سواء في المعاني أو المباني التي اجترحها، صوت وبصمة خاصة.. أمام اختناق الشعر الحديث في زحمة الفنون المنافسة، فالزمن تغير وصار كثير الفوضى والمادية، والشعر قد انسحب من التعبير عن هموم البشرية، هذه الأخيرة التي انصرفت عن سماع صوت الشعر الذي بات شبيه نداءات وهمس في وديان.
وقد شكل الأديب محمد آيت علو لغة شعرية قائمة على إيقاعات رشيقة مرنة وشفافة روحية، وحبلى بصور الحلم والانتعاش والحب، تمة خاصية أخرى هي الاعتماد على تخطيط سردي داخل النص الشعري تجلى في الكثير من النصوص كما هو الشأن في نص "كِمامة كورونا" والذي يتجاوز ثلاثين سطرا، من هنا يجيء الموقف الشعري الذي يجسده الأديب محمد آيت علو انطلاقا من أسْرِ الحالة إلى فضاء الشاعرية المطلق وآفاقها البعيدة، كما أن البنية الشعرية لنصوصه تبدو شديدة التماسك، مفعمة بالنفس الشعري المتدفق، والخبرة الشعرية العميقة، والموقف الذي يتجاوز التجربة والحالة في دلالاتها وإيماءاتها وإيحاءاتها، معلنا عن شموخ شاعر وكبرياء إنسان.
وإن إمعانا واضحا للتشكيلات الشعرية لدى الأديب محمد آيت علو سيتضح بأنه ينبع من هاجس التجريد والحداثة بالمعنى المعاصر، كما أنه يمزج بين صورة الكلام وكلام الصورة المعهودة وكلام الصورة الجديد، شذرات من عوالم مختلفة ومتخالفة في الزمان والمكان، لكن صوغها في سبيكة قولية واحدة، وإدراجها في أنساق متعاقبة بهذا الشكل دون سواه، هو المكون الرئيس لبنيتها الجمالية.
أما خواتيم بعض هذه النصوص فقد جاءت كمفاتيح وتحولات مفاجئة، ذلك أنها تسفر عن مشهد متكامل مشحون بتفاصيل يومية إنسانية: مأساوية ومبهجة حبلى بالأماني والأمل، كل ذلك يجعل من محمد آيت علو شاعراً مسكونا بالألم والمعاناة الإنسانية، لكنه في النهاية عناء جميل..
إن الشعر عنده حلم وانتعاشة روح وإنسانية، وإحساس يمزج الدمع بالفرح والموت بالحياة، إنه خير وأمل، وتأملات عميقة في تفاصيل حياتية لم نعُد قادرين - ونحن في فوضى غياب القيم - أن نُحسن اكتشافها، لأنّنا قد أصبحنا نسير بأجسادٍ ميتة لا نبض فيها، لكثرة ما أتخمها القلق والغم والحزن، منجز شعري جاء حافلا بالكثير من الإبداع، والجماليات، واستثنائية لغوية و نفس وروح متجددة ساعدت على الغوص عميقا، لكن بشفافية مرهفة في الأبعاد الفلسفية والإنسانية بصفة عامة، وبعمق معنوي متوهج وشفيف مرهف، وترصيف وتصفيف المشاهد والمقاطع والصور الشعرية الحية النابضة بالحياة. وشكل من أشكال الحياة، هو المخمل والحرير، وحب يليق بنا وهو ذاك الذي نكتمل به في دروب هذه الحياة، ويبقى الأمل حليف وحسن الظن بالله سبحانه كبير، طامعين في مدده المؤاسي بأن يزيح عنا كل غم وهم:
العينان الساهمتان تضحكان أخيراً
ترتسمُ فيهما الأزقة والدروبُ المهاجرهْ
في هذه الأثناء، رفعتُ بصري إلى السماء
وبحثت عني...، وكنتُ أراني رغم الشحوب
هواء عليلا..ولما ابتسمتُ
كان المطرُ دفاقا
أطلقتُ دمعتين حارتين
تشبتتا بالكمامة من شدة الألم
حينها تذوقتُ حياتي
كي تتقوى مناعتي
ولم أكن قبل اليوم أتمتع بالحياهْ
وفي بروق الزمن العدمِيِّ،
تساءلتُ هل هذا العصر ماتْ؟
وسجدتُ، فانزاحَ الغَمْ.
نبارك للكاتب محمد آيت علو صدور أنفاس تحت كِمامة، ونتمنى له دوام العافية والعطاء، وألف مبروك.