الذات الشعرية القمرية تقرأ الصحراء والكون والإنسان.
- د. مصطفى عطية جمعة
- أستاذ الأدب العربي والنقد - مصر
هذا الديوان يحمل إبداعا مغايرا على مستوى الرؤية والبنية، والطرح والجماليات؛ وليس هذا بمستغرب على شاعر كبير في حجم وهيب نديم وهبة، فقد سبقه بأعمال شعرية وإبداعية عديدة، تشي بجلاء عن سعيه إلى قراءة الواقع والوجود والتاريخ والحياة بشاعرية متوهجة، لا يمتاح فيها من المتداول الشعري، وإنما يسعى إلى التميز الشعري، وهو ما اتضح في تجربته في الديوان موضع دراستنا.
فالديوان ينتمي إلى فئة الديوان القصيدة، أو القصيدة الديوان، بمعنى أن الديوان كله هو قصيدة واحدة متصلة، متنوعةٌ زواياها، متكاملة أبعادها، وقد وفِّق شاعرنا في هذا البناء الشعري، لأنه بالفعل يعزف على رؤية كلية، تتجاوز الجزئيات والفرعيات والنثيرات، لتقرأ الجغرافيا في ضوء التاريخ، والتاريخ ضمن معطيات الجغرافيا، وقد احتوتهما شاعرية فذة، تنثر مفردات المكان في إطلالات الزمان، وتعانق الإبداع الشعري العربي في بكارته الإبداعية، في العصر الجاهلي، ومنها ينطلق إلى الثورة التي أحدثتها رسالة الإسلام: ثورة روحية وإبداعية وفكرية ولغوية.
وإزاء هذا التميّز الجمالي، في بنية شعرية أساسها اللحمة الشعرية في قصيدة واحدة، والتقاؤها على موضوع واحد، فإن التأويل يتوجب أن يكون موازيا لأية قراءة نقدية جمالية، وكما يقول تودوروف فإن عملية التأويل تفصل المتلاحم، وتجمع المتباعد، لأن التأويل يشكّل النص في فضائه الدلالي، وليس في خَطّيته، وهذا لا يمنع من تعدد التأويلات، فالدائرة التأويلية تسلم بضرورة تواجد الكل وأجزائه، ولكنها دوائر التأويل لا تتساوى، فهي تسمح بالمرور عبر عدد يكثر أو يقل من نقاط الفضاء النصي(1)، أي أن تأويل النص الشعري يمتاح من لغة النص وجمالياته، وتتسع دوائر التأويل أو تضيق تبعا لاستراتيجية القراءة، وما ارتكزت عليه نصيا.
وسيكون نهجنا في قراءة الديوان ناظرا إلى كلية الرسالة التأويلية، في ضوء معطيات المقاطع الجزئية، ساعين إلى تبيان أوجه من الإضافة الإبداعية المتحققة فيه.
يمثل عنوان الديوان العتبة الأولى في فهم العالم الشعري للديوان، فهو -بشقيه الرئيسي والفرعي- حامل للدلالة الكلية الأولى، وبالأدق فإن عنوان الديوان هو بوابة لفهمه؛ إذا قرأناه في ضوء الاستهلال الذي وضعه الشاعر في مقدمة ديوانه.
تكمن المفارقة في عنوان الديوان بشقيه الرئيسي والفرعي؛ فالعنوان الفرعي "مسرحة القصيدة العربية"، هو مفتاح فهم العنوان الرئيسي الذي سبقه. فلفظة "مسرحة" تحيلنا إلى الدلالة البكر للفظة مسرح في العربية، والتي تعني –كما ذكر لسان العرب- الموضع من الأرض الذي فيه الحلال والخير من دابة وزرع(2)، وهو ما يؤكده المعجم الوسيط بأنه مرعى السرح، ثم يتبنى المفهوم الحديث للمسرح بأنه المكان الذي تُمَثّل فيه المسرحية(3). أما إضافة لفظة المسرح إلى القصيدة العربية، فهي في رأينا إضافة مكانية، بمعنى أن الإضافة الإبداعية في منظور شاعرنا أنه سيتخذ من القصيدة سبيلا لقراءة المكان، وهو ما أوضحه في العنوان الرئيسي "خطوات فوق جسد الصحراء"، أي أنه سيخطو شعرا وإبداعا على تخوم المكان في الصحراء العربية، فلننتظر شعرا مؤطرا بعبق المكان، مثلما هو معبر عن المكان الذي حدده بأنه الصحراء العربية، بهضابها وجبالها وسهولها ورمالها، وهو ما يقودنا إلى مفهوم شعرية المكان والذي يتشكل بواسطة اللغة الشعرية، إذ تمتلك بدورها طبيعة مزدوجة، فللغة بعد فيزيقي يربط بين الألفاظ وأصولها الحسية، أما إذا صارت اللغة أداة لتشعير المكان، فإنها لا تعتمد على اللغة فقط، وإنما يسبقه الخيال، الذي يشكل الخيال بواسطة اللغة على نحو يتجاوز قشرة الواقع، إلى ما قد يتناقض مع هذا الواقع، ويظل رغم ذلك واقعا محتملا، ويشكل الخيال الشعري مع المكان، فيما يسمى جماليات اللغة المكانية أو جماليات المكان، فالمكان إذا حضر شعرا فإن الخيال يحوّله إلى حلم، والذاكرة تفرقه إلى أمكنة متعددة (4).
وقد أبان الشاعر عن مسرحته للقصيدة برؤية مغايرة، تتجاوز الأفق المكاني الضيق في المسرح الفيزيقي أو التمثيلى إلى مفهومه الخاص؛ وذلك في مقدمة لديوانه؛ صاغها بعبارات نثره، وجعلها تنظيرا لشعره؛ أشعلها بعاطفته، وأنارها بخياله، حينما يقول: "لكيْ تَجْتازَ الْعتبةَ، وتَدخلَ معي في سَفَري، عليْكَ أنْ تَتركَ هُنا كلَّ مَتَاعِ الدُّنيا... وتكونَ معي في سَفَرِ التّاريخِ إلى الْوراءِ. نقطةُ الانطلاقِ: زمنُ الْجاهليّةِ. نهايةُ الْمطَافِ: حُجَّةُ الْوَداعِ. مُحاولةٌ للدّخولِ في تاريخِ الْحضارةِ الْعربيّةِ الْإسلاميّةِ."
فالعتبة المرادة هي عتبة عالمه الشعري الذي يؤسسه في هذا الديوان، ويطالب المتلقي بالتهيؤ في السفر معه، فإن تطوافه هو تحليق زمني مكاني، حيث يبحر مكانيا في صحراء الجزيرة العربية مترامية الأطراف، من الربع الخالي إلى اليمن السعيد، ومن مملكتي الحيرة والغساسنة وثمود، إلى بقاع حضرموت وعاد قوم هود، وفي الوقت نفسه يبحر زمانيا بدءا من الجاهلية، مرورا بحقبة الرسالة، انتهاء ببدايات تكوّن الحضارة الإسلامية. وبذلك تتضح الدلالة المرادة في عنوانه "مسرحة القصيدة فوق جسد الصحراء"، فالمسرحة سَفرٌ مكاني زماني للقصيدة، وما جسد الصحراء إلا الأرض الرحبة القفراء التي تتشكل منها جزيرة العرب، وما حولها من مياه وبحار.
وقد ما أبانه بعدئذ بقوله: "تَفتحُ الْبابَ الآنَ... على مَهدِ الْجزيرةِ الْعربيّةِ. تَدخلُ مدينةَ الشِّعرِ، ومَدائنَ النّثرِ، وصَرْحَ التّاريخِ، وجسدَ الْأرضِ الْجُغرافيا. لا تَبْحثْ عني بَيْنَ سُطورِ الْكتابِ... هُوَ أنتَ هذا الْعربيُّ الْقادمُ إلى الْجزيرةِ الْعربيّةِ."
فالمتلقي/ القارئ هو المبحر في جسد الصحراء، لأن الذات الشاعرة لا تحتكر وحدها الولوج ولا السفر، وإنما تأخذ في خطابها كل عربي، أيا كان زمنه ومكانه.
لقد سعى شاعرنا إلى تأليف المادي مع المعنوي، والمحسوس مع المجرد، وعلى حد قوله ناعتا جهده في ديوانه: "هُنا تَجِدُ الْقمرَ والْبحرَ والرَّمْلَ، والصّحراءَ والتّاريخَ، وقَدْ دَخَلَ الْواحِدُ في الْآخرِ، حتَّى ضاعَتِ الْفُروقُ بينَ الشِّعرِ والنّثرِ، بَيْنَ التّاريخِ والْجُغرافيا، بَيْنَ الْمَسرحِ والْقصّةِ، وبَيْنَ الْواقعِ والْخيالِ."
بما يعني أنه جمع أشكالا وأجناسا عدة في نصه الشعري، ليصبح الشعر بوتقة تصهر أشكالا إبداعية عدة.
وإذا نظرنا إلى نص الديوان، فإننا سنجد أن الرؤية تتخذ من القمر مفتاحا تتطلع به إلى الجزيرة العربية، تاريخا وبشرا، هضابا ووديانا، شعراء وحكماء، وقد تكررت مفردة القمر، متصدرة غالبية المقاطع الشعرية، دون الشعور بأن التكرار يعطي وقعا سلبيا كما هو متوقع، وإنما نجد أن التكرار يعطي في كل مرة دلالة جديدة، لأنها تأتي في سياق شعري جديد، حيث تصبح الصياغة الشعرية (للقمر) حقلا تتراكم فيه المعاني والدلالات، مما يتطلب ضرورة النظر إلى بنية التكرار ذاته، على مستويين: الأول الظاهري للكلمة وما حولها، والثاني: باطني(5) ننظر في دلالات السياق حوله.
فهو يستهل النص بأن جعل ذاته الشعرية قمرا يتلألأ في ليل الجزيرة:
"قَمَرٌ / فوقَ ليلِ الْجَزيرةِ
ويداكَ مِنْ فِضّةٍ / وجسمُكَ مِنْ تُرابٍ
وسماؤُكَ مِنْ نُحاسٍ / وَعِشْقُكَ مِنْ سَرابٍ."
فالذات قمرية تتشكل في المتخيل الشعري، لتكون ذات أيدٍ وجسد وسماء وعشق، فكفاها غارقتان في اللون القمري الفضي، وجسمها من ثرى الجزيرة، وسماؤها نحاس.
وتتعدد مهام القمر، الذي هو الذات الشعرية المتأملة، والذي هو أيضا ذات العربي المتلقي، وهو ينظر من علياء لعالم الجزيرة العربية، فالقمر يصبح رسّاما لأخيلة الذات المحلّقة في عالم خيالي، مأخوذة ملامحه من سرديات التخييل العربي.
"قَمَرٌ / يَرْسُمُ وخيالاتٌ بعيدةٌ...
دَخَلتْ مدائِنَ الرُّخامِ والْحريرِ / وأَجواءِ الْخِيامِ وبَراري الْهُيامِ...
وبساتينِ الْعُطورِ وغاباتِ النّخيلِ / واغتَسَلتْ في ماءِ الْبحرِ
وانتَظرَتِ الْفارسَ الْقادمَ منْ صحراءِ الْجزيرةِ"
ففي هذا المقطع تنسج الذات القمرية رؤاها المتخيلة من رصيد من عالم جميل، سمعناه في الحكايات العربية القديمة، في أجواء ألف ليلة وليلة، وخيام الصحراء، وقصص العشاق، عندما يجدون في البساتين والغابات ملتقيات لهم، خاصة أن العاشق في التراث العربي يكتسي دوما بملامح البطولة والشعر، والمثال على ذلك عنترة العبسي، الذي قال شعرا رومانسيا لا يزال يعبق قلوب العشاق إلى يومنا، وكان في حروبه أسدا هصورا، يدمي قلوب الأعداء، ويعيد لمحبوبته ظافرا ولهانا.
وتتحول الذات القمرية، لتكون فوق البحر، وما أكثر البحار المحيطة بالجزيرة!
"قَمَرٌ / فوقَ الْبحرِ /
مُبلَّلٌ قليلًا بالنُّعاسِ وَالْمَطَرِ
ويَنتشِرُ الضَّبابُ / غَزالةٌ / تَنْزِلُ مِنْ سُحُبِ السّوادِ
تَلفُّ الْبحرَ في مِنديلِ الدّمعِ /
ويَنسكِبُ نَهرُ الشّوقِ في وادٍ سَحيقٍ
لا زَرْعَ فيهِ... لا غَرْسَ لا نباتَ"
الذات القمرية تشرئب في عليائها إلى مياه البحر، في سواد الليل، ولكنها لا تزال مؤنسنة، وقد أثقل جفنيها النعاس، ولاحقتها قطرات المطر، ومع ذلك هي عاشقة للبحار المحيطة بصحراء الجزيرة العربية، التي تخلو من الزرع والغرس، في دلالة على أن الذات العربية لا تتنكر للصحراء وإن كانت قفرا، ولن تجرفها تيارات الماء ولا الأمواج، ولا الأمطار، ولن تخدعها الغيوم المحملة بالغيث. إنها عاشقة للصحراء.
"قَمَرٌ / يا (امرأَ الْقيسِ) يَلْمَعُ مِثلَ السّيفِ
مِنْ غَربِ الْحِجازِ وشَرقًا في اَلْمَدَى
يَمانيُّ السّيفِ / عَدَنِيُّ الرّمحِ والْقامةِ
وصَنعاءُ تَنزِلُ مِثلَ أميرةٍ / تَغسِلُ قدمَيْها في ماءِ الْبحرِ
وتَصعَدُ حيثُ يَرْقُدُ مَجدُ الشّمسِ ساجدًا
في صلاةِ حُريّةٍ يَتلوها الْفجرُ"
تبدلت الذات الشعرية القمرية فصارت سيفا، في دلالة على أن الاشتغال الإبداعي في هذا الديوان على القمر بوصفه علامة شاهدة على أبرز ما يميز الذات العربية في تاريخها، وقد كان السيف جزءا من تراثها، بل هو رمز لعزتها وقوتها وفتوحاتها.
القمر السيف صناعته وملامحه يمانية، يستحضر امرأ القيس، الشاعر والفارس، ولكنه يغوص جنوبا، حيث صنعاء المدينة الساحرة، المنتصبة على جبال اليمن، تذكرنا بماض تليد، كان اليمن فيها سعيدا، وكانت الصحراء العربية منجبة للفوارس الشعراء، وعندما جاءتهم الرسالة القرآنية جعلوا سيوفهم سبيلا لنشرها.
"قَمَرٌ / فوقَ رُبوعِ "الرُّبع الْخالي"
فوقَ الْبَراري والْقِفارِ
لا يُشبِهُ شكلَ الْأرضِ في التّشبّهِ"
غيّر القمر وجهته، وهو لا يزال في عليائه متطلعا، فصوب نظراته ناحية الربع الخالي، تلك الأمكنة المهجورة، التي لا نجد فيها إلا أرضا صلدة، وحجارة سوداء أشبه بالمحترقة، وبراري قاحلة، ولكنه يعتز بها، لأنها أرض شاهدة على تاريخ العروبة، وقد صارت عبر دروبها جيوش العرب في طريقها لفتوحات فارس والعراق.
"قَمَرٌ / في مَلَكوتِ سماءِ الْكلماتِ
في الْبدءِ دَخَلَتْ في حالاتِ الْماءِ سَحابةٌ
تَجمَّعَ السّحابُ / حُزمَةً مِنْ نورٍ ونورًا منْ نارِ
واستوطنَ اللّؤلؤُ في كتابٍ /
نزلَ الضّوْءُ فوقَ كوكَبِ الْأرضِ
مَطَرًا منْ كلامِ اللهِ / مِنْ أوّلِ بُستانِ الدّنيا حتّى جَحيمِ النّارِ / مَلَكوتُ الْأرضِ خالدةٌ في كلماتٍ"
هنا القمر يتلاقى مع قيم الرسالة الإسلامية، ليحلق في ملكوت التوحيد الرباني، ويقرأ الكون في هديه القرآني، وكأن كلماته لؤلؤ، يضيء ظلمات الأرض، فكادت الذات القمرية أن تتخلص من ماديتها، لتصبح أشبه بسحابة، تجمع النور من الشمس، أو النور من النار، ثم تصبح قطرات ماطرة من كلام الله، فتنشر عبقها في ملكوت الأرض، لعل أهلها يهتدون يوما إلى معنى التوحيد الذي يخرجهم من نار الجحيم.
وختاما، لاشك أن العالم الشعري لوهيب نديم وهبة أشبه بالصحراء التي غزلها شعرا في ديوانه، فهي في ظاهرها رمال صفراء، إلا أنها تحوي جغرافية متنوعة، وسرديات البطولات والفتوحات، وعلامات النصر والفخار، وهذا ما دفعه إلى الاشتغال عليها شعرا، لعل الشعر يفجّر المستتر من مخزونها الإبداعي، كي نعيد قراءة تاريخنا من جديد، وإذا كان القمر وسيلة الذات الشاعرة في الديوان، فإن هناك عناصر أخرى مكانية وكونية وزمنية يمكن أن يواصل اشتغاله عليها في قادم الأعمال.
إشارات:
) الشعرية، تزيفيتان تودوروف، ترجمة: شكري المبخوت، ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط2، 1990، ص22.
2) لسان العرب، ابن منظور، دار المعارف، القاهرة، د ت، ص1985.
3) المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2004، ص426.
4) إضاءة النص: قراءة في الشعر العربي، اعتدال عثمان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988، ص7-9.
5) التِّكرار في الدراسات النقدية بين الأصالة والمعاصرة، فيصل حسان حولي، رسالة ماجستير، جامعة مؤتة، 2011، ص69.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت