مفارقات العلاقة الأميركية الفلسطينية

بقلم: سنية الحسيني

سنية الحسيني
  • د. سنية الحسيني

رهنت الولايات المتحدة الأميركية علاقاتها مع الفلسطينيين طوال العقود الطويلة الماضية بدعمها المطلق لإسرائيل، حيث كانت أول من اعترف بها عام ١٩٤٨. إن ذلك قد يفسر سياسة الولايات المتحدة المتناقضة تجاه الفلسطينيين حتى يومنا هذا، والتي تدعم منظمة التحرير الفلسطينية وكذلك السلطة الفلسطينية سياسياً واقتصادياً، انطلاقاً من تبنيها لمقاربة السلام مع إسرائيل، بينما ترفض الإقرار بمشروعيتها وتعتبرها منظمة إرهابية في تشريعاتها المحلية. وجاء إبداء إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن لرغبتها بإعادة العلاقات مع الفلسطينيين وإعادة المساعدات الاقتصادية وفتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن وإعادة عمل القنصلية الأمريكية في القدس، دون التطرق إلى المعيقات القانونية التي  قد تعطل حدوث ذلك عملياً، ليعكس بوضوح استمرار العمل بتلك الظاهرة من التناقض في السياسة الأميركية تجاه الفلسطينيين.

 

لا يمكن تجاهل أو اغفال دعم الولايات المتحدة المطلق لإسرائيل، على مدار كل تلك العقود الطويلة، والذي ينعكس بجلاء في مواقفها وسياساتها عموماً تجاه إسرائيل، حتى أن عدم الانسجام الشخصي بين قيادة البلدين في بعض الأحيان لم يؤثر على مسار هذه العلاقة الخاصة جداً. وعلى ما يبدو أن القيادة الأميركية ومنذ وقت مبكر جداً آمنت بأن توفير السلام لإسرائيل يعتبر حجر الزاوية لحمايتها، فسعت لبناء مقاربة تقوم على أساس دعم فكرة السلام الفلسطيني والعربي مع إسرائيل، بهدف حمايتها، وفي نفس الوقت حافظت على سياساتها ومواقفها الداعمة والحامية لإسرائيل، رغم اعتداءاتها وخرقها  لحقوق هؤلاء. ولضمان بقاء تلك المقاربة قائمة واجبار الاخرين بالقبول بها، راعت الولايات المتحدة الحفاظ على قوة إسرائيل النوعية في المنطقة، وضعف الفلسطينيين خصوصاً والعرب عموماً فيها.  

 

 ومن الممكن أن تفسر بعض التناقضات في سياسة الولايات المتحدة تجاه الفلسطينيين في العقود الماضية سياستها المستمرة حتى اليوم، والتي تحمل ذات المقاربة سابقة الذكر. في عام ١٩٧٨، اعتبرت وزارة الخارجية الأميركية المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية مخالفة للقانون الدولي، كما سمحت بافتتاح مكتب لمنظمة التحرير في العاصمة الأميركية واشنطن. جاء ذلك التغير في إطار عاملين، الأول تعلق بافتتاح مفاوضات السلام مع مصر وتوقيع إتفاق كامب ديفيد، الذي سعى لدمج الفلسطينيين في إطاره، بينما ارتبط الثاني بالموقف السياسي الفعلي للولايات المتحدة والذي انعكس في استخدامها الفيتو في مجلس الأمن قبل ذلك التاريخ وبعده بهدف انكار الحق الفلسطيني بتقرير المصير وانطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنع أي إدانة لإسرائيل على ممارساتها العدائية في الأراضي المحتلة. وفي عام ١٩٨٧، أقر الكونجرس قانون مكافحة الإرهاب، والذي يعتبر منظمة التحرير الفلسطينية والمؤسسات التابعة لها إرهابية. ويحظر بموجب ذلك التشريع احتفاظ المنظمة بمكتب لها في واشنطن. ورغم ذلك، افتتحت واشنطن في العام التالي مؤتمر مدريد ومفاوضاته، وتغاضت عن دور منظمة التحرير، من وراء الستار، في إدارة المفاوضات بين الوفد الأردني الفلسطيني المشترك مع الإسرائيليين، والتي كان دورها وحضورها أكثر وضوحاً في مفاوضات واشنطن.

 

ورغم توقيع منظمة التحرير لاتفاق أوسلو مع إسرائيل عام ١٩٩٣ برعاية أمريكية، واعتراف إسرائيل بالمنظمة ممثلاً عن الفلسطينيين، وزيارة رئيس المنظمة والسلطة الراحل ياسر عرفات إلى واشنطن عدة مرات، وزيارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلنتون إلى غزة واستضافته من قبل المجلس الوطني، الجهاز التشريعي لمنظمة التحرير، ناهيك عن افتتاح مكتب للمنظمة في واشنطن، لم تلغ واشنطن التشريع الذي يعتبر المنظمة ومؤسساتها إرهابية. ويبدو أن واشنطن تحتفظ بذلك الوضع القانوني لمنظمة التحرير في بلادها عن قصد، على اعتبار أن المنظمة هي من يمثل الفلسطينيين رسمياً، وهي الراعي الرسمي لعملية السلام مع إسرائيل. ويمكن للولايات المتحدة، إن أرادت، أن تلغي العمل بهذا التشريع، من خلال صلاحيات الرئيس التي تسمح له باعلان إنهاء العمل به بحجة أن المنظمة لم تعد إرهابية، أو بالطعن بالتشريع نفسه، بحجة تقييده لحرية السلطة التنفيذية في ممارستها مهامها الخارجية.

 

وفي حين تدعم الولايات المتحدة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية سياسياً وإقتصادياً منذ توقيع إتفاق أوسلو وحتى يومنا هذا، وتتجاوز عن تشريعاتها المحلية التي تعتبرها ومؤسساتها إرهابية لتوفير ذلك الدعم، تحافظ الولايات المتحدة على سياساتها الداعمة لإسرائيل وممارساتها كقوة احتلال تتعدى على الحقوق السياسية للفلسطينيين ومستقبلهم السياسي. استخدمت الولايات المتحدة الفيتو أربعة عشر مرة بعد توقيع إتفاق أوسلو لحماية إسرائيل كقوة إحتلال وممارستها ضد الفلسطينيين، ورفضت السماح بتوجيه أي إدانة لها من قبل مجلس الأمن على إجراءاتها الاستيطانية في أراضي الضفة والقدس، رغم اعتبرتها أن الاستيطان في تلك المناطق غير شرعي.     

 

واليوم بالإمكان قياس سياسة إدارة الرئيس بايدن واستعادة علاقته مع الفلسطينيين ضمن نفس المقاربة سابقة الذكر. أعلنت الولايات المتحدة عن إعادة الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، رغم حظر قانون مكافحة الإرهاب لعام ٢٠١٨، الذي يقيد منح المساعدات المالية الأميركية الموجهة بشكل مباشرة للسلطة الفلسطينية، بحجة أنها تمنح الأسرى الفلسطينيين وعائلات الشهداء مخصصات مالية. ورغم تؤكد إدارة بايدن أن استئناف المساعدات للفلسطينيين مرهون بامثالهم لذلك القانون، يبدو أن المساعدات الأميركية قد استؤنفت، في غياب التزام الفلسطينيين بشروط ذلك التشريع. وخصصت الأموال الأميركية المتوقع تقديمها للفلسطينيين لعام 2021 ولخمس سنوات قادمة في إطار إنشاء صندوقين يحدد الكونغرس آلية عملهما، الأول يأتي بهدف الشراكة من أجل السلام ليدعم برامج الحوار والمصالحة والتعايش السلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين في اطار حل الدولتين المستدام وتعزيز الاقتصاد الإسرائيلي الفلسطيني، بينما يأتي الثاني لمتابعة مبادرة الاستثمار المشترك من أجل السلام الذي يوفر استثمارات ودعم للمؤسسات التي تنفذ مشاريع تساهم في تنمية اقتصاد القطاع الخاص الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتعطي أولوية بشكل خاص لدعم المشاريع التي تزيد من التعاون الاقتصادي بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

 

أما فيما يخص إعادة فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، والذي يحتاج وجوده أصلاً إلى استثناء بسبب  حظر قانون مكافحة الإرهاب لعام ١٩٨٧، يوقعه الرئيس كل ستة أشهر، أفادت مذكرة لوزارة العدل الأميركية صدرت عام ٢٠١٧، بأن الكونجرس لا يمكنه إملاء إجراءات وزارة الخارجية فيما يتعلق بوضع مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، لأن الرئيس يتمتع بسلطة دستورية حصرية لاستقبال الدبلوماسيين الأجانب في الولايات المتحدة وتحديد الظروف التي قد يعملون بموجبها. كما أنه على الرغم من أن إعادة فتح مكتب المنظمة يمكن أن يعرضها للمساءلة في المحاكم الأمريكية بموجب دعاوى قضائية متعلقة بالإرهاب، بموجب قانون تعزيز الأمن والعدالة لضحايا الإرهاب الذي أقر عام ٢٠١٩، الا أنه بالإمكان أيضاً الضغط الفلسطيني لاجراء تعديلات على بنود ذلك القانون، والتي من المتوقع أن تمر في النهاية في ظل تشجيع معظم أعضاء الكونجرس لإحياء عملية السلام.

 

أما فيما يخص إعادة فتح القنصلية الأمريكية العامة في القدس للفلسطينيين، التي أغلقتها إدارة ترامب عام ٢٠١٨، وكانت تعمل قبل ذلك وفق استثناء يوقعه الرئيس كل ستة أشهر، لتجميد العمل بقانون سنة الكونجرس عام ١٩٩٥ يفيد بنقل السفارة الامريكية من تل ابيب إلى القدس، ويحتاج ذلك الان أيضاً إلى توقيع استثناء كل ستة أشهر من قبل الرئيس الجديد. كما أن إعادة فتح القنصلية في القدس بحاجة الان إلى موافقة إسرائيل، نظرًا للحاجة إلى تعاون السلطات الإسرائيلية لإصدار تأشيرات دخول الدبلوماسين الأمريكيين الذين سيعملون فيها، وكذلك الحاجة إلى حمايتها وحماية دبلوماسييها، وضرورة موافقة الدول على البعثات الدبلوماسية العاملة فيها. وعلى الرغم من إصرار إسرائيل على أن القدس الموحدة عاصمة لدولتها، واعتبارها أن إنشاء قنصلية قد ينتقص من ذلك، خصوصاً في ظل اعتراف أميركي بذلك، الا أن إصرار الولايات المتحدة وإعادة تكرار نيتها افتتاح مكتب قنصلي لها في القدس الفلسطينيين، يوحي بوجود تفاهم ما بين البلدين حول ذلك.

 

على الرغم من التأثيرات السلبية لهذه السياسة عموماً على الفلسطينيين، الا أنه بإمكانهم  أن يعكسوا تأثيرها، إن عرفوا كيف يستغلون تلك المقاربة الامريكية سابقة الذكر لصالح تحقيق أهدافهم، خصوصاً في ظل تطور مكانتهم السياسية والقانونية دولياً بعد عام ٢٠١٢، والتطورات السياسية في الساحة الأمريكية  والكونجرس الداعمة لحل القضية الفلسطينية وانهاء الاحتلال عبر ترسيخ حل الدولتين.

 

 

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت