(من غير كلام) وبحركة رافضة بيده؛ يطرد الممرضات من غرفته، رافضاً التعامل معهن، أو الخضوع للفحوصات الطبية. "الحرية التي لا مقابل لها، سوى ذاتها" هي مطلبه الوحيد.
تعداد الاعتقالات في حياته كثير، كتعداد الإضرابات التي خاضها. اعتقل للمرة الأولى في صباه، تبعها اعتقال ثانٍ، وثالث، ورابع حالي، يُضرب فيه عن الطعام لليوم 61 رفضاً لاعتقاله الإداري، وهو بالمناسبة الإضراب الرابع لشاب عنيد في 28 من عمره. اسمه فريد للغاية، يعلق في الذاكرة طويلا، هو الغضنفر آيخمان أبو عطوان من سكان بلدة دورا، جنوب الخليل.
بجسد هزيل وروحٍ مهيبة، يجلس على سرير المستشفى، متسلحاً بالمصحف الشريف، ومعتمداً في صمود جسده على رشفات من الماء فقط، بدون ملح حتى. كلما أحس بالتعب، يهمّ بقراءة آيات من كتاب الله، يخفف فيها عن ألمه الجسدي. (من غير كلام) يبتسم لزواره، مرحباً بهم، ومتواصلاً معهم بحركات يديه وشفاهه، محاولا الكتابة أحياناً.
مسك القلم، ودوّن ببطء شديد، لعدم تمكنه من تحريك القلم بسلاسة: "لا أحب أن يراني العدو وأنا خائر القوى. فأنا أصرّ على الصحو، والظهور بأبهى حلّة لديّ، برغم ضعفي الجسدي."
أكمل (من غير كلام)، رافعاً سبعة أصابع، ومن ثم ثمانية، محاولاً التصريح لي عن وزنه قبل خوض الإضراب، والذي وصل حينها الى 87 كيلوغراماً. كوّر يديه بعدها جهة الساعد، ليوضح أنه كان شاباً عريض المنكبين والعضلات، فارع الطول، يمارس الرياضة بانتظام معتنياً بجسده الرياضي، وحريصاً على الحفاظ بمظهره نموذجياً، وبشكلٍ يليق بالبزة العسكرية التي يرتديها بفخر، كونه عسكرياً في جهاز الضابطة الجمركية. هذه المعلومة الوحيدة التي انتزعتها منه فقط. لقد آثر الغضنفر الكتابة لي عن أسرى آخرين. ثلاثة أسماء سطّرها بعناية، الأسير المريض إياد حريبات، واضعا خطّين تحت سجن الرملة، مقبرة الأسرى المرضى، من ثم كتب اسم مروان البرغوثي، وكريم يونس. ربت على رأسه بعدها، وحرك شفاهه، قائلاً: "هدول عراسي من فوق."
بصعوبة جاوزت نصف ساعة من الجهد والعناء؛ أصرّ الغضنفر على رواية حادثة عن الأسير مروان البرغوثي ووفائه لدم الشهداء. "التقيت به أول مرة في المعتقل، وعرّفت عن نفسي، ليسألني البرغوثي بعدها: شو بيقربلك (أبو الشنار)، فأجاب الأسد: عمّي. فهمّ مروان بتقبيل يديه، وفاء لذكرى عمّه الشهيد باجس أبو عطوان. يقول الغضنفر: خجلت كثيراً من نفسي أمام تصرف عظيم من قائد مثله.
في منتصف شهر حزيران الماضي، نُقِل الغضنفر الى مستشفى كبلان الاسرائيلي، القابع في مستوطنة (رحوفوت)، وهي بالأصل خربة الديران، التي تم تهجير الفلسطينيين منها في 1948، يواصل طرد الممرضات اللواتي يحاولن مباغتته وشكّه بإبر المدعمات والفيتامينات عند غيابه عن الوعي، لكنه ينتزعها معلناً رفضه القطعي لها.
إيمان الغضنفر بالحرية حتمي وعميق، ونخوته لا حدود لها. "لما أطلع، بدي أعزمك إنتِ والعيلة على طبخ إمي الزاكي، وإذا بدك أي شي أنا جاهز، صار عندي أخت سادسة." خجلت كثيراً من نفسي وقلّة حيلتي تجاهه.
يدرك الغضنفر احتمال الاستشهاد القائم، ويعلم جيّدا المخاطر الصحية التي تطال جسده. فقد بدأ جسمه ومنذ فترة بالتغذية على أعضائه الداخلية، مع خوف متربص من تلف خلايا دماغه، وتوقف عضلة القلب بشكل مفاجئ، بسبب نقص البوتاسيوم في الجسم. بالرغم من الخطر الداهم على صحّته، يُصعّد أبو عطوان في إضراب الكرامة الذي يخوضه اليوم، ممتنعاً عن شرب الماء، ومصوباً هدفه نحو الحرية التي لا مقابل لها، الحرية التي هي نفسها المقابل.