احملْ غيتارك وغنّ... ولو لأمّة تضطهد أنبياءها!

بقلم: ماري قصيفي

ماري القصّيفي
  • ماري القصّيفي

حين شاهدت الإعلان الذي نشره الموسيقيّ اللبنانيّ الهوية، الفلسطينيّ الانتماء والكنديّ الجنسية وليم نصّار على صفحته الرسميّة عن ورشة عمل موسيقيّة عبر الحدود للتضامن مع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيّين، قلت في نفسي: مسكين وليم كيف سيجد وسيلة للاعتذار من مئات الموهوبين العرب والفلسطينيّين الذين سيرغبون، بلا أدنى تردّد، في الانضمام إلى ورشة عمل: لغتها الموسيقى وهدفها الإنسان المظلوم؟

 

ولأنّ الدكتور الفنّان لا يجد دائمًا الوقت للردّ على الرسائل، لانشغاله بالورشة والتعليم الجامعيّ ومتابعة صراعه مع السرطان، لم أسأله بل تابعت صفحته عبر الفيسبوك لأرى ما ستؤول إليه أمور هذه الدعوة. وإذا بي بعد سنة وشهرين أقرأ البيان التالي:

"شكرًا لكل من ساهم معنا في إنجاز مشروع موسيقى عبر الحدود لدعم الأسرى والمعتقلين في سجون إسرائيل، الذي أطلقناه منذ عام تقريبًا.

أكثر من 900 ساعة لغاية الآن، محادثات وتدريبات وتسجيل عبر الانترنت، عدا عن المكالمات الهاتفيّة والفيديو والرسائل الإلكترونيّة.

شكرًا للموسيقيّين الذين تبرّعوا بوقتهم من إيطاليا، اليونان، كندا، الولايات المتحدة، اليابان، إسبانيا، السويد، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، كوبا، الدنمارك، روسيا، الكويت، مصر والسعودية.

سوف نذكر أسماء الموسيقيين عند إطلاق العمل ...

ملاحظة لا بد من ذكرها رغم قساوتها:

تواصلنا مع مؤسّسات ومنظّمات فلسطينية للمساهمة في المشروع من خلال أصوات قادرة على الغناء باللغة العربيّة لكن للأسف لم يهتموا للموضوع.

أيضًا، من تواصلنا معهم بشكل فرديّ من لبنانيّين وفلسطينيّين وسورييّن، كان أول سؤال طرحوه على منسق العلاقات في المشروع : هل المشاركة مجانية؟ أو، ألن يكون هناك مقطع صولو لنا؟ وكانوا يختفون لأنه لن يكون لديهم نافذة للشهرة الشخصية أو لأن المشروع تطوّعي.

نذكر ذلك بعميق الحزن، وفلسطين تبقى أكبر من الجميع.

المشروع قارب على الانتهاء دون مشاركة أيّ فلسطيني أو من يجب أن يعنيهم المشروع بالدرجة الأولى من أبطال اليسار وسورية الكبرى والصغرى والمقاومة والممانعة والنضال."

انتهى بيان الدكتور وليم نصّار!

***

قد يكون وليم نصّار شخصيّة يساريّة إشكاليّة يصعب التعامل معها، وقد يكون لغيابه عن الساحة الفنيّة العربيّة دور في نأي المحترفين الجدد والهواة عن المشاركة في هذه الورشة، لكن ألّا يتّصل أحد إلّا للسؤال عن الأجر أو الغناء المنفرد، فذلك ما لم تستطع مخيّلتي أن تصل إليه، وقلت في نفسي: حرام يا أنا كيف توقّعت هجوم المئات للمشاركة في عمل داعم للأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيليّة، وفي الواقع لم يشارك أحد، بينما تنهال يوميًّا ملايين البوستات والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعيّ دعمًا للقضيّة الفلسطينيّة!

 

ثمّة أمران أرغب في التوقّف عندهما أمام هذا المشهد: العمل الفريقيّ الجماعيّ، والصراع مع إسرائيل في شقّه الحضاريّ.

حين صدرت أوبريت الحلم العربيّ عام 1998، (الكلمات لمدحت العدل، واللحن لصلاح الشرنوبي وحلمي بكر) أحدثت ضجّة كبيرة على امتداد العالم العربيّ، لكونها من المرّات النادرة التي تجتمع فيها مواهب فنيّة في عمل غنائيّ واحد. فعدا السينما والمسرح في عصر ذهبيّ بائد، كانت الفنون العربيّة والآداب أحاديّة الصوت والصورة، تقوم على نجوميّة شخص واحد، كما في الشعر والغناء والنحت والرسم والعزف والرقص الشرقيّ. حتّى السينما والمسرح كانا يجنحان عمومًا إلى نجم أو نجمة توضع عناصر العمل كلّه في خدمتهما. ومع الوقت أفل نجم السينما وأقفلت المسارح وصارت الفرق الراقصة محصورة بعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. وكان لبرامج الهواة بدءًا من استديو الفنّ دور في تعزيز الروح الفرديّة، عبر الإضاءة على شخص واحد في فئة معيّنة يكون هو محور الاهتمام ومشروع نجم. في المقابل أتت المشاركات الجماعيّة محصورة بالدبكة.

ومن السهل أن يصحّ هذا الكلام على الفرق الرياضيّة والمؤتمرات العلميّة والمشاركات في الأبحاث والاكتشافات والاختراعات.

نحن إذًا لا نجيد العمل ضمن فريق، وبالتالي سيصعب الآن والعالم كلّه في حالة انطواء وعزلة وصراع من أجل البقاء أن نراهن على جيل يرغب أبناؤه في التعاون، بل ربّما علينا أن نتوقّع المزيد من التهافت على أحاديّة الوجود والظهور في مقابل تغييب كلّ شخص آخر. عدا عن خصوصيّة الوضع الفلسطينيّ واللبنانيّ حيث يسعى كلّ فرد إلى خلاصه الشخصيّ.

من هنا، يبدو الصراع مع إسرائيل محكومًا بالفشل على الصعيد الحضاريّ. فإن كنّا استطعنا أن نقاوم حتى الآن فلأنّنا نتّكئ على مخزون فكريّ وشعريّ وموسيقيّ هائل. لكن لم يعد ينفع أن نجترّ تراثًا قائمًا على الفرديّة واللامجانيّة إن كنّا نريد الانتصار حقًّا في معركة مصيريّة كهذه. ولن ينفع السلاح والقتال حين تقتحم إسرائيل، كدولة ومجموعات، مختلف المحافل الدوليّة وتفرض نفسها في العلوم والآداب والفنون. بينما تبقى نجاحاتنا فرديّة، لا دولة تشجّعها ولا شعب يصفّق لها.

 

في 30 حزيران 2021 اختصر وليم نصّار عبر فيسبوك كلّ ذلك، إذ كتب: "صراعنا مع إسرائيل ليس صراعًا على أرض مسلوبة وحقّ شعب طرد من أرضه ...إنّه صراع حضاريّ بين أغنية ناغيلا هافا ... وأغنية طلّ سلاحي من جراحي ... والمنتصر هو من يجعل العالم يغني أغنيته ...ولغاية الآن ... هم المنتصرون."

 

حين دعا نصّار إلى عمل تعاونيّ جماعيّ مجّانيّ من أجل فلسطين لم يلبّ النداء عربيّ أو لبنانيّ أو فلسطينيّ. فالعربيّ يحتفل بالصلح والتطبيع، واللبنانيّ مشغول بالهموم المعيشيّة اليوميّة، والفلسطينيّ يقول ساخرًا: أليس البقاء في السجون الإسرائيليّة أشرف من الخروج إلى حيث "ظلم ذوي القربى" وفسادهم؟

***

يوم كتبت في 26 شباط مقالة عن وليم نصّار المقاوم بالموسيقى حتى آخر مظلوم في الأرض، وصلتني رسائل تستغرب اهتمامي بهذا اليساريّ "المنشقّ"، وبهذا الفنّان "المزاجيّ"، وبهذا الذي "لا يأخذ التزامه على محمل الجدّ"، وبهذا الذي "صرع رأسنا بمرضه"... اليوم وأنا أعود للكتابة عن ورشته الموسيقيّة في أسوأ مرحلة من انهيارنا الاقتصاديّ المعيشيّ، أعرف أنّ كثيرين لن يروا لبنان في ما أكتبه عن وليم نصّار، شقيق الشهيدين، وابن البلدين المهدّدين بالامّحاء، والفنّان الذي كان في إمكانه أن يصير كنديًّا بحتًا، وأن ينسى شقّه اللبنانيّ الذي حاول اغتياله وشقّه الفلسطينيّ الذي لا يتوقّف عن اضطهاده... لكنّه اختار عن سابق تصوّر وتصميم ألّا يفعل.

ولن يرى كثر أنّني لا أكتب فقط عن ورشة موسيقيّة لم يشارك فيها عربيّ واحد، بينما سارع موسيقيّون متطوّعون من بلدان أوروبيّة كثيرة إلى تلبية النداء بعد يومين فقط من إطلاقه... بل أكتب عن مشروع حضاريّ من الواجب أن يكون سلاحنا المقاوم الوحيد القادر على تحرير فلسطين وحفظ لبنان وحماية سوريا والعراق. ولا أقصد حصرًا مشروع وليم نصّار، بل أن يكون هذا النوع من العمل نهج المقاومة الجديد.

 

أليس الالتهاء بصورة فيروز في شيخوختها من ضمن هذا الانهيار الحضاريّ؟ أليس عدم بثّ أغنياتها عبر تلفزيونات المقاومة وإذاعاتها وجهًا من وجوه الهزيمة الحضاريّة؟

ألا يشبه كاتم الصوت الذي يقتل المفكّرين والمثّقفين والناشطين في بلادنا عزوفَ الموسيقيّين عن العزف في ورشة عمل موسيقيّة من أجل المعتقلين؟

ولماذا نستسهل الصراخ المجّانيّ في الشارع ونستصعب الغناء التطوّعيّ على مسارح العالم لإيصال صوتنا؟ وكيف صرنا نسترخص الموت، ونهزأ بصانعي الحياة والمدافعين عنها؟

أبهذه السهولة تنتهي القضايا ويُنسى الأسرى الفلسطينيّون في سجون إسرائيل كما يُنسى الأسرى اللبنانيّون في سجون سوريا؟

ألا تموت البلاد حين نتوقّف عن الغناء؟

 

الموسيقيّ اللبنانيّ الفلسطينيّ الكنديّ متردّد في نشر مشروعه. يقول إنّه خجل من المتطوّعين الأجانب الذين تمنّى عليهم أن يغنّوا باللغة العربيّة بعض الكلمات البسيطة؛ ولا يعرف كيف يشرح لهم أنّ الانتماء القبليّ والعائليّ والطائفيّ والحزبيّ في بلادنا أقوى من الحسّ الوطنيّ؛ وأنّ العطاء عندنا مرتبط بمكافأة من السماء لا بخير الإنسان، وأنّ الناس في أمّتنا ما عادوا يؤمنون بدور الفنون في خلاص المجتمع، وأنّ التنظيمات اليساريّة الفلسطينيّة ليست أفضل حالًا من التنظيمات الدينيّة الأصوليّة...

وليم نصّار! بالرغم من ذلك كلّه...

إحمل غيتارك وغنّ... ولو لأمّة تضطهد أنبياءها وشعراءها وفنّانيها وكلّ عاشق فيها.

احمل غيتارك وغنّ... لأنّك إن لم تفعل فلن تكون أنت!

وإن لم أكتب، مرّة ثانية، عن الفنّان الملتزم الذي فيك، المقاوم بالموسيقى حتى تحرير آخر مظلوم... فلن أكون أنا!

ماري القصّيفي

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت