- سري سمور
- كاتب ومدون فلسطيني
أفرزت مواقع التواصل الاجتماعي -التي صارت ربما الأداة الأولى والأبرز في تبيان المواقف وخوض الحروب الإعلامية لدى قطاع عريض في ساحات ومجتمعات مختلفة منها، إذا لم يكن في طليعتها مجتمعاتنا العربية- ظاهرة أسميها "الترحم الاستدراكي"، والمتمثلة بالترحم على شخص مات يكون محل خلاف وجدل بين أطراف مختلفة، ثم إتباع الترحم بشرح أو إيجاز حول نقاط الخلاف، حد الجلد والذم والقدح والهمز واللمز.
وأصحاب هذه الظاهرة ليسوا بعيدين عمن لا يخفون شماتتهم وفرحهم بموت شخص يعتبرونه عدوا مبينا، بل لعل الشامت والفرح منسجم مع نفسه وصريح وواضح في طرحه، فيما "المترحمون الاستدراكيون" يجعلون عبارة الترحم قنطرة، بل شرارة إيقاد لهجومهم وغمزهم ولمزهم بغض النظر أكانوا على حق أم لا، مع أنه يفترض بهم كونهم اختاروا الترحم الاكتفاء بعباراته وصيغه، ثم اختيار وقت آخر لتبيان ما يرونها مثالب ومآخذ على الميت.
أحمد جبريل مات.. وفُتحت ذكريات
أعلن في العاصمة السورية دمشق يوم الأربعاء 2021/7/7 عن وفاة الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة أحمد جبريل (أبو جهاد) عن 83 عاما وفاة طبيعية سبقها مرض الرجل.
بالطبع، فتح موت الرجل الباب على مصراعيه أمام جماعة "الترحم الاستدراكي"، وأيضا أمام الشامتين الفرحين الكارهين له، لإبداء موقفهم منه ومن سياساته، مقابل وموازاة من أحبوه أو أحبوا نهجه، واشتعلت ساحات الجدل على فيسبوك وتويتر.
بالنسبة لي، فإن موت أحمد جبريل فتح صنبور ذكريات مختلفة يختلط فيها ما هو مشاعر طفولة بريئة والنقاء الثوري للشباب مع مراحل تراكم الوعي والزهد في الأشخاص والنضج الذي خالطته مراحل العجز والإحباط.
والذكريات لم تكن عشوائية بل متسلسلة، كان في صدارتها مشهد عبر شاشة التلفزيون (بالأبيض والأسود) لعملية أو صفقة تبادل الأسرى (عملية الجليل) في العام 1985، وقتها لم يعلق في ذهني اسم أحمد جبريل ولا أسماء من حُرروا من الأسر في تلك الصفقة الكبيرة التي كان على الشعب الفلسطيني أن ينتظر حتى 2011 ليشهد صفقة كبيرة أخرى في ظروف جيوسياسية وميدانية مختلفة.
أول ما سمعت بأحمد جبريل كان بعد الصفقة بعامين تقريبا حين وقعت عملية "ليلة الطائرات الشراعية- عملية قبية" في نوفمبر/تشرين الثاني 1987 قرب مستعمرة "كريات شمونة"، تلك العملية النوعية الجريئة التي شارك فيها التونسي والسوري إلى جانب الفلسطيني، والتي اعتبر مؤرخون ومراقبون أنها ساهمت كثيرا في اندلاع انتفاضة الحجارة بعد أسابيع قليلة أواخر نفس العام 1987.
منذ ذلك الحين سيتردد اسم أحمد جبريل والتنظيم الذي تقوده الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كثيرا في الإعلام، وسيسعى الفتى المسكون بشغف المعرفة إلى معرفة المزيد عنه في ظل شح المصادر واحتكارها.
وسيتهم الإعلام الغربي والإسرائيلي أحمد جبريل بأنه مسؤول عن تفجير طائرة "بان أميركان" فوق لوكربي في أسكتلندا (1988) لصالح إيران أو ليبيا القذافي لسنوات، قبل إغلاق القذافي هذا الملف دون أن يكون لجبريل شأن في ما اتهم به.
كانت "إذاعة القدس.. الإذاعة العربية الفلسطينية على طريق تحرير الأرض والإنسان" أحد المتنفسات الإعلامية القليلة لأهالي الأرض المحتلة، وكانت تتبع جبريل وتبث من السويداء (جنوبي سوريا)، ومع أن تلك الإذاعة كانت أحيانا تهول وتبالغ، بل تبث أخبارا عن مواجهات في منطقة ما تكون هادئة تماما إلا أنها لعبت دورا في بث روح الحماسة والمشاعر الثورية بطريقة عرض أخبار المواجهات، في ظل إعلام إسرائيلي متمرس وموجه لتحطيم روحنا المعنوية، وعربي مشغول بتمجيد ذاته وحكامه ودورهم في دعم الشعب الفلسطيني، خاصة بما كانت تبثه "القدس" على مدار ساعات البث من أغان وطنية، ثم لاحقا أناشيد إسلامية جهادية.
ومن جهاز المذياع الذي كان يجب أن نضعه في مكان معين في البيت مع توجيه الهوائي وغير ذلك من التدابير لتقليل التشويش الإسرائيلي على بث إذاعة القدس سمعت خطابا لأحمد جبريل أول مرة في حياتي.
وبداهة، فإن من هو مبارز -أو يظهر كذلك- للصهيونية والمخططات الأميركية ولعملية التسوية سيجد بسهولة مكانا في قلب الفتى النقي من الشوائب السياسية.
تمر الأيام وتتنوع القراءات ويأتي عصر الإنترنت والفضائيات كي يتاح لمن كان فتى يتعلق بسهولة بالشخوص أن يرى الرجل ويسمعه بعدما قرأ عنه كل ما وقع تحت يده من كتب ومقالات، ومن الطبيعي أن يبلور رأيا وفكرة واضحة على الأقل هو مقتنع بها وقد بلغ عقده الخامس.
التنظيم المغلق غير التبشيري
بعيدا عن الذكريات والانطباعات الشخصية المتأثرة بمراحل عمرية وظروف موضوعية مختلفة فإن هناك مزايا خاصة بأحمد جبريل وتنظيمه جعلته يبدو مختلفا عن غيره.
الفلسطيني في الأرض المحتلة يعرف بحكم الواقع أبناء الفصائل والتنظيمات ويكون له احتكاك مباشر بهم بغض النظر عن انخراطه فيها أو تأييده ومناصرته أو ابتعاده، فهم يعيشون بين الناس، ولا تكاد توجد أسرة فلسطينية إلا ومنها فرد على الأقل خاض تجربة العمل مع تنظيم فلسطيني.
لكن تنظيم أحمد جبريل في الأراضي الفلسطينية كان وما زال غير تبشيري، أي لا يحاول أفراده -وهم قلة قليلة يعدون في كل منطقة على أصابع اليد الواحدة- استقطاب غيرهم إلى صفوفهم، وهم لا يخوضون انتخابات مجالس طلبة الجامعات ولا توجد لهم مؤسسات خيرية أو رياضية أو غيرها، وفي سجون الاحتلال إذا وجدوا فهم قلة لا توجد لهم "كوتة"، حيث إن التنظيمات الأخرى في السجون (فتح وحماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية) لها غرف أو خيام خاصة بأفرادها يعيشون سويا، وعلى الأسير من تنظيم أحمد جبريل (قلة وأحيانا لا أحد) أن يعيش تحت كنف التنظيمات الأخرى، ربما هذا الانغلاق جعل من الصعوبة بمكان اختراق التنظيم الحديدي من قبل المخابرات المعادية.
هذا الانغلاق التنظيمي له أسبابه التي لا مجال لاستعراضها، والتنظيم في مخيمات سوريا ولبنان ومنذ سنوات في قطاع غزة ليس كما هو في الضفة الغربية التي تكاد تخلو من عناصره تقريبا، فهو هو جناح من أجنحة سوريا وإيران إذا أردنا الدقة، وطوال مسيرته لم يشذ عن سياسة دمشق ثم طهران.
لكنه امتاز بتنفيذ عمليات نوعية متباعدة ضد الأهداف الإسرائيلية، وظل يرفض التسوية وما تسمى عملية السلام رفضا مطلقا، وهذا ما جعله قريبا من حماس والجهاد الإسلامي.
لكن التنظيم ظل مخلصا إخلاصا أعمى للنظام السوري، وهو ما سيجعل علاقته بحماس تشهد توترا ونفورا بعد اندلاع الثورة السورية، طبعا التنظيم لا يعتبرها ثورة، بل يتبنى وجهة نظر النظام فيها.
ازدواجية الولاء والخيارات المؤلمة
لا يتسع المجال لاستعراض كافة مراحل حياة أحمد جبريل (ولد في اليازور- يافا سنة 1938)، فثمة مرقومات ومرئيات دسمة تكفي من يريد التزود بمعلومات، مع قناعتي بما يقال إن الرجل كان لديه صندوق من الأسرار التي لم يبح بكثير منها لأحد مع أنه أسهب في الحديث مع الإعلام (مثلا لقاءات مع قناة الجزيرة والميادين على فترتين متباعدتين)، ولكن هناك أشياء يمكن أن نؤكدها وهي أن أحمد جبريل شخصية لها بصمتها في النضال الفلسطيني مع أنه لا يحظى بشعبية وجماهيرية في أوساط الفلسطينيين.
وإذا كنت في سطور سابقة تحدثت عن عملية مشتركة بين تونسي وسوري وفلسطيني يتبعون تنظيم أحمد جبريل -في دلالة على أن المقاومة والشهادة تتجاوز الحدود- ولكن في محطات أخرى فإن تقسيمات "سايكس- بيكو" وأخواتها وشبيهاتها تظل حاضرة تفرض علينا تبعاتها.
فأحمد جبريل خاله هو صبري العسلي، أي أن أمه سورية، وقد اعتاد العديد من الميسورين في يافا على الزواج من نساء دمشقيات قبل النكبة، وحظ جبريل أن خاله سياسي ومسؤول بارز سيصبح لاحقا رئيس الحكومة السورية.
هذا جعل جبريل في وضع مختلف عن بقية اللاجئين الفلسطينيين، خاصة القادة منهم، حيث حصل على الجنسية السورية مبكرا، وخدم كضابط في الجيش السوري، وبالتالي فإن ولاءه الأساس للنظام السوري وجيشه.
ولو أن النظام السوري قرر خوض حرب استنزاف مع الجيش الإسرائيلي لوجدنا أحمد جبريل ومقاتليه في مقدمة الصفوف وشهدنا لهم بطولات وجرأة وشجاعة بلا شك، وهذا درس قاس لكل من خاض غمار المقاومة الفلسطينية، فحسابات الأنظمة والحكومات غالبا ما تتعارض مع ما تشتاق له أرض فلسطين.
اتفاق على فلسطين واختلاف على غيرها
رحل أحمد جبريل وقد قدم نجله البكر شهيدا، وله بصمات واضحة، ولكن لا يمكننا تجاهل من يبغضونه ويتشفون بموته، فهم صنفان: الأول فلسطينيون يعتبرونه مسؤولا أو مشاركا في حرب المخيمات وما فيها من آلام ودماء في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، إضافة إلى لاجئين فلسطينيين في سوريا شهدوا مشاركته قوات نظام الأسد في قمعهم، والثاني من السوريين الكارهين لبشار وكل من وقف معه ولو بكلمة، فكيف برجل سانده بالرجال والسلاح؟ ولا بد أن نذكّر إخوتنا السوريين بأن حصتهم في جبريل ليست قليلة فهم أخواله، والخال والد كما يقال دوما.
أحمد جبريل وقف مع القذافي في حربه مع تشاد، حيث أقر بما يشبه التفاخر في لقاء متلفز بأنه أرسل مقاتلي تنظيمه إلى تلك البلاد، وهي معركة لا ناقة لفلسطين فيها ولا جمل، لكنه دافع عن خياره.
وبالتالي فهناك كثير مما يستدعي الخلاف مع أحمد جبريل في ملفات لا تخص فلسطين، ولكن لا خلاف مع الرجل -كما يفترض- في موضوع تبني الكفاح المسلح سبيلا لتحرير فلسطين، أما القول إن جبريل ختم حياته بالوقوف مع نظام قمعي فهو غير دقيق من ناحية أنه منذ شبابه وقف مع هذا النظام، ولو أن الأحداث في سوريا وقعت في زمن سابق لسنة 2011 لما كان موقفه مختلفا.
فأحمد جبريل ظل صريحا في مواقفه متمترسا صلبا خلف ما يراه صوابا، سليط اللسان ضد خصومه أو المختلفين معه، هو العسكري الصلب صاحب البنية الجسدية القوية التي تحملت خوض المعارك حتى وهو مصاب إصابات بالغة تهدد حياته أو قد تسبب له الشلل.
ونأى أحمد جبريل بنفسه عن المناكفات الأيديولوجية، فانتقل بسلاسة إلى استخدام الخطاب الإسلامي ومفرداته منذ أكثر من 30 عاما، ولكنه رغم إيمانه المطلق بضرورة العمل على تصفية الكيان الإسرائيلي فإنه ظل ساعيا بكل ما أوتي من قوة -وفق قناعة مطلقة- إلى وضع قضية فلسطين تحت وصاية النظام السوري، وهذا ما جعله هو وتنظيمه حالة محصورة في نطاق ضيق فلسطينيا، وجعله يصطدم بمختلف الفصائل الفلسطينية عبر مراحل زمنية مختلفة.
مات أحمد جبريل.. "كل من عليها فان"، فكيف ستقيّمه الأجيال الفلسطينية القادمة؟ الله تعالى أعلى وأعلم.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت