التحول من إدارة الصراع إلى حسمه

بقلم: محمد إغبارية

محمد إغبارية
  • بقلم الأسير المجاهد: محمد سعيد إغبارية

سجن ريمون الصحراوي

تتالت أحداث كثيرة ودراماتيكية في منطقتنا العربية في العقد الأخير، وهي أصلًا حصاد سياسات واستراتيجيات معمول عليها منذ عقود من جهات عديدة وبخاصة الدولة المحتلة، وأمريكا.

جميع هذه الأحداث، مسنودة بعوامل أخرى عديدة، غذت لدى الكيان الغاصب الشهية والاقتناع بأن الساعة قد حانت للانتقال من استراتيجية "إدارة الصراع" مع الفلسطينيين والعرب، و"كسب الوقت" إلى استراتيجية "حسم الصراع" معهم بأسرع وقت.

هذه الرؤية قد عبر عنها نفتالي بنيت، رئيس الحكومة الآن، قبل حوالي ثلاث سنوات، وثمة مشروع نظري منظم نشره بتسلال سموتريتش أحد أركان اليمين المتطرف تحت عنوان "برنامج الحسم" (وأحسب أن قراءته واجبة).

جميع النخب الصهيونية كافة: السياسية، والعسكرية، والأمنية قد تملكها شعور أن التاريخ بعد هذه التطورات الخطيرة قد منحت لكيانهم نافذة تاريخية نادرة، قد لا تتكرر في القرن إلا مرة واحدة، كانهيار بعض دول الطوق، وانكفاء بعض الدول العربية المذعورة على ذاتها، والأهم بالنسبة لهم مسارعة بعضها إلى التطبيع معهم إيذانًا تاريخيًا بانتصار نظرية "الجدار الحديدي" لزئيف جيبوتانسكي، فضلًا عن الوضع الفلسطيني الذي لم يكن مواتيًا كما هو اليوم؛ لتحقيق حلمهم التاريخي في السيطرة الكاملة على فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر.

وعماد هذا الحلم والمشروع، الإجهاز على درة التاج وقدس الأقداس، قبة الصخرة المشرفة وما حولها، حيث يقبع بزعمهم هيكلهم القديم، أي أنها ستكون الهجمة الأخيرة على لباب القضية الفلسطينية، وآخر عناصر هوية المكان الفلسطيني، والتي باتت أيضًا بالنسبة للفلسطينيين آخر الروافع الوحيدة المتبقية القادرة على توحيد الصف والكلمة وتحشيد طاقات الأمة واستنهاضها. وهذا ما يفسر:

أولًا: إرخاء الرسن لأوغاد المستوطنين عمدًا، وهم قوى رديفة لجيش الاحتلال؛ لترويع الفلسطينيين الآمنين في بيوتهم بجرأة لافتة وبوتيرة متزايدة، وملاحقة الفلاحين بالأذى والضرر في أراضيهم ولقمة عيشهم، وزرع القتل الموزع زمانًا ومكانًا في الضفة الغربية على يد حيش الاحتلال وقواه الرديفة غير الرسمية من المستوطنين للمواطن الفلسطيني لأتفه سبب وبلا سبب، وهو نفس القتل في الداخل الفلسطيني الموزع أيضًا زمانًا ومكانًا بحق فلسطينيي الداخل ولنفس الهدف، لكن عبر فسح المجال لتفشي الفقر والبطالة وتوافر الأسلحة أكثر من توافر الخبز في الأسواق، فضلًا عن انتشار عصابات الإجرام التي تجند من مخزون الشباب المعطل عمدًا عن العمل طوابير جيوشها لتستلب بجرائمها وأفعالها الأمن الشخصي والاستقرار الاجتماعي لفلسطينيي الداخل، ناهيك عما كشفته القناة (12) في تحقيقها الصحفي أن كثيرًا من القتلة في الداخل هم من المرتبطين مع الشاباك، دون أن تعمد الشرطة إلى اعتقالهم ما تسنى ذلك ضمانًا لاستمرار عمالتهم لها وللشاباك، خالقة بذلك وضعًا لا يطاق وطاردًا لرغبة البقاء في المكان، فإذا كان المكان الفلسطيني مزروعًا كله بالقتل والجريمة، فلا يبقى أمامهم سوى خيار الهجرة المسهلة دربه.

ثانيًا: التغول الجنوني للهجمة الاستيطانية المسعورة والمنفلتة عبر عمليات توليد للبؤر الاستيطانية في كل مكان، وآخرها مستوطنة أفيتار المقامة على أراضي قرية بيتا، وتكاثر المزارع الفردية في منطقة (ج)، وهي نمط وأداة استيطانية جديدة مستحدثة للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض الفلسطينية بأقل عدد من المستوطنين، وبالدقة بواسطة مستوطن شاب مع زوجته المستوطنة يُبنى لهما بيتًا متواضعًا من الزينكو، مع توفير قطيع من الغنم أو الماعز لهم، بحيث تكون حدود مزرعته عند آخر نقطة تستطيع الماعز الوصول إليها، وهذه هي بزعمهم الطلائعية التضحوية العملانية الجديدة للصهيونية. وهذا الترسيم لحدود أراضي الرعي للمزرعة يذكرنا بعربدات كُليب أخ الزير سالم والتي كانت تترسم عند آخر مدى يصل إليه نباح كلبه؛ لأن الضعف مع العجز دعوة للعربدة من قبل القوي الجشع، وأهلنا في الضفة الغربية، وللأسف، مجردين من حماية القريب والبعيد، فإنك إن كنت ضعيفًا نسبيًا لكنك غير عاجز للدفاع عن نفسك بل وأحيانًا تهاجم عدوك وتفرض عليه معادلاتك، كما الحال مع قطاع غزة والمقاومة الشامخة (على شقيها العسكري والشعبي)، فستحافظ على صمودك وكرامتك الوطنية وتحمي منجزاتك نحو المزيد.

غير أن الأمر بالضفة الغربية يختلف؛ لأنه قد جمع حاليًا بين الضعف والعجز، وأشدد حاليًا.

ثالثًا: عملهم بالوسائل السابقة وأخرى لمحاصرة وحشر جميع فلسطيني الضفة الغربية ولاسيما سكان منطقة (ج) إلى داخل منطقتي (أ) و (ب) المعازل (كانتونات) المخصصة لهم، تمهيدًا إلى تهجيرهم القسري عند نشوب أول حرب إقليمية كبرى إلى الأردن الوطن البديل للفلسطينيين كما يريده جناح اليمين الصهيوني، والذي كثيرًا ما عبَّر عنه كبار رموزهم. إذ لم تعد استراتيجية اليمين أن الأردن هو العمق الاستراتيجي في الأمن القومي الإسرائيلي، وحدود الأردن الشرقية هي الحدود الأمنية الشرقية لإسرائيل وإنما يجب أن تكون الأردن الآن هو الوطن القومي البديل للفلسطينيين.

غير أن أحداث ما قبل 28 رمضان، الموافق 10/5/2021م (باب العامود وحي الشيخ جراح وليلة القدر) وبالتحديد معركة سيف القدس، والتي كانت بمجموعها ذروة الصراع والصدام بين رأسي الروايتين والمشروعين: الرواية القومية الدينية للصهاينة، مقابل الراوية الدينية الإسلامية والمسيحية للفلسطينيين، وبين المشروع الاستعماري الإحلالي الصهيوني، مقابل المشروع الوطني التحرري الفلسطيني، قد أعادت لفلسطين وحدتها، وللقضية الفلسطينية مركزيتها، وللمقاومة قيادتها وتمثيلها لطموح شعبنا وهمومه وأهدافه الوطنية، وتحولها باقتدار وتضحية إلى مصدر فخر واعتزاز لكل فلسطيني وعربي في كل مكان.

ومن أكثر المشاهد تأثيرًا وتأكيدًا لوحدة فلسطين شعبًا وأرضًا، هو الأعداد المتزايدة بالآلاف من فلسطينيي الداخل الذين يمموا وجوههم للأقصى إحياء لليلة القدر، على غير عادتهم، عبر طريق رقم 1، وهو المدخل الغربي لمدنية القدس من جهة يافا، مما دفع سلطات الاحتلال لإغلاقه أمام حركة المرور خوفًا من أن يصلوا إلى الأقصى الشريف، ثم ينضموا إلى نضال إخوانهم في الأقصى وفي باب العامود وحي الشيخ جراح، مما اضطرهم للترجل رجالًا ونساءً وأطفالًا نحو القدس بإصرار لافت، وتحدٍ لا يلين؛ لأنهم أدركوا بحسهم الوطني الأصيل أن عملية حسم تدور رحاها حول الأقصى والقدس وأن لحظة حسمهم هم موعدها الآن، فإما أن يرتدوا على أعقابهم، وإما أن يتقدموا نحو القدس مهما كلف الثمن، فكان اختيارهم أن لا مجال للتراجع مهما طال الطريق، فهذه معركة لها ما بعدها.

غير أن المؤثر جدًا والمهم جدًا أنه عندما أدرك المترجلين آذان المغرب وهم في الطريق، نزل إخوانهم من أهالي قرية أبو غوش يلاقونهم بالماء والتمر والعناق والدموع.

وهذه القرية تقع على الجبال المشرفة على البوابة الغربية لمدينة القدس. وحسب ما روى لنا أحد معتقليهم أن أهالي البلد جميعهم قد نزلوا والشعور بعزة الانتماء يتملكهم، وبدا على الجميع تأثرهم الكبير بأداء المقاومة وتصريحات محمد ضيف.

ومن يعرف أبو غوش التي بعضًا من شبابها يتجندون في جيش الاحتلال وعمق علاقاتهم الجيدة والتاريخية مع محيطه اليهودي، سيتعاظم، بلا شك، عجبه وارتياحه وسيترسخ إيمانه ببداية تحقق وعد الآخرة.

لذلك لا يمكن للمقاومة أن تتراجع عما بدأته في معركة سيف القدس، وتعود إلى عقلية "إدارة الصراع" فيما المحتل يواجه الشعب الفلسطيني بعقلية "حسم الصراع".

يجب أن تتملكنا عقلية "حسم الصراع" بكل ما تتطلبه من بنية تحتية، ذهنية ومادية، وإعداد، وتخطيط وإدارة معارك، وغرفة العمليات المشتركة للمقاومة في غزة تعد أحد أهم إبداعات وإنجازات "عقلية الحسم"؛ لأنها تؤسس لمبدأ الشراكة والقيادة المشتركة، ونواة الجيش الوطني الفلسطيني، وهذا يتطلب تقديم التنازلات الطفيفة من جميع مكونات الغرفة ولاسيما حماس والجهاد ثم باقي الفصائل.

نتنازل عن القليل لنحصل على الشيء الكبير: أن نتصرف كشعب واحد يجمعه هدف واحد ومصير مشترك.

12/07/2021م

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت