- د. أسامه الفرا
لأن صديقي يعرف جيداً أنني أعشق القهوة، منذ أن قرأت ما كتب محمود درويش عنها وكيف يصنع فنجان قهوته وسط القذائف المتساقطة على بيروت والتي يمكن لواحدة منها أن تأخذه إلى العالم الآخر قبل أن يتذوق نكهة قهوته، اقترح أن نذهب لتناول فنجان قهوة في مطعم لصديق لنا إفتتحه مؤخراً في عاصمة الحكم المؤقتة، وكثيراً ما يصبح المؤقت لدينا دائماً فالحكومة تأتي مؤقتة لتعمر أكثر من غيرها، والإنقسام وصفناه بالمؤقت فسرق من أعمارنا عقد ونيف وما زال على حاله، وإختزال الراتب إلى ما دون النصف يمرر علينا بأنه مؤقت تحت تأثير خلل فني فيتحول بقدرة قادر إلى دائم لا يجوز لرئيس الوزراء تعديله.
ما أن وصلت برفقة صديقي إلى المطعم حتى بدا لنا الإنتشار الأمني الكثيف في المكان، وكون المطعم يقع في أطراف المدينة ولا يجاوره شيء يذكر فالمؤكد أن الوجود الأمني له علاقة بالمطعم دون سواه، همس صديقي ربما جاء الرئيس بضيف له لتناول العشاء، ما أن أخذنا مكاناً لنا داخل المطعم حتى تفحصناه يميناً ويساراً علنا نفك طلاسم الانتشار الأمني فعدنا بخيبة أمل، لم يشأ صديقي أن يتنازل عن فكرة أن الانتشار الأمني يخص الرئيس دون سواه وأنه لم يصل بعد، أنكرت على صديقي ما ذهب إليه سيما وأن الرئيس لم يسبق له أن فعلها مع اسرته فكيف يفعلها مع ضيف له، ما أن إنضم إلينا صديقنا صاحب المطعم حتى بادرنا بسؤاله عن سر الانتشار قبل أن نسأله عن أحواله، دنا برأسه نحونا قبل أن يطيح بوجهه ناحية مكان مغلق في المطعم يحجب من بداخله عن بقية القوم وقال همساً خشية أن يسمعه العسس: السيد الوزير !!!، غرقنا جميعاً بالضحك على حالنا وعلى ما فعله وزير الصدفة بنا.
توقف صديقي عن الضحك وعبس وجهه، فقد خاب حدسه الأمني من جهة، ومن جهة أخرى فهو العارف بتاريخ وزير الغفلة وطموحه الذي لم يتعد يوماً مرتبة المندوب، لكن الحالم بأن يكون مندوباً صار وزيراً يسير في موكب يحفه المرافقون من أمامه وخلفه وعن يمينه وشماله، مشكلتنا مع هذا الوزير وأشكاله، قالها صديقي وسط تنهيدة عميقة بعد أن جحظت عيناه، لا تتعلق بالبهرجة التي يعيش فيها وكم يكلف موكبه خزينة السلطة شهرياً، ولا الهالة التي يحاول أن يصنعها لنفسه ليوهم بها من لا يعرفه، ولا ثقافة التعالي على الناس التي يعيش في كنفها وهو أقل منهم شأناً، ولا ربطات عنقة ذات الماركة العالمية ويكفي ثمن واحدة منها إشباع أسرة عدة شهور، بل في ثلة الأخيار من شعبنا الذين سيضطرون لاحقاً لتسديد فواتير فساده وفساد من هو على شاكلته، مشكلتنا أننا نتحمل تبعات عقدة النقص والعجز المرافقة لهم. عاد صديقي ليذكرني بعد سنوات بعشاء الوزير ومعه مقطع فيديو يرصد جوارب جاستن ترودو "رئيس وزراء كندا"، لم يكن الشاب ترودو بحاجة إلى أكثر من عامين بعد إنتخابه رئيساً للحزب الليبرالي الكندي كي يعيد تنقية الحزب من الفساد الذي علق به، ليسجل بعدها فوزراً كاسحاً في الانتخابات على غريمه حزب المحافظين، وصبيحة اليوم التالي ذهب إلى محطة مترو الأانفاق ليصافح المواطنين ويشكرهم على التصويت لحزبه ويلتقط معهم صور السيلفي في مشهد لا نألفه في عالمنا العربي،
المهم أن الشاب ترودو الذي جاء من عائلة لها باع طويل في السياسة والأعمال، فوالده كان من قبله رئيساً لوزراء كندا ومن قبله جده الذي عمل وزيراً في الحكومة الكندية، ولو أضفنا إلى ذلك النجاح الباهر الذي حققه حزبه في الإنتخابات والذي يرجع الفضل فيه إليه وقاده إلى مقعد رئيس الوزراء، كل ذلك لم يمنعه من إرتداء جوارب مثيرة للإنتباه والضحك للوهلة الأولى في لقاءاته الرسمية مع زعماء العالم، فهي تأتي بألوان زاهية على شكل قوس قزح تارة وتارة أخرى عليها رسومات طيور أو اشكال غريبة، وبطبيعة الحال لا تتناسق البتة مع ملابسه أو مكانته، إلا أنه يحرص على إرتدائها بما تحمله من رسالة يؤمن بها، فالجوارب يتم إنتاجها من قبل شركة أمريكية يعاني صاحبها من مرض التوحد، وإقتناء منتجاتها بمثابة رسالة دعم وتشجيع لمرضى التوحد للاندماج بالمجتمع ولا يخجل من ذلك طالما فيها رسالة نبيلة يؤمن بها، ختم صديقي رسالته بالسؤال: أيهما أهم جوارب ترودو أم ربطة عنق وزير الغفلة؟.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت