- نهاد ابو غوش
تواجه جمهورية مصر العربية أزمة وجودية تتصل بحاضر ومستقبل هذا البلد الشقيق، أم الدنيا كما يسميه أهله وأشقاؤه، وأقدم دولة ذات سيادة في العالم، وكبرى الدول العربية، وإحدى أبرز مراكز الحضارة العربية الإسلامية، والدولة المركزية في الشرق الأوسط وقارة افريقيا وأكبر بلد في حوض البحر الأبيض المتوسط، والدولة الرائدة في مسيرة التحرر والاستقلال وحركة عدم الانحياز خلال خمسينات وستينات القرن الماضي.
مصر تواجه بشكل حاد مخاطر العطش والجفاف وفقدان القدرة على توليد الطاقة من جهة، وخطر الفيضان الذي قد يغرق مدن وقرى وادي النيل من جهة أخرى في حال وقوع كارثة طبيعية أو بشرية لسد النهضة الذي أقامته اثيوبيا على منابع النيل الأزرق الذي يوفر اكثير من 70 في المائة من مياه نهر النيل.
أنشئ السد بقرار أحادي الجانب مخالف للاتفاقيات الخاصة بتوزيع مياه النيل للعام 1902، وجرى التأكيد عليها غير مرة خلال ثلاثينات القرن الماضي، كما أنها مخالفة للاتفاقيات بشأن المجاري المائية الدولية التي أقرتها الأمم المتحدة في العام 1997، والتي تنظم حقوق واستخدامات الأنهار الدولية بين دول المنبع ودول المصب.
ثمة أسباب ذاتية وموضوعية كثيرة وضعت مصر في هذا المأزق الوجودي الذي لم تعد تنفع معه لا المناشدات ولا الدبلوماسية ولا الحملات الإعلامية، ومن المشكوك فيه أن تنجح وسائل القوة والضغوط الخشنة في ثني اثيوبيا عن قرارها، لا سيما وأنها مدعومة من قبل أطراف إقليمية ودولية عديدة، أبرزها إسرائيل المعنية أولا وقبل كل شيء بإضعاف مصر، والحيلولة دون استعادة هذا البلد العربي دوره الإقليمي المركزي.
من أسباب الأزمة التراجع المطّرد في مكانة مصر ودورها الإقليمي الذي بدأ منذ هزيمة حزيران عام 1967 واستفحل بمعاهدة كامب ديفيد للسلام المنفرد مع إسرائيل، وما جرى خلال العقود التي حكم فيها حسني مبارك من تجريف منهجي للدولة ومؤسساتها ونظمها وقيمها الأمر الذي أوصلها إلى حافة الانهيار عشية ثورة يناير 2011. ويرتبط بذلك أيضا التخبط والارتجال في معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والتحديات الوجودية التي تواجهها سواء في مجال التنمية أو في مجالات تأمين حقوق المواطنين، وتمثل طريقة التعامل مع قضية السد أبرز دليل على هذا الارتباك الذي يعبر عن نفسه بالدعوات المتسرعة لقصف السد وتدميره، أو بتوقيع اتفاقية إعلان المبادىء عام 2015 بين مصر والسودان واثيوبيا.
يضاف إلى ما سبق فشل خطط التنمية في مصر التي ما زال شعبها الذي يزيد تعداده الآن عن مائة مليون، يعتمد تقريبا على نفس الرقعة الزراعية التي كانت لمصر في عهد الفراعنة حيث لم يكن عدد السكان يزيد عن خمسة ملايين. بل أن أساليب الري، وتحديدا الري بالغمر، وأنواع المحاصيل الزراعية، ما زالت هي عينها في معظم الأراضي المزروعة بمياه النيل.
السبب الذي يفرض نفسه دائما عند الحديث عن النيل ومستقبل مصر هو استهداف هذا البلد من قبل أعدائه التاريخيين، الذين يدركون علاقة مصر واعتمادها المطلق على نهر النيل، وقد بدأت هذه المخططات في القرن الرابع عشر على أيدي قادة الحبشة نفسها، ثم زاد خطرها في القرن الخامس عشر من قبل دولة البرتغال التي كانت في حينه أبرز الدول الأوروبية الطامحة للاكتشافات الجغرافية والسيطرة على الطرق البحرية الدولية، وتكررت هذه المحاولات والأطماع في القرون التالية وصولا للعقود الأولى من القرن العشرين. وظلت هذه المخططات حاضرة في استراتيجيات إسرائيل التي ابتكر زعيمها المؤسس دافيد بن غوريون ما أسماه استراتيجة دول المحيط، اي التحالف مع الدول المركزية المحيطة بالعالم العربي مثل إيران الشاه وتركيا واثيوبيا لتطويق العالم العربي وحصاره والضغط عليه وإشغاله بمشاكله وابتزازه.
صدرت تحذيرات وتنبيهات كثيرة عن عدد كبير من المثقفين والمختصين المصريين، وأبرزهم الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، والأديب علاء الأسواني، والخبير الدكتور ممدوح حمزة (الذي اعتقل بسبب تحذيراته مواقفه) لكن هذه التحذيرات لم تجد آذانا صاغية، وظلت الدولة المصرية تتعامل مع المشكلة بمنطق التأجيل، أو إنكار الحقيقة، أو إدارة الأزمة إعلاميا، والرهان على تدخلات دولية لم تتحقق حتى الآن.
من الحقائق الجديرة بالذكر، أن دولة اثيوبيا تعاني جملة من المشاكل القومية والعرقية والتنموية والصراعات التي تمزقها وتهدد وحدتها، وسد النهضة ليس سدا كهرومائيا كباقي السدود الأربعة التي أنشأتها اثيوبيا على النيل الأزرق من قبل، أي أن هدفها لا يقتصر على إنتاج الطاقة، بل تخزين كميات كبيرة من المياه لبيعها لاحقا( أكثر من 90 مليار متر مكعب بينما حصة مصر الفعلية لا تتجاوز 55 مليارا)، ثم استخدام المياه لري بعض المناطق المحيطة علما بأن معظم مساحات اثيوبيا المزروعة تعتمد على مياه الأمطار، كما ان السد يقع في منطقة طرفية وتحديدا في اقليم بني شنقول على الحافة الشمالية الغربية لحدود اثيوبيا مع السودان، حيث نقلت اتفاقية 1902 السيادة على هذا الإقليم الذي تسكنه قبائل عربية من السودان لأثيوبيا.
لم تجد مصر حتى الآن من العرب سوى الدعم الكلامي عبر قرارات الجامعة العربية، أما عمليا فإن الأموال العربية مساهم رئيسي في الاستثمار في السد، وبالتالي فإن مدخل معالجة مشكلة السد يبدا بموقف عربي موحد وموقف افريقي حريص على البلدان الثلاثة ومصالحها، وليس من مصلحة مصر استعداء دولة مركزية في افريقيا مثل اثيوبيا التي يزيد عدد سكانها عن سكان مصر، وترتبط بعلاقات جوار وعلاقات ثقافية وتاريخية مع مصر وبلدان الجزيرة العربية.
من مصلحة مصر أن تصل إلى صيغة سلمية لحل المشكلة مع اثيوبيا على قاعدة تعاون البلدين لتأمين مصالحهما المشتركة ومن بينها حقوق ومصالح اثيوبيا في التنمية والطاقة والسلام، مع ضمان الحد الأدنى من مصالح مصر في المياه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت