- بثينة حمدان
كنا نشرب الشاي مودعين آخر أيام عيد الأضحى في بيت صديقتي منال في قرية النبي صالح، نحاول أن نبدأ حديثاً ونختم آخر، ونبتسم كما جرت العادة بسبب أو بدون سبب، لا يهم، كل ذلك حول طاولة المطبخ حيث تفرد العائلة حياتها بتجلياتها من حب وشجار ومواقف لا تنسى. في هذا المكان تمضي العائلة أكثر من نصف عمرها مجتمعة ممتلئة بألذ متع الدنيا..
وفجأة، سمعنا بعض الضجيج، واذ بجنود الاحتلال يمرون من الشارع قربنا، يرمون رصاصهم وقنابلهم، خرج شبان القرية وأمطروهم بالحجارة. مواجهات بل دفاع عن الأرض، يأتي الجنود دوماً محملين بأهداف التخريب، ويبعثرون ضوء المكان وفرحه ويبددون أشعته نحو عتمة أكبر ولو للحظات، شاهدنا الجنود يركضون من هذا الاتجاه وذاك، حاولت وصديقتي متابعة حديثنا وسط دهشتنا وملاحقة عيوننا بين الفينة والفينة لما يحدث خلف النوافذ، دون أن يشعر الأطفال بأي ضجيج أو جلبة في المكان، إلى أن جاء ابن صديقتي الأكبر أسامة والدماء تملأ قميصه، كان قد شاهد جسد محمد منير التميمي (17 عاماً) وهو على الأرض مصاباً برصاص الدمدم المتفجر في بطنه، حمله، فيما خرجت أحشاءه برائحة كعك العيد الذي امتلأ بها طوال الأيام الماضية، وتدفقت دمائه على درج ما قرب سيارة الجنود المدججين بالسلاح والغل والحقد على مكان ليس لهم، ثم وكأنهم ما أن أصابوا الفتى حتى اكتفوا ذاهبين سعداء بحصادهم هذا!!
جاء أسامة ليبدل ثيابه، فيما لم يستطع أن يبدد ملامح وجهه التي شَحُبَت وحركة رأسه التي تشير إلى أن الفتى لن يعيش، ذهب لينقذه ويحمله، ليعيده إلى الحياة ربما. وفي لحظة وقف أسامة وقرر أن لديه موعداً ما مع اصدقاءه في رام الله، كان كَذِبُه واضحاً حين قال إنه ذاهب لحفلة! أي حفلة بعد كل هذا الضجيج!! لكنه أراد حجة قويةً تسحبه من المكان ومن نظراتنا وتساؤلاتنا المتكررة حول ما حدث للفتى ولماذا نقل إلى مشفى سلفيت وليس إلى أفضل مشفى في العالم؟! بقينا مشدوهين غير مصدقين.
بعد ساعات أعلن استشهاده..
استُشهد محمد!! استُشهد ونحن نحتسي الشاي الذي بقي بارداً كما هو، استُشهد ونحن نشاهد كعك الحياة ولم نأكله، استُشهد ونحن نتظاهر بأن الجنود ليسوا في الشارع، كي لا يشعر الأطفال بالخوف ويتابعون اللعب مزيَّنين بملابس العيد وشغف العيد وهدايا العيد...
رحل في لحظة! لحظة هي عمرنا الضائع والقادم رحل وكأننا لم نجلس ولم نتسامر، وكأننا لم نكترث..
بقيتُ وصديقتي منال منذ أخبرَنا أسامة بمن كان بين يديه، وكأننا تحت تأثير وشعور الوهلة الأولى.. لساعات، نعم عشنا لساعات هذه الوهلة الطويلة، نفكر بهذه الحياة القصيرة، الحياة مرت وتمر وكأنها لحظة حين نفقد شهيداً هكذا دون أن نخطط لخروجنا من البيت حتى! دون أن يخطط أسامة للوصول إلى جسد محمد! لو فكر ربما.. خاف من الجنود وقسوتهم المعتادة، لو فكر ربما تردد، ربما تراجع، ربما انتظر الاسعاف، ربما انتظر مغادرتهم البلدة..
لم يفكر لأن الحياة لحظة، ولأن بين الحياة والموت لحظة، ولأن اللحظة في فلسطين مفرغة من الفرح ومفرغة من الألم لكن ممتلئة بالقضية، تمتليء دون أن نخطط أو ندرك، ودون حتى أن نكمل حواراً سخيفاً بدأ على طاولة المطبخ قرب شارع يفصلنا عن شهيدٍ غادرنا رابع أيام العيد، في يوم جمعة يتيمة من الأيام الاستثنائية التي تصبح يتيمة فجأة دون سبب ديني!
لم ينم أسامة تلك الليلة، جفلت عيونه وعيون العائلة، جفل يحاول تبديد تلك اللحظة من ذاكرته، تخلص من قميصه المضمخ بدماء الشهيد لكن لم ينجح بتخليص ذاكرته من حكاية هذه الدماء ومرارة الفقد.. وبقيت يديه دامية داكنة باكية.
ليته موتاً عادياً، مبرراً تبريراً إلهياً فقط، دون لحظة غدر او حقد.. لكن ليس بوسعنا أن نقول سوى هنيئاً لك فقد حملت يديك شهيداً فيما كانت روحه في طريقها إلى يدي الله، هذه هي لغتنا وشعاراتنا والضمادة التي تجعلنا نبتلع الحسرة ونستمر ونعيش حياتنا حتى لو كانت... لحظة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت