" صبحية ترياقي( أم أيمن): أُحدثكم كيف استجاب الله دعائي!"

بقلم: زهرة خدرج

أم أيمن-قبة الصخرة
  • د. زهرة خدرج
  • كاتبة ورائية فلسطينية

 

وردة الاقصى كما تسميها رفيقاتها في الأقصى..

من مواليد مخيم الجلزون عام 1954 وسكان الطور حالياً.

سألتها ما هي القدس في نظرك.. خنقتها العبرات وهي تقول: القدس حياتي، هي الشريان النابض في روحي، اللهم امتني على اعتابها!

وتابعت تقول:

" هُجِّر أهلي قسرياً ودُمِّرت قريتي كفر عانة قضاء يافا على أيدي عصابة الهاجاناة، لجأ أهلي إلى منطقة رام الله وسكنوا خيمة تعبث بها الريح وتحاول اقتلاعها في مخيم الجلزون، تحولت إلى بيت ضيق بعد عدة سنوات وهم ينتظرون رحيل الأعداء والعودة إلى ديارهم! ولدتني أمي لأب ضرير بين إخوة كُثر ووضع صعب وحياة قاسية.. ذهبوا إلى المدرسة في وقت اضطررت فيه لترك مدرستي بعد أيام من دخولها لأبقى في البيت أعين أمي في رفع حملها الثقيل، غالبية أيامي كنت أمضيها في الأعمال المنزلية وتحضير الطعام والعناية بوالدي، وفي بعض المواسم أرافق أمي للحقول لقطاف الزيتون في الخريف أو قطف العنب واللوز في الصيف، لنعود في المساء بما يسد رمق الاسرة ويلبي احتياجاتها الأساسية.

زوجتني أسرتي لمقدسي كريم النفس شهم شجاع، بيته يشرف على المسجد الأقصى شرقاً، أنجبت له أربع بنات وصبيين، حرصت أشد الحرص على دراستهم وتعلمهم للقرآن برغم حرماني من هذه النعمة. كنت أترنم على سماعهم ووالدهم يتغنون بتلاوة القرآن، رغم أن ذلك يخلِّف في قلبي حسرة وفي دموعي عبرة.. أعمد إلى فتح المصحف، وأنظر في حروفه المتراصَّة التي لا أستطيع فكَّ شيفرتها فتتدافع عبراتي وتجري مثل سيل جارف لعلها تغسل آلام قلبي.. فأرفع يدي إلى السماء بصوت متهدج وقلب تحرقه الأمنيات أقول: يا رب، يا من رفعت السماء بلا عمد وعلمت محمد النبي الأمي.. علمني القرآن!

بقيت على أُميَّتي وجهلي حتى أصبح عمري 50 عاماً.. أمضي وقتي في المسجد الأقصى بين أُناس يحملون المصاحف يقرأون ويصلون.. وأنا محرومة لا سلاح لدي سوى البكاء ودعاء الله.. أنضم الى حلقات العلم أُصغي بقلب يقظ أتعلم أحكام ديني ولكن الرغبة في تعلم القرآن تبقى غصة في قلبي.. أتحاشى حلقات القرآن لشعوري بالنقص بين أُناس يقرؤون بطلاقة.. أحياناً كثيرة أجلس بالقرب منهم أُصغي السمع  للقرآن يُتلى في رحاب الأقصى.. وفي البيت أستمع بكافة حواسي للقرآن يصدح عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، واكتشفت لاحقاً أن ذلك ساعدني بشكل كبير في تعلم القرآن.

وشاء الله لي أن ألج مرحلة جديدة عندما جلست مصادفة إلى جانب سيدة كبيرة في السن تجالس طفلاً في مصلى قبة الصخرة تتعلم على يديه سورة الإخلاص! لفتت انتباهي وهي تهجيء الحروف لتكوِّن الكلمات منها بصعوبة لا تخفى على أحد.. شعرت براحة عجيبة: إذن لست وحدي الأمية هنا!

ملت إليها سائلة: هل أنت أمية مثلي يا حبيبتي؟

قالت بلا تردد: نعم.. ولكن الله أكرمني بالانضمام لحلقة محو الأمية في المكتبة الختنية في المصلى القبلي القديم. وها أناذا أتعلم القراءة والكتابة!

شعرت وكأن الدنيا قد فتحت إليَّ يديها لتضمني بحنو بالغ.. سارعت للسؤال عن دروس محو الأمية في الختنية، فوجهوني إلى المدرسة الشرعية في الأقصى التي ستبدأ برنامجاً جديداً..

عامين تعلمت فيهما الحروف والحركات على يدي معلمة استطعت بعدها كتابة كلمات وجمل.. ثم عدت إلى المكتبة الختنية لأتعلم قراءة القرآن على يدي المعلمة الحافظة لكتاب الله بقراءات ثلاث "أم أحمد شبانة" جزاها الله عني خير الجزاء. تعلمت قراءة القرآن على يديها في تسع سنوات بمعدل يومين أسبوعياً أحضر فيهما من الساعة الثامنة صباحا وحتى الثانية مساءً.. لم أتغيب خلالها نهائياً مهما كانت ظروفي.. أُنهي حصة القرآن في الختنية ثم أنطلق بعدها إلى حلقات تدريس القرآن في مصاطب المسجد الأقصى.. كان شغفي لتعلم القرآن لا يوصف.. ولا تحده حدود! خاصة بعد أن كبر أبنائي وتزوجوا وتفرغت لدراسة علوم القرآن وعمل الخير.. كل صباح آتي برفقة زوجي إلى المسجد الأقصى ونمضي نهارنا في رحابه كلُ في مصلاه.

على يدي المقدسية "أم زهير الشامي" جزاها الله عني خير الجزاء، درست علم التجويد في أعوام ستة( عبر التلقين) حتى أتقنته، أهَّلني ذلك لتدريس القرآن بالتجويد على مصاطب الأقصى.

اخترت لنفسي مكاناً في قبة الصخرة أمام العمود المقابل لبابها القبلي المشرف على البائكة الجنوبية التي يطل المصلى القبلي من خلال أقواسها، أعقد فيه حلقة تعليم القرآن وتجويده باتت معروفة لرائدات المسجد الأقصى من الساعة التاسعة صباحاً وحتى صلاة العصر، وهذا من فضل ربي الذي أعجر عن شكره عليه، بعد أن كبرت في مجاهل الأمية أكرمني الله ورفع شأني لأنتقل إلى تعليم كتاب في مكان من أشرف الأماكن على الأرض!

ليس هذا فقط، بل أضفت إلى هذا الخير الذي أسبغه الله عليَّ خير رعاية أيتام وأرامل ومرضى وفقراء، أتنقل بين القدس ورام الله وأريحا أُقدم لهم المساعدات المادية والهدايا (التي يتفضل بها أهل الكرم من رواد الأقصى) ولا أبخل بالدعم المعنوي لكل من يحتاجه من تلك الفئات.

زوجي كان دوماً خير داعم ومعين لي في خطواتي ومشواري الطويل.. وأدعو أن يكون له نصيب من الأجر الذي يكرمني الله به.

أتذكر جيداً أيامي الأولى عندما كنت أجاهد لأتعلم آية في اليوم، وكيف غدوت الآن أقرأ كتاب الله بطلاقة وأُعلمه للنساء، فهل هناك نعمة تفوق هذه؟ الحمد والشكر لله أن اكرمني بالقرآن.. وأدعو أن يجعلني من أهله وخاصته.

د. زهرة خدرج

كاتبة ورائية فلسطينية

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت