- بقلم د. مصطفى البرغوثي
- الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية
يعاني النظام السياسي الفلسطيني الحالي من أزمة داخلية عميقة لم تعد خافية على أحد، ولم تكن قضية نزار بنات وما تبعها سوى أحد مظاهرها، ولعل مرد هذه الأزمة يكمن في أسباب عديدة تراكمت على مدار عقود، و من أبرزها :-
أولاً -فشل العملية السياسية التي انطلقت منذ بداية التسعينات والتي راهنت على حل وسط، عبر المفاوضات تحت عنوان "حل الدولتين" وانتهت إلى حالة تطرف عنصري شامل في المنظومة الإسرائيلية واختلال في ميزان القوى، وتعمق الإحتلال والتطهير العرقي الإسرائيلي في منظومة أبرتهايد وتمييز عنصري شامل لكل مكونات الشعب الفلسطيني.
وبالتالي نشوء فشل برنامجي لما اعتمدته منظمة التحرير الفلسطينية منذ الثمانينات، وراهنت عليه عبر إتفاق أوسلو وغيره من الاتفاقيات.
ثانياً -فشل كل محاولات، ووساطات، ومبادرات، إنهاء الإنقسام الداخلي الذي تكرس منذ عام 2007، بوجود سلطتين متنافستين تحت الإحتلال، على أرضية تناقض سياسي وخلافات برامجية في الساحة السياسية.
ثالثاً -التراجع الخطير والمتواصل للديمقراطية الداخلية، خاصة بعد قرار إلغاء الانتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية، رغم مرور أكثر من خمسة عشر عاما على آخر انتخابات فلسطينية، و ما أدى إليه من مس بالحريات العامة، والحق في حرية الرأي والتعبير، وعودة ظواهر الإعتقال السياسي، والاعتداء على المتظاهرين.
رابعاً – الفشل في بلورة آلية للشراكة الديمقراطية كضرورة أساسية للتعددية السياسية في الساحة الفلسطينية، سواء على مستوى قيادة النضال الوطني، أو إدارة العمليات السياسية، أو إدارة السلطة، أو إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية لتكون البيت الجامع والممثل لكل المكونات الفلسطينية.
هذا إضافة إلى تعمق أنماط التعصب الحزبي والفئوي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية للفئات الفقيرة ومحدودة الدخل، والغضب الشعبي العميق على غياب العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، وسيادة القانون، وانتشار مظاهر المحسوبية والواسطة ...الخ.
هناك أزمة عميقة، لم يعد ممكنا إنكارها أو التستر عليها، وهي أزمة يستغلها أعداء الشعب الفلسطيني والمتقاعسين عن دعم قضيته العادلة على حد سواء.
إذ تستخدمها إسرائيل لإضعاف الفلسطينيين، وإبقاء الخلل في ميزان القوى، كما تستثمر مظاهرها لتشويه صورة الفلسطينيين، ويتذرع بها العاجزون عن إجبار إسرائيل على احترام القانون الدولي، والتوقف عن جرائم الحرب التي تواصل ارتكابها ضد الشعب الفلسطيني.
وفي حين توحد المقاومة الفلسطينية بكل أشكالها مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج والأراضي المحتله، كما تجلى في معركة القدس، يستمر الانقسام والصراع بين القيادات الفلسطينية العاجزة عن الارتقاء إلى مستوى الوحدة التي تصنعها الجماهير الشعبية في نضالها ضد الاحتلال.
وهناك خطورة بالغة لاستمرار الأزمة السياسية الداخلية، وتأثيرها السلبي على الفرص التي تُفتح أمام الشعب الفلسطيني لعزل وتعرية الاحتلال ونظام الأبرتهايد العنصري، ولتعزيز الصمود الوطني في وجه محاولات التهجير والتطهير العرقي.
لا يمكن الخروج من هذه الأزمة التي استفحلت إلا بتحقيق أربعة أهداف :-
أولاً -التوافق على برنامج كفاحي مقاوم للاحتلال والاستيطان والمشروع الصهيوني كبديل للنهج الذي فشل، برنامج يركز على تطوير عناصر إستراتيجية فعّالة لتغيير ميزان القوى لصالح الشعب الفلسطيني، عبر تعزيز الصمود الوطني، وتوسيع المقاومة الشعبية وحركة المقاطعة، وتوحيد مكونات الشعب الفلسطيني ونضالها نحو هدف موحد.
ثانياً -بناء منظومة ديمقراطية داخلية تعتمد مبدأ الشراكة الديمقراطية واحترام رأي الشعب الفلسطيني، وذلك عبر الإعلان الفوري عن إجراء إنتخابات ديمقراطية تشريعية، ورئاسية، وللمجلس الوطني الفلسطيني، ويشمل ذلك ليس فقط انتخاب أعضاء المجلس الوطني في الداخل (من خلال انتخاب أعضاء المجلس التشريعي) بل كذلك أعضاء المجلس الوطني في الخارج بآلية تجمع بين الانتخاب المباشر حيثما أمكن، والانتخاب غير المباشر عبر الهيئات التمثيلية للفلسطينيين أينما تواجدوا.
ويتبع ذلك ، تشكيل قيادة وطنية فلسطينية موحدة على أساس نتائج الانتخابات الديمقراطية، تضمن مشاركة الجميع في هذا الإطار الجبهوي الذي يجب أن يكون مسؤولاً عن القرارات السياسية و الكفاحية الموحدة.
والمدخل الصحيح لهذه العملية، إطلاق حرية الرأي والتعبير والتحريم الكامل لكل أشكال الاعتقال والقمع والاستدعاءات السياسية، والتوافق على ما اقترح سابقاً بإجراء الانتخابات في القدس مثل سائر أرجاء الأراضي المحتلة دون إنتظار موافقة الاحتلال، الذي يجب أن لا يمنح حق الفيتو على إجراء الإنتخابات من خلال منعها في القدس، وقد أثبت شباب وأهل القدس البواسل أن من الممكن جعل الانتخابات فيها معركة مقاومة شعبية ظافرة.
ثالثاً -تغيير وظائف السلطة سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة، بحصرها في تسيير الأمور الحياتية، وإعادة مركز الثقل السياسي إلى منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها الموحدة بعد إصلاحها، وإلغاء كل ما يتناقض مع البرنامج الوطني الكفاحي بما في ذلك عقيدة التنسيق الأمني، وتشكيل حكومة وحدة وطنية لتسيير أمور السلطة على أساس نتائج الانتخابات الديمقراطية.
رابعاً -إعادة بناء العلاقات الفلسطينية مع قوى التحرر والتقدم العربية والعالمية، بما يخدم تطوير حركة تضامن عربية وعالمية واسعة مع النضال الفلسطيني بكل مكوناته وفي كل الأماكن.
وما من شك أن لدى الكثيرين وخاصة من النشطاء السياسيين، والشباب منهم تحديداً، الكثير من المقترحات الأخرى التي يمكن إضافتها لهذه الرؤية، لكن الخروج من أزمة النظام السياسي الحالية لا يمكن أن يتم دون تحقيق الأهداف الأربعة المقترحة.
ولن يفيد أحداً التمسك بسياسات الماضي التي فشلت، كما أنه ليس من صالح أي حزب أو تنظيم مهما كان حجمه، أو تميز تاريخه، الإدعاء بالقدرة على قيادة الساحة الفلسطينية منفرداً، أو التهرب من واجب إلغاء أنماط التفرد، والتعصب الحزبي، وسد الطرق أمام الطاقات الشابة.
لسنا بحاجة لحوارات كثيرة، ولن تنجح أي حوارات، إلا بعد إقرار المبادئ المذكورة للخروج من الأزمة، وإظهار نية صادقة لتطبيقها.
وهناك من تجارب الشعوب في منطقتنا، وخارجها، ما يكفي لتأكيد أنه لا حل للأزمة السياسية الداخلية عندما تستفحل سوى الأسلوب الديمقراطي، وخاصة عندما تتفاعل هذه الأزمة في حياة شعب ما زال يعيش تحت الاحتلال، والحصار، ويتعرض لمؤامرات ودسائس لا أول لها ولا آخر، ولن يمكن مقاومتها إلا بصلابة الجبهة الداخلية وتماسكها، وبالاستناد إلى إرادة نفس الشعب الذي لم يعد قادراً ولا مستعداً للتعايش مع هذه الأزمة ومظاهرها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت