الفنتازيا والغرائبية في رواية المتوكل طه ثلاثة في الليل

بقلم: محمد نصار

غلاف ثلاثة فيي الليل
  • بقلم : محمد نصار

***

في ظل هذا الواقع المعقد والملتبس بكافة تفاصيله وحيثياته، لا يمكن لأي فكرة مهما بلغت حصافتها و رجاحتها، أن تعبر عما تريد قوله وفق نسق مألوف ومعروف كما هو الأمر في أغلب الأحوال، أو أن تتعاطى معه انطلاقا من منهجية ما، أو ضمن آليات وأسس جرت العادة عليها وإلا جاءت مبتورة .. عاجزة.. غير قادرة على مواكبة واقع يبدو في غرائبيته وعجائبيته، أشد وقعا من أي فنتازيا قد يستوعبها خيال.

 

رواية ثلاثة في الليل تدخل في لون الأدب الغرائبي القادر على التعاطي مع هكذا واقع بكل تجلياته وفصوله، فلقد استطاع الكاتب الذي يتمتع بثقافة عالية وسعة اطلاع مميزة، أن يخوض غمار هذا البحر اللجي بحكمة واقتدار، فمن الواضح تماما أنه رسم خطة العمل بحنكة العارف بخبايا الأمور وذلك من خلال تقسيمه العمل إلى ثلاثة فصول متوائمة تماما مع ما يريد طرحه، هي: أبو بكر العكاس، الهدهد، الدربيل وجاءت ممتدة على مساحة زمنية تقارب قرنا من الزمان، أي منذ أواخر الحكم التركي تقريبا وحتى يومنا هذا، في نحو من مائة وسبعين صفحة من القطع الكبير.

أما الفصل الأول الذي يحمل اسم العكاس والذي هو في واحدة من تعاريفه اللغوية، عاكس التيار في الطبيعة وهو ما كان بالفعل من ذلك الشخص بكل ما له من خوارق مخالفة لكل النواميس الكونية وقوانينها، حيث أنه في واحدة من تجلياته، صلى في ليلة في المسجد النبوي، ثم عاد في ذات الليلة ليصلي بالناس فجرا في القرية، لكنه في جانب آخر جاء ضمن شروط وسياق مرحلة، كانت الصوفية وتجلياتها واحدة من أهم مكوناتها، خصوصا في نهاية الحكم التركي وبداية الانتداب البريطاني، إذ كانت الزوايا والأسياد عنوانا من عناوين تلك المرحلة وسماتها وبذلك وفق الكاتب في اختيار تلك الشخصية، نموذجا للتدليل على ذلك الواقع بكل ما حوى من تفاصيل تميل في مجملها إلى الإيمان بالخوارق وما وراء الطبيعة بشكل لا لبس فيه ومطابقتها لذلك الواقع بكل غرائبيته.

أما الفصل الثاني فجاء معنونا بالهدهد، والهدهد كما هو معروف طائر وفي.. مخلص، يقال أنه إذا ماتت شريكته يبكيها ما حيي، يرى الماء عن بعد، بل قيل أنه يرى الماء في باطن الأرض، حتى أنه إذا رفرف بجناحيه فوق بقعة ما وجدوا الماء في جوفها، أي أنه يملك قدرة على رؤية ما لا يراه الآخرون، لذا كان اختيار الكاتب لهذا العنوان، دلالة على استشراف المستقبل، أو شيء من ملامحه وهو ما جاء صراحة على لسان صابر، حين سأل والده عن سر دعوتهم السعيد بالهدهد، فقال: إنه راءٍ يستشرف الوقائع قبل حدوثها ويخبر بها قبل أن تقع.

ولكن أنى له ذلك في ظل واقع تشير كافة معطياته إلى الأسوأ، خصوصا في ظل غياب رؤيا أو استراتيجية ما تؤسس لذلك، فلا مستقبل لمن لا يغرس واقعه بأشتال يرجى أن تزهر ولو بعد حين.

في الفصل الثالث الذي حمل عنوان الدربيل، نرى الكاتب يأخذنا إلى عالم غاية في الغرائبية والتعقيد، يضع أصبعنا على الجرح ليقول هنا موطن الوجع، هذا العالم للأسف الشديد هو واقعنا المرير بكل ما يحمل من تعاسة وخذلان، واقع ربما نرفضه أو نفر منه وربما في أضعف الإيمان نغض الطرف عنه، لكن الكاتب استطاع بحنكة العارف والمجرب وما ملك من أدوات فنية، أن يضعنا عرايا أمام أنفسنا بيسر وسلالة، عبر ذلك الدربيل الذي كان ينقلنا من مشهد إلى آخر وكأننا نعيش تفاصيل فيلما من أفلام الرعب، دون أن نبدي أي اعتراض و بصمت يشير إلى موافقة ضمنية على ما يجري في واقعنا المليء بالغصة والمرار.

في الختام أقول أن المتوكل طه في هذه الرواية قدم عملا فنتازيا كاد أن يلامس واقعنا بكل ما فيه من غرائبية لا يستوعبها خيال واستطاع بما ملك من تجارب ومعرفة وما اختزن لديه من قراءات أن يبني عالما روائيا فيه من المتعة والمعرفة والأسئلة ما يضعنا أمام هذا الواقع عرايا من كل الأقنعة، التي طالما اختبأنا خلفها، ضمن بناء روائي مميز ولغة رشيقة وجرأة في الطرح والتناول.

ثلاثة في الليل عمل روائي مميز، ربما لم توفه هذه الإطلالة السريعة ما يستحق، لكنه إضافة نوعية للمكتبة العربية والفلسطينية على حد سواء.

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت