- حسن عبادي/ حيفا
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي في الفيسبوك انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
عقّبت الكاتبة الجليليّة أسمهان خلايلة: "هنيئا لتغريداتك التي تبعث الدفء في اوصال أسرانا البواسل والتقدير في قلوبنا لجهودك المخلصة . الحرية والمجد لأسرى الحرية".
وعقّب الشاعر صلاح أبو لاوي: "أنت مثال ناصع على أن الفرد الواعي المثابر المؤمن بفكرته ومشروعه ووطنه، يمكن أن يعوض غياب المؤسسات أو تراخي السلطة الحاكمة وأن ينير الطريق لمستقبل أجمل.محبتي وتقديري واحترامي صديقي"
"بِدنا الرزنامة!"
غادرت حيفا الثامنة صباح الاثنين 21.06.2021 لزيارة أسيرات في سجن الدامون الكرمليّ. انتظرت في غرفة المحامين فأطلّت خالدة كنعان جرار نازعة للكمّامة الكورونيّة مبتسمة، وكأنّ عقارب الساعة قد تعطّلت منذ لقائنا السابق يوم 19 أيّار؛ وأكملنا ذاك الحديث وكأنّه بالأمس.
تحدّثنا عن انطباعاتي من اللقاء السابق وردود الفعل من متابعيها، وأثر جائحة الكورونا التي استغلّتها سلطة السجون ذريعة لحرمان الأسيرات من الزيارة وتوقّف لقاءات المحامين، ودور الصليب الأحمر؛ في السنوات الأخيرة اقتصر على ترتيب زيارات الأهالي... وطبع وتوزيع رزنامة سنويّة، ففي الأسر، وبغياب النقّال والحاسوب، تصير لها أهميّة عظمى، يدوّن الأسير عليها يوميّاته وما يجري حوله، ولكنه حرم الأسرى منها هذه السنة بسبب التقليصات والتواطؤ ممّا جعل خالدة، وزميلاتها، تخطّ السنة على دفتر، كلّ ترويسة صفحة تحمل اليوم والتاريخ...وتنتهي بيوم التحرّر المرتقب.
حدّثتني عن قلقها على بناتها سهى ويافا، وعلى غسّان.. والوالدة.
تناولنا الهبّة الشعبيّة في الكلّ الفلسطيني ودورها وأهميّة احتضانها، وليس احتوائها من قبل الطبقة الكومبرادوريّة وأعوانها، أنسنة الأسير، فالأسير ليس مجرّد اسم ورقم، وقْع الأسر على الأم والعائلة وضرورة الموازنة بين الميكرو والماكرو في حياة الأسير، فعالم الأسر يضيّق الحلقة أكثر وأكثر.
باغتتنا السجّانة معلنة أنّه مرّت ساعتان من الوقت...
"رحلة عبرَ الطاقة"
بعد لقائي بخالدة أطلّت الأسيرة إيناس نبيل محمد العصافرة مبتسمة عبر ممرّات سجن الدامون الكرمليّ بابتسامة طفوليّة خجولة، بادرتني بالتحيّة وأوصلتني سلامات بشرى وزميلاتها في الأسر.
حدّثتني بحِرقة عن حنينها واشتياقها لولديها محمد(7 سنوات) وعبد الرحمن(4.5 سنوات) اللذين لم تحتضنهما منذ 10.08.2019، ووالدهما/زوجها قاسم يقبع في زنازين ريمون الصحراوي، وانتزعت حقّها بمشاهدتهما بأمر من القاضية العسكريّة حين رفضت المثول أمام المحكمة فسُنحت لها الفرصة للقاء يتيم لثلاثة دقائق عبر الفيديو!
حدّثتني عن رحلتها الأسبوعيّة لجبال الكرمل، ففي غرفة رقم 9 طاقة(شبّاك صغير) تطلّ على الكرمل، تضع وزميلاتها الخزائن فوق البعض ويتسلّقن لمشاهدة جبال الكرمل وخضارِه عبر تلك الطاقة، والبعض يرفض رؤيته (عشان ما يتحسّروا).
حدّثتني عن آية خطيب، زميلة الزنزانة التي تنتظر كلّ يوم سماع صوت أولادها عبر الإذاعة دون جدوى، وبشرى الطويل التي يزداد قلقها على والدها يومًا بعد يوم، فهو مضرب عن الطعام احتجاجًا على احتجازها، ورغم ذلك تشكر زملائها وزميلاتها على فعاليّة أمس التي رفعت معنويّاتها.
تتألّم قلقًا على أمّها وأولادها وزوجها الأسير، تتساءل عن عدم تواصلهم معها عبر الإذاعة، تشتاق لسماع أخبار وصوت أخيها الأسير معتز، وتريد أن توصل الأولاد رسالة كم تحبّهم ومشتاقة لهم وترغب أن يحكوا لهم عنها دائمًا.
كان لقاءً موجعًا!
"الصنوبر"
بعد لقائي بخالدة وإيناس، أطلّت الأسيرة ليان نزار أحمد كايد عبر ممرّات سجن الدامون الكرمليّ رشيقة مرِحة، بادرتني بالتحيّة وباغتتني قائلة: "انتظرت هذا اللقاء طويلًا، يلّا، إحكيلي عن الأدب!".
تحدّثنا عن أهميّة القراءة وشغفها بها، ناقشنا "الغريب" لألبير كامو، إلياس خوري...ومنذر مفلح "الشيبون" وخرزته وأدب السجون الفلسطيني، والإصدارات الأخيرة لأسرى يكتبون.
حدّثتني عن التواصل مع العالم الخارجي عبر الإذاعة، فتوقيت أسيرات الدامون يترتّب حسب برامج الراديو التي تعني بشئون الأسرى، ودور الرزنامة التي تكون آخر صفحة فيها يوم التحرّر، وفي آخر الليل تخبّئ ورقة اليوم سرًا ففيها دوّنت كلّ ما جال في خاطرها من خربشات وتأمّلات، وتتساءل: "لمين عم نكتب؟"، طقوسها في الكتابة وتقمّص شخصيّة القارئ/المتلقّي وتبادل الأدوار معه، لكلّ أسير دافع للكتابة لأنّ الأمور من داخل السجن يكون لها منظار آخر، وفجأة تقول بعفويّة مطلقة: "صرلي هون سنة و-13 يوم!".
حدّثتني عن سبسطية وتوقها لعناق "الصنوبر"، تلك الشجرة المعمّرة التي تبعد خمس دقائق مشيًا من بيتها، مكان اللمّة مع الأهل والأصدقاء.
كان لقاءً مغايرًا!
لكنّ عزيزاتي خالدة، إيناس وليان أحلى التحيّات، والحريّة لكن ولجميع أسرى الحريّة.
حزيران 2021
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت