- *بقلم: نهى نعيم الطوباسي
أثارت الصورة الشهيرة التي التقطها المصور الجنوب إفريقي كيفين كارتر عام 1993، ردود فعل عالمية، ونالت جائزة بوليتزر، أرفع جائزة في التصوير الصحفي، وذلك في قرية " ايود" خلال المجاعة في السودان، وهي لطفلة تزحف من شدة الجوع إلى مركز توزيع الطعام، وعلى مسافة قصيرة جدا منها وقف نسر استعدادا للانقضاض عليها. شكلت تلك الصورة صدمة لكل من رآها وجسدت حال ملايين البشر، الذين يموتون بلا ضجة، من شدة الجوع وسوء التغذية في أماكن متفرقة في العالم، خصوصا في الدول النامية. علما أن كارتر انتحر بعد 3 أشهر من تسلمه الجائزة، وجاء في الرسالة التي تركها " تطاردني ذكريات حية لأطفال يتضورون جوعاً أو جرحى".
الصورة كانت صادمة ومؤثرة، وتحمل ما لا يحتمل من الدلالات الواضحة على انتهاك حقوق الإنسان في العالم، فالتزام دول العالم بتحقيق الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030، وهو القضاء على الجوع، وتوفير الأمن الغذائي والتغذية المحسنة، وتعزيز الزراعة المستدامة، جاء بمثابة الأمل بالنجاة للكثيرين في العالم، الذين باتوا على شفير الهاوية، فوفقا للأمم المتحدة ومنظمة الأغذية والزراعة (فاو) أن عدد من يعانون سوء التغذية ارتفع إلى حوالي 768 مليونا عام 2020، وهذا أحد مؤشرات انهيار منظومة حقوق الإنسان في العالم، فانعدام الأمن الغذائي انتهاك واضح لحقوق الإنسان، حيث ورد حق الإنسان في الغذاء الكافي في العديد من الصكوك بموجب القانون الدولي. والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث تقر الدول الأطراف في هذا العهد "بحق كل شخص في مستوى معيشي كاف لـه ولأسرته يوفر ما يفي بحاجتهم من الغـذاء، والكساء، والمأوى وبحقه في تحسين متواصل لظروفه المعيشية".
المدقق في غايات هذا الهدف، سوف يتفاءل بالقضاء على الجوع، وسوء التغذية في العالم. فعلى سبيل المثال تطرح غايات هذا الهدف فكرة تحقيق الأمن الغذائي، لجميع الأفراد والفئات خصوصا الفقراء والفئات الضعيفة بمن فيهم الأطفال الرضع والنساء، ووضع حد لجميع أشكال سوء التغذية بحلول عام 2030، ومضاعفة الإنتاجية الزراعية ودخل صغار منتجي الأغذية، من النساء والمزارعين والرعاة والصيادين، بالإضافة إلى ضمان نظم إنتاج غذائي مستدام وتنفيذ ممارسات زراعية ناجعة تؤدي إلى زيادة الإنتاجية، والحفاظ على النظم البيئية (الأيكولوجية)، والوسائل الزراعية والإنتاجية والمتقدمة تكنولوجيا، وكذلك تحسين التنوع الجيني للبذور والنباتات المزروعة، والاستثمار في البنى التحتية الريفية ومنع القيود المفروضة على التجارة، وتصحيح التشوهات في الأسواق الزراعية، واعتماد التدابير لسلامة أداء أسواق السلع الأساسية ومشتقاتها والمساعدة على الحد من تقلب أسعار الأغذية. بالتأكيد ما ذكر غايات طموحة ومهمة، ولكن المهم هو إمكانية تحقيقها في كافة الدول، فهل يمكن تحقيقها في فلسطين بحلول عام 2030؟ وفك كل تلك القيود التي تعيق تحقيق هذا الهدف، وهل يمكن للأمم المتحدة، رفع قيود الاحتلال الإسرائيلي على الحركة، ورفع الحصار عن قطاع غزة، ومنع القيود المفروضة على التجارة، ووقف الاستيطان ومصادرة الأرض الفلسطينية، وإزالة الجدار الذي أدى إلى عزل الأراضي الزراعية، وتدمير للزراعة، وما خلفه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة من تدمير لكافة القطاعات الإنتاجية، ومنع الصيادين من الصيد والاعتداء عليهم، وكفالة حق فلسطين في السيادة على الغذاء والمياه، أليست هذه المقومات الأساسية لتحقيق الأمن الغذائي في فلسطين؟
فأبعاد الأمن الغذائي الأربعة وهي: توافر الغذاء والوصــول للغــذاء، واسـتقرار الغـذاء، واسـتخدام الغـذاء، مرتبطة ارتباطا وثيقا بالاستقرار السياسي، والاستقلال الاقتصادي، وبالسـيادة علـى الأرض. والسؤال كيف يمكن تحقيق تلك الأبعاد في فلسطين وفي المناطق المهمشة فيها، فحسب برنامج الغذاء العالمي، يوجد في فلسطين تقريبا 1.6 مليون شخص لا يقدرون على تحمل نفقة توفير الطعام المغذي، وفي قطاع غزة وصلت نسبة انعدام الأمن الغذائي إلى 68.5 في المائة.
تحقيق الأمن الغذائي بكافة أبعاده، مرتبط أيضا بالقضاء على الفقر، ويحتاج لبذل الجهود المحلية والدولية، للتخطيط نحو السيادة الغذائية ووضع السياسات التي تجعل من هذا الهدف أولوية وطنية، بشراكة كافة القطاعات، ويتطلب ذلك إنهاء الإحتلال وتعزيز التنمية الزراعية، وشراكة وطنية حقيقية بين كافة القطاعات، ووجود استراتيجية وطنية خاصة بالقطاع الغذائي في فلسطين، وتعزيز نظم الحماية الاجتماعية، وتفعيل قانون الضمان الاجتماعي ليشمل الفقراء والمهمشين والعاطلين عن العمل وكبار السن، ودعم التعاونيات والمشاريع الزراعية للفلاحين والمزارعين، لكن يبقى الاحتلال هو العائق الرئيسي والأكبر لإحراز تنمية شاملة، والسؤال هل يدرك المجتمع الدولي وكافة الأطراف المعنية خطورة الوضع الإنساني في فلسطين، وأن انعدام الأمن الغذائي، إذا ما فقدت السيطرة عليه، سيقود إلى انعدام الأمن المجتمعي ، وأن نظام القسائم الذي ينقل المساعدة عبر بطاقات برنامج الأغذية العالمي، قد يكون وسيلة مهمة للتخفيف من انعدام الامن الغذائي ولكنها ليست الحل الأمثل، بل ستعزز ثقافة الاستهلاك والفروق الاجتماعية ومشاعر الحرمان في وسط الكثيرين، وما سيخلفه انعدام الأمن الغذائي من تداعيات اجتماعية صحية ونفسية، وأثر ذلك على الأفراد والأسر الفلسطينية وعلى تفاعلهم، واندماجهم بشكل سليم في المجتمع. ولن تكون تلك القسائم الشرائية والمساعدات سوى إبر تخدير للتخفيف المؤقت من تلك المعاناة، ولكن سيأتي وقت لن يكون باستطاعة الأمم المتحدة السيطرة على تلك المعاناة، ولن تعطي تلك الإبر مفعولا أمام ذلك التدهور الإنساني في فلسطين.
أخيرا، مازال مصير طفلة الصورة التي التقطها كيفين كارتر مجهولا، ولكن ألا يجب للعالم أن يثير التساؤلات أيضا حول مصير من خلّفهم الإحتلال الإسرائيلي، بلا أرض، وبلا مأوى وبلا عمل وبلا معيل وبلا غذاء، فهل ستنجح جهود الأمم المتحدة والجهود الوطنية في تحقيق الأمن الغذائي والأمن الإنساني في فلسطين لهؤلاء الذين يشاطرون تلك الطفلة المصير الغامض والمستقبل المجهول؟
*ماجستير حل الصراعات والتنمية
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت