- سلمان زين الدين
"مشانق العتمة" عنوان رمزي لمتن روائي. ولعل رمزيته تتأتى من إضافة كلمة "مشانق" المنتمية إلى الحقل المعجمي للإعدام، إلى كلمة "العتمة" المنتمية إلى الحقل المعجمي للظلام، ما يجعل منه استعارة كابوسية، تزاوج بين إعدام الحياة وإعدام النور. هذا المعنى الكابوسي يجد له صدى في المتن، في بداية الرواية، حين يقول الكاتب على لسان هاجر، "معلقون على مشانق العتمة، نسبح في دوامة التيه، ملابسنا ثقيلة وأرواحنا كذلك" (ص 9). ويجد له صدى، في نهايات الرواية، حين يقول على لسان هتلر، المحقق السابق الذي تطارده إحدى ضحاياه الكثيرة، "تراودني بهيئات متعددة، يحضر معها نساء كثيرات لشنقي، فأهرب بعد أن أسرق الحبل، ألقي به على الأرض ثم أمضي، فأكتشف أن سراباً وجهاداً معلقان على مشانق العتمة" (ص 192). وبذلك، يتصادى العنوان والمتن في الإحالة إلى عالم مرجعي معلق على خشبة الظلم والظلام. أما روائية المتن فهي ما سنفصل فيه الكلام أدناه.
في "مشانق العتمة" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، يتناول القاص والروائي الفلسطيني يسري الغول موضوع الهجرة غير الشرعية. وهو موضوع جديد طفا على سطح الرواية العربية، بعد اندلاع الحرب السورية، وتناولته عديد من الروايات من منظورات مختلفة. وهو يفعل ذلك من خلال حكايتين اثنتين، فلسطينية، وسورية. تنطلقان من نقطتين مختلفتين، تتزامنان في اللحظة التاريخية، وتتماكنان في المدينة والفندق والقارب والبحر. تتقاطعان في المسار وتتوازيان، وتؤولان إلى المصير نفسه. على أن ما يميز الرواية عن الأخريات هو أن المصير القاتم للحكايتين تصنعه إرادة بشرية مجرمة لا أنواء البحر وثورات الطبيعة.
خمسة أصوات
يسند الغول عملية الروي إلى خمسة أصوات روائية، ثلاثة منها فلسطينية، واثنان سوريان، في إشارة شكلية، كمية، إلى أسبقية القضية الفلسطينية على المسألة السورية. ويراعي العدالة في توزيع الوحدات السردية على الأصوات الراوية، إلى حد كبير، فيفرد لكل من هاجر وسراب ثماني وحدات، ويخص كلاً من يونس وهتلر بسبع وحدات، فيما تقتصر الوحدات المسندة إلى ابن رشد على خمس وحدات فقط. يتناوب كل من هؤلاء الشخوص على روي الجزء المتعلق به من الحكاية، كمن يؤدي دوراً على خشبة مسرح الرواية، دون مراعاة التسلسل الزمني للأحداث، وفي كل مرة يضيف الصوت قطعة إلى الحكاية، فيتشكل بازل الرواية من مجموع القطع المضافة. وإذا كان الكاتب يصدر روايته بملاحظة تشكل مفتاحاً للقراءة، بإشارته إلى أنه "ليس هناك من أهمية للترتيب الزمني داخل هذه الرواية، فالأحداث تتشابه أو تتكرر بصورة أو بأخرى"، فإن ترتيباً من نوع آخر ينتظم الأحداث هو الترتيب الفني الذي يمنح الخطاب الروائي بعداً حداثياً، ويعكس قدرة الكاتب الواضحة على التفكيك والتركيب.
مزراب البحر
بالعودة إلى الحكاية، حين يوصد البر أبوابه دون شخوص الرواية، لا يجدون أمامهم باباً سوى البحر، لعله يقودهم إلى بر آخر، يفتح أبوابه في وجوههم. غير أن الرياح لا تجري بما تشتهي قواربهم، فينتقلون من دلفة البر إلى مزراب البحر. والحكاية، بسلكيها الفلسطيني والسوري، المتوازيين، المتعاقبين، المتناوبين على الحضور النصي، هي حكاية المواطن العربي، فحياة هذا المواطن "عبارة عن جحيم منظم، كأفلام غرف الهروب التي تخرج منها لتدخل في أخرى أوعر وأكثر صعوبة، بحاجة لمفاتيح كي تنتصر وتخرج سالماً. وحتى المنتصر يخرج من تلك الانتصارات مجروحاً محطماً من الداخل"، كما يقول الغول على لسان سراب (ص 212).
في السلك الفلسطيني من الحكاية، تنزل اللعنة على الفلسطيني، في الداخل والخارج. في الداخل، تطارده لعنة الاحتلال، ولعنة الصراع الداخلي بين الأخوة. وفي الخارج، تقع عليه وطأة الأنظمة الحاكمة، وتوصد دونه سبل العمل والعيش الكريم، وتُلفق له التهم الجاهزة بالإرهاب. وفي مواجهة هذه اللعنات، يكون عليه الاختيار بين الموت أو المعاناة والصمود أو الرحيل.
لعنة الداخل
تختلف تمظهرات اللعنة الفلسطينية من شخصية إلى أخرى، فحذيفة، الملقب بابن رشد لمثابرته على قراءة كتبه في السجن، يقضي سبعة عشر عاماً في سجون الاحتلال. يستشهد أخواه. يقوم بدور قيادي في حركته، ولا يتورع عن نقد السياسات الخاطئة، ما يجعله مصدر إزعاج لقادتها. وحين يظن أن الحظ ابتسم له بعد ارتباطه بهاجر، الطالبة الجامعية الجريئة من مخيم البريج، تأتي الأحداث المتعاقبة لتكذب ظنه، وتنزل عليه المصائب تباعاً، تُولَد له طفلة مصابة بشلل دماغي، يبذل دون علاجها الغالي والنفيس. يوضع اسمه على لوائح الاغتيال. يسقط به المصعد الخشبي، في حادثة غامضة، خلال محاولة إنزاله إلى نفق سري لحمايته من الاغتيال، ما يؤدي إلى بتر رجله. وتكون ثالثة الأثافي مرضه بسرطان المعدة وموته. غير أنه قبل أن يفعل، يترك رسالة لحبيبته هاجر يوصيها فيها بأن تعيش حياتها من بعده. وهكذا، تعكس حكايته حياة الآلاف من الفلسطينيين في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
في المقابل، تعكس حكاية يونس حياة الآلاف من الفلسطينيين خارج فلسطين، فيونس، المولود لأسرته اليافاوية، المقيمة في بلد عربي، تُمنع عليه متابعة الدراسة الجامعية بسبب هويته الفلسطينية، فيكون عليه أن ينتقل إلى غزة لمتابعتها، ويعاني الأمرين من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي. وبعد التخرج والالتحاق بأسرته، يعاني من صعوبة العثور على عمل، ما يلبث أن يطرَد منه، ويُعتقَل ويُحقق معه بتهمة دعم الإرهاب. في مواجهة هذه الأبواب الموصدة، لا يجد يونس باباً سوى البحر، فيمم شطره مع أسرته الصغيرة، لعله يعثر على وطن بديل يحفظ له شيئاً من الكرامة الإنسانية.
هاجر وسراب
بين حذيفة، زوجها الأول، ويونس زوجها الثاني، تتموضع هاجر. ويكون عليها أن تنوء بأعباء من كلا الزوجين، تحمل من الأول حبها له، وحزنها عليه، وخشيتها على ابنتها المريضة. وتحمل من الثاني خوفها عليه، وقلقها على مستقبله، فتخوض البحر معه. فتمثل هاجر المرأة الفلسطينية المخلصة لزوجها، الواقفة معه في السراء والضراء. ولعل نجاتها من الغرق، وإقدامها على تنظيم معرض فني في بروكسل، لمتعلقات زوجها وطفلها وصديقتها الحلبية سراب، يشكل إشارة روائية إلى استمرار القضية الفلسطينية، على قيد الحياة، بشكل أو بآخر، مهما حاول المحتل وأعوانه قتلها.
في السلك السوري، تشكل الحرب السورية وتداعياتها السبب المباشر لركوب البحر بحثاً عن فسحة أمل ما وراءه. ويقوم هذا السلك على العلاقة بين سراب الفتاة الحلبية الجميلة العاملة في مكتبة الجامعة، ويزيد الشاب الوسيم العامل في وظيفة عامة. فمنذ اللقاء الأول بينهما في الطريق العام ينجذب أحدهما إلى الآخر، وتنشأ بداية علاقة بين الاثنين، تنمو على الزمن، وتتكلل بالزواج والإنجاب. على أنه لا يمر وقت طويل قبل أن تكتشف سراب أن وحشاً خطيراً يكمن خلف ذلك الوجه الوسيم، فيزيد هو نفسه هتلر الذي يعمل محققاً لدى جهاز أمني، ولا يتورع عن القتل والاغتصاب والتلذذ بتعذيب ضحاياه. وهو الذي تواطأ مع الجهاز لاعتقالها قبل الزواج وإجبارها على التعامل معه. ويزيد طين الاكتشاف بلة أنه بدأ يمارس ساديته عليها ضرباً وتعذيباً.
سخرية القدر
إزاء صدمة الاكتشاف وسادية التعذيب، تتخذ سراب قرار الفرار بمساعدة أخيها، ويضعها قدرها على متن القارب نفسه الذي يقل هاجر الفلسطينية وأسرتها من مدينة إزمير التركية إلى إحدى الجزر اليونانية، فيجمع القارب بين هاجر الفلسطينية وسراب السورية، وتنشأ بينهما صداقة الوجع المتبادل. غير أن القدر الذي ينقذها من براثن الزوج المجرم ما يلبث أن يتربص بها، من جهة، ويسخر منه، من جهة ثانية. فيزيد / هتلر الذي يرميه جهازه الأمني بعد استنفاده، يتحول إلى تاجر موت ومهرب مهاجرين بين تركيا واليونان باسم مالك، حتى إذا ما أراد تصفية حساب مع هاجر التي رفضت تحرشه الجنسي بها وقبطان القارب الذي ينافسه في تهريب المهاجرين، يقوم باقتفاء القارب ليلاً دون أن يعرف هويات المهاجرين على متنه، ويطلق النار على القبطان والقارب معاً، ما يؤدي إلى إغراقه. وحين يكتشف أن زوجته سراب وابنه جهاد من بين الغرقى، يكون القدر قد أخذ ثأره منه، وعاقبه على جرائمه، فيسقط صريع ما فعلت يداه، ويتحقق فيه القول المأثور، "طابخ السم آكله".
المصدر: اندبندنت عربية
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت