- عوني الطويل
"العمر لا يصنع سياسياً" إنها ليست عبارة تحتاج للترويج ، بل تحتاج لأن نبحث بأفكارنا عن طريقة لنفرضها على واقعنا وأن لا نكتفي بالتنظير لها ، ففي بلادنا عادةً ما يُستبعد الشباب كمرشحين سياسيين لأن حقل السياسة عندنا يُنظر إليه كمساحة للرجال ذوي الخبرة فقد أغرقنا السياسيون الكبار "سنا" في أن نظرية الحكم تحتاج لتجاعيد في الوجه تثبت حجم الخبرة والتجربة ، لكن الحقيقة التي يجب أن تقابل هذه النظرية المصطنعة ، أن الأفكار الحيوية واتساع المدارك والرؤية الثاقبة والقرب من الجمهور لتحسس احتياجاته وقراءة أفكاره هي من تصنع السياسة ، فالإدارة والشباب هم أعظم وصفة لنجاح أي دولة، لأننا بحاجة لإدارة بلادنا وليس حكمها وسنأتي على هذا في مقالنا القادم ..
العالم أحرز تقدمًا في هذا الجانب وما زال يناضل، وبالعودة قليلًا الى التاريخ فعندما وصل نابليون بونابرت إلى السلطة كأول رئيس منتخب للجمهورية الفرنسية في العام 1848، كان يبلغ من العمر 40 عامًا، وبضعة أشهر. فمن منّا أو من أولادنا لم يقرأ أو يعرف ولو على سبيل الاسم هذا الامبراطور الشاب ؟!.. أمّا في تاريخنا الحديث جاء إيمانويل ماكرون لينافسه على لقبه كأصغر الرؤساء سنّاً في تاريخ فرنسا وأصبح ماكرون الرئيس الفرنسي الأصغر سنّاً إذ يبلغ من العمر 39 عاماً .
هناك في العالم اليوم خمسة رؤساء فقط لا تتخطى أعمارهم الأربعين، أما الوزراء وأعضاء البرلمانات في تلك البلاد فهم كُثر فالقارة العجوز من حيث السكان هي القارة الشابة من حيث الحكام ..
أما العرب فرؤساهم الشباب ارتبط قرار ترأسهم بعوامل أخرى غير إرادة الشعوب، اتفقنا أو اختلفنا مع شخوصهم كالتوريث في الأنظمة الملكية، وبعضهم وصل إلى السلطة في دول عربية جمهورية لكن لا علاقة لذلك الوصول بأحقيتهم كشباب ثابر وكافح وخلق مقعده بنفسه بل بأسلوب التوريث المقنع وسأقدم لكم لبنان نموذجاً واضحاً إذ تولى العديد من المسؤولين الزعامة السياسية في فترة شبابهم مثل وليد جنبلاط وسليمان فرنجية، والآن سعد الحريري، كإرث عائلي من الآباء، والمشهد السياسي الراهن يقدم صورة مماثلة عن وصول نواب ووزراء، بقيت أدوارهم السياسية خجولة، لكن انتماءهم لعائلات سياسية، فتح المجال أمامهم، كذلك نقلت الدراما بعض هذه الحقائق في المسلسلات العربية، آخرها مسلسل "خمسة ونص".
هذا هو حالنا في الشرق الأوسط لكن إلى الشمال، بدأت النظرة للزعيم التقليدي تتراجع أمام متغيرات العصر الحديث، زمن الرحلات الفضائية والتهديد النووي والتجسس والقرصنة الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، عصرٌ يقوده شباب خلف شاشة كمبيوتر أو هاتف محمول !!
فأغنى أغنياء العالم اليوم هم شباب .. مؤسس أمازون جيف بيزوس، ومؤسس تسلا ايلون ماسك، ناهيك عن صاحب فيسبوك وتيك توك وجوجل.
ولهذا فالشباب عنوان المرحلة، ولكن ليس لمجرد عمرهم فلو حكم المراهقون الدول العربية بسياساتها العقيمة التي لم تتغير منذ عقود ستبقى كما هي، فالمشكلة لا تقتصر على عمر مَن يتولّى السلطة بل على عمر الأفكار والتوجّهات التي يُحكم بموجبها والطريقة التي يدار بها الحكم، فهرم الحكم النمطي في الدول العربية بحاجة إلى ابتداع طريقة حكم جديدة تواكب العالم الحديث، ولن يفعل ذلك سوى الشباب.
وحين تقدم الشباب قائمة الأكثر ثراءً في العالم، فذلك لأنهم استطاعوا إدارة أنفسهم أولاً ثم إدارة العالم عبر ما فرضوه من تقنيات تُغير مجرى التواصل بين البشر، هذا يعني أن بلداً لا يساهم في حكمه الشباب هو بلد ينظر للماضي أكثر من المستقبل.
أما في بلادنا تكثر مؤسسات الشباب، ولكن تقل نسبة المشاركة السياسية فيها لتصل في أحيان كثيرة إلى الصفر، فنحن لدينا ٣٧٢ مؤسسة للشباب، ولكن على الرغم من حيوية هذه المؤسسات وكثرتها، فإنها لم ترتقِ إلى حجم التحديات وطموحات الشباب الممتد في المجتمع الفلسطيني. فهل هي مجرد برامج تفي بشروط الممول دون أن تتابع الأثر الناتج عنها؟! هل مطلوب أن يبقى الشاب يطالب ويبحث في دائرة المطالبة بحيث يعرف حقه جيداً لكن دون أن يمسكه بيده! وحينها تتحطم آماله ويبدأ جيلا انهزامياً يصعد تنمو لديه الرغبة في الانتقام من السياسة نفسها بعد أن كان يريد أن يشارك فيها !!.
الشباب دورهم أن يقودوا مراحل التحرر ثم يخوضون معارك من أجل الديموقراطية، ولكن عند قطف الثمار يُطلب منهم أن يحملوا الأكياس التي ستسقط فيها الثمار دون أن يُسمح لهم بتذوفها .. المطلوب منهم فقط أن يكتفوا باستنشاق رائحتها من بعيد ففي بلادنا يستخدم الشباب كأدوات في أيدي القادة التقليديين الذين يستغلونهم لمصلحتهم رغم أن الشباب الفلسطيني على مدار تاريخ القضية الفلسطينية قدموا ما في استطاعتهم تجاه الحفاظ على مجتمعهم ووقفوا في وجه كل الأعاصير وخاضوا معارك مع الاحتلال ، كانوا هم وقودها وكانت دماؤهم زادها وزوادها .. بل إن الشباب غالباً هم الذين يلعبون أدواراً مركزية وتحفيزية في أي تحرك من أجل الديموقراطية وفي النهاية يُعبّدون الطريق لغيرهم، فهم عليهم البَذر ولغيرهم الحصاد.
.. وهذا سبب من أسباب تراجعنا فحجة اشتراط اقتران الخبرة بالعمر فكرة بالية لا يتمسك بها إلا أولئك الذين يريدون لشعوبهم أن تنظر تحت أقدامها، فالخبرة تصنعها المواقف وليس الأعمار..جيفارا كان قد تخرج من كلية الطب حديثاً حينما قاد أكبر رحلة ثورية في مقارعة الامبريالية ليصبح جيفارا رمزا للثورة التي قادها شابًا وغادرها شابًا برصاصة أنهت حياته لكنها لم تُنهي إلهامه لجيل امتد حتى الآن ...
تغيرت نظرة العالم إلى الشباب، وتحديدًا في أوروبا فقد امتلأت البرلمانات الأوروبية بهم، ولم يعد مستغرباً أن ترى رئيسًا ثلاثينيّ لفرنسا، أو يقود بريطانيا العظمى، فالشباب هناك أصروا على قطف الثمار وليس حمل أكياس لجمعها فقط.
بلغة الأرقام فإن الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و44 عامًا هم 57% من السكان في سن الاقتراع لكنهم لا يمثلون سوى 26% من نواب العالم. ويمثل الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا نسبة 1.9% من أعضاء البرلمان في العالم، ولا يوجد برلمانيين أصغر من 30 سنة في أكثر من 80% من البرلمانات العليا في العالم.
أرقام صدمت مؤسساتهم فبدأت تسعى لتغييرها فعلاً وليس قولاً، وباتت بعض مجتمعات أوروبا تلمسها ولا تستغربوا إن رأيتم رئيساً عشرينياً في السنوات القليلة القادمة.. حتى أن جامعات أوروبا ومراكز الأبحاث الغربية بدأت تركز على هذا الجانب ولعل أكثر ما لفتني فيما قرأت من أبحاث هو ورقة بحثية لجامعة "هارفرد"، حملت عنوان "السياسيون الشباب والكهول" وقد لخصت الفرق بين الشباب والكهول في مواقع السلطة بثلاثة فروق جوهرية:
"الأول هو أن الشباب تنتظرهم مسيرة سياسية طويلة نسبياً، ولذلك فهم أكثر حذراً في التعامل مع منصبهم من أولئك الذين وصلوا إلى نهاية المسار، بالنظر إلى أعمارهم والثاني مرتبط بالأول إذ يميل الشباب إلى تبني سياسات طويلة المدى وأكثر إستراتيجية، أما الثالث فهو بديهي ومرتبط بفكرة أن الشباب أكثر حيوية وإنتاجية".
إذاً لماذا المجتمعات الأخرى تناضل وتقطف الثمار أما نحن فيناضل شبابنا ويحملوا الأكياس فقط؟!!
تعالوا نقرأ سريعاً بعضاً من أرقامنا .. فبالنظر إلى حجم المشاركة السياسية للشباب الفلسطيني، في ظل حكم السلطة الوطنية ومؤسساتها، سوف نجد أن نسبة المرشحين لانتخابات المجلس التشريعي التي جرت في العام 1996 من الشباب هي صفر، ولم يختلف الأمر كثيراً في الانتخابات التشريعية الثانية التي جرت في كانون الثاني عام 2006، وهذا هو واقع الحال الذي تشهده دوائر منظمة التحرير الفلسطينية، ومؤسسات المجتمع المدني، والنقابات الشعبية، والاتحادات، من حيث نسب مشاركة الشباب.
أما إن تحدثنا عن انتخابات ٢٠٢١، فقد حبلت بها أحلام الشباب ولكن المولود كان مشوهاً لأنه خضع لإرادة أصحاب الخبرة الذين أرادوا أن يسرقوا أحلام الشباب ليصلوا بهم الى اليأس ويستنزفوا طاقتهم فيستعبدوا أفكارهم..
وبالعودة للإجابة على سؤالي السابق فالحل منوط بالشباب أنفسهم، عليهم أن يؤمنوا بأنفسهم أولاً وأن يكونوا أوفياء لأفكارهم، وأن لا يقبلوا بأن يبيعوا أدمغتهم لأولئك الذين يرون أن أولوية صنع القرار لمن يملك الخبرة والتجاعيدـ فخبرة معظمهم تصنعها أفكار الشباب الذين يحيطون بهم سواء في الحزب أو داخل المؤسسة أو حتى في ديوان العائلة.. الشباب يفكرون في معظم الأوقات ولا يمانعون إن امتلك الآخرون أفكارهم أما الكبار فغالبيتهم يتذكرون فقط، لذلك أعطوا أصحاب الأفكار الجديدة الفرصة كي يغيروا واقعنا.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت