- هاني المصري
- مدير عام المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية-مسارات.
أطاح تفجيرا مطار كابول، والتحذيرات الأمنية من تكرارهما، بالادعاءات التي أطلقها الرئيس الأميركي جو بايدن وأركان إدارته بأن الانسحاب من أفغانستان نتيجة طبيعية لإنجاز المهمة، المتمثلة في الانتقام من القاعدة والإجهاز عليها، عقابًا لها على هجمات 11 سبتمبر.
وتدل جريمة التفجيرين، التي تبناها تنظيم داعش – إقليم خراسان الأكثر تطرفًا ودموية وعداء من القاعدة، على أن ما حدث في أفغانستان هروب كبير ومخزٍ، وليس انسحابًا منظمًا تم بعد إنجاز المهمة، ولذلك ستكون له تداعيات كبيرة، محلية وإقليمية ودولية.
فأميركا تنسحب من أفغانستان مهزومة كجزء من إستراتيجية التراجع العالمية، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط، بهدف تركيز القوى والموارد على العدو الأكبر والمنافس الذي يهددها بفقدان قيادتها للعالم، وهو الصين، ولكن ما حدث يمكن أن يؤدي إلى العكس بحيث ينقلب السحر على الساحر، ويحتاج إلى الكثير من الموارد لمنع تفاقم الموقف في أفغانستان وتداعياته الوخيمة، فآخر ما تحتاجه إدارة بايدن "انسحاب" آخر وهزيمة أخرى، مثلًا في العراق، على غرار ما جرى في أفغانستان.
لقد أثبتت الولايات المتحدة أنها قوة عسكرية كبرى تستطيع أن تدمر وتقتل، ولكنها لا تستطيع أن تنتصر لا بالحرب ولا بالسلم، وهي تهدم ولا تبني. فلو أنفقت الإدارات الأميركية حوالي تريليوني دولار لمصلحة نظام يحقق مصالح الشعب الأفغاني، وليس كما فعلت تحقيقًا لمصلحتها ومصلحة أمراء حرب فاسدين كانوا يقبضون رواتب لعشرات الآلاف من الجنود الوهميين الموجودين على الورق فقط؛ لأقامت دولة حضارية ديمقراطية لا يستطيع أن يهزمها أحد، لا طالبان، ولا أي قوة في العالم، ولكنه الاستعمار والاحتلال والاستغلال والغطرسة والإيمان بالقوة والتفوق واحتقار الآخرين.
كالعادة في الأحداث الكبرى، اختلفت التقديرات حول ما يجري، بين من جزم بأنه مؤامرة هدفها جعل أفغانستان فخًا لأعداء أميركا (الصين وروسيا وإيران)؛ وبين من اعتبرها هزيمة كبرى لأميركا وستتبعها هزائم أخرى؛ وبين من اعتبر طالبان حركة إرهابية أو حركة تحرر، وأنها تغيرت كليًا في السنوات العشرين الأخيرة؛ وبين من رأى أنها هزيمة فعلًا، وتدل على انتهاء عصر الهيمنة الأميركية على العالم، ونتيجة تزيد حدة الصراع والتنافس الأميركي الصيني على قيادة العالم، ولكنها ليست نهاية لأميركا التي لا تزال أقوى دولة في العالم وقادرة على العمل ضد أعدائها بقوة، وأن طالبان تغيرت كما تدل بعض التصريحات والممارسات حول الحقوق والحريات، ولكن التغيير الذي حدث لا يزال محدودًا، ومن السابق لأوانه الحسم بأن طالبان اليوم ليست طالبان الأمس، أو أن هذا التغيير النوعي من المرجح أن يحدث فهو مجرد احتمال من احتمالات عدة وليس أقواها.
إن تغيير حركة رجعية متخلفة متطرفة عقائدية ليس أمرًا سهلًا، خصوصًا أننا لم نسمع عن مراجعة عميقة داخل طالبان، كما أن التغيير ليس أمرًا ذاتيًا فقط، وإنما ستؤثر عليه أوضاع وعوامل وتناقضات داخلية وخارجية، وكيفية تعامل أميركا والمجتمع الدولي، وتحديدًا جيرانها معها، فيجب ألا ننسى أن البشتون التي تنتمي إليها طالبان تشكل حوالي 45% من السكان، وهناك قبائل أخرى تنتمي إلى أعراق مختلفة. كما يجب ألا ننسى أن طالبان نفسها مشكّلة من ائتلاف، وأنها خاضت حرب أهلية في السابق، ويمكن أن تتجدد لاحقًا، وهي تضم أكثر من 60 ألف مقاتل، ويضاف إليهم 140 ألف مقاتل من القبائل المتحالفة معها.
مصير أفغانستان
لا يستطيع أحد أن يجزم في مصير أفغانستان التي تحتل موقعًا إستراتيجيًا في قلب آسيا، ولا أن يجزم بشكل قطعي بالسيناريو الأكثر ترجيحًا، لأنها كانت وستظل ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، فهي تملك الغاز والبترول، وتحتوي على معادن تقدر قيمتها بثلاثة تريليونات دولار، وهي منطلق ومزرعة المخدرات الأكبر في العالم، وقاعدة القوى المتطرفة والإرهابية التي رحبت في معظمها بالانتصار الأفغاني.
ويمكن أن تكون أفغانستان جزءًا من طريق الحرير الجديد (الحزام والطريق)، المشروع الصيني العظيم أو ثغرة كبرى فيه، وتسبب القلق للصين إذا عاد المتمردون ضدها انطلاقًا من أفغانستان، وكذلك الحال مع روسيا وإيران.
فيتنام وأفغانستان
ذكّرتنا مشاهد الهروب المخزي للقوات الأميركية بما جرى في سبعينيات القرن الماضي في سايغون بفيتنام، ورغم التشابه بالمشاهد إلا أن الاختلافات كبيرة في الظروف واللاعبين والمرحلة والنتائج.
كان هناك أكثر من نصف مليون جندي أميركي في فيتنام، وخسرت الولايات المتحدة أكثر من 54 ألف قتيل، وأضعافهم من الجرحى، وأدت الحرب الفيتنامية إلى تنامي معارضة أميركية واسعة للحرب، وكانت في ذروة الحرب الباردة، حيث دعمت الصين والاتحاد السوفييتي فيتنام التي توحدت بعد الهزيمة الأميركية، وكان هذا الاحتمال الوحيد، وكانت الولايات المتحدة قوية جدًا من دون منافس اقتصادي رغم الثنائية القطبية التي كانت تحكم العالم في تلك الفترة.
أما أفغانستان فتواجه احتمالات عدة، حيث النظام العالمي القديم أحادي القطبية ينهار ويتقدم نظام عالمي جديد ليحل محله ولم يرسخ أقدامه ولم تتضح معالمه، وعليها أن تختار إلى أي معسكر ستنحاز، أو تبقى لاعبًا يرقص على كل الحبال، كما تواجه احتمالات عدة ما بين الحرب الأهلية، أو أن تكون ساحة لحروب إقليمية أو دولية بالوكالة، أو أن تبقى موحدة، أو تعاني من الانقسامات، أو تعود إلى التحالف مع المنظمات الإرهابية، لا سيما القاعدة حليفتها القديمة، وتنظيم الدولة الإسلامية الذي يعد طالبان عدوة له، وهو يحاربها مثلما يحارب الأميركيين.
أفغانستان وفلسطين
ما حدث في أفغانستان سينعكس على فلسطين بشكل إيجابي أو سلبي، وهذا يتوقف على كيفية تصرف الفلسطينيين، فالانتصار الأفغاني يدل على أن مقاومة الاحتلال هي قانون الانتصار، وأن الاحتلال مهما طال عمره ومن يقف وراءه إلى زوال، والدور الأميركي العالمي يتراجع وحلفاء واشنطن يقلقون من مصير مشابه، أي أن ما حدث يوفر فرصة للفلسطينيين للاستفادة منها أو إضاعتها، وهذا يتوقف على الأداء الناجم عن تقييم موضوعي لما يجري، وانعكاساته من دون مبالغة أو نقصان، فإذا اندفع الفلسطينيون مع طالبان أو ضدها، وإذا تصوروا أن ما حدث ينبئ بصعود الإسلام السياسي يخسرون، فعن أي إسلام سياسي يجري الحديث، فلا بد من التفريق بين الإسلام والإسلاميين، ما بين القوى العقلانية والمتطرفة.
كما يتوقف على كيفية تصرف دولة الاحتلال الإسرائيلي، هل ستصاب بالذعر وتتقهقر، أم تحظى بدعم أميركي أكبر وتنجح في تنفيذ خطة نفتالي بينيت لإقامة حلف إسرائيلي عربي إقليمي هدفه محاربة إيران، ومنعها من الحصول على القنبلة النووية، ووقف تمددها في المنطقة، ومنع حصولها على أسلحة أكثر تطورًا.
فإذا اعتبر الفلسطينيون أن ما جرى في أفغانستان سيجري اليوم أو غدًا في فلسطين، وليس أن طبيعة الصراع وخصائصه والمؤثرات عليه مختلفة، وأن هزيمة المشروع الصهيوني الاستعماري آتية ولكنها تحتاج إلى وقت وتوفير مستلزمات، أو إذا رؤوا أن ما يحدث مؤامرة، أو انحازوا إلى الغزاة المندحرين، فسيضيعوا الفرصة، أما إذا انطلقوا بأن ما حدث يعني أن مكانة الولايات المتحدة وقوتها ومصداقيتها تراجعت، وأن دورها العالمي في تراجع، ولكن بدون مبالغة، وأن الرهان عليها خاسر، فستكون الفرصة لصالحهم.
في هذا السياق، من الغريب التغريدة التي كتبها موسى أبو مرزوق تعليقًا على ما جرى في أفغانستان، وجاء فيها: "طالبان لم تخدع بالعناوين البراقة والديمقراطية والانتخابات، ولا بالوعود الزائفة". فما علاقة مقاومة الاحتلال بالديمقراطية والانتخابات والوعود البراقة، أم هي فرحة نابعة من تعقيد الوضع وتغير موقف طالبان من جماعة الإخوان المسلمين بعد معاداتها السابقة لهم، مع أن سهيل شاهين، الناطق باسم طالبان، قلل من أهمية ترحيب "حماس" بالانتصار الأفغاني، نافيًا أي تعاون بين الحركتين؛ أم هي عملية خلط لا معنى لها، بين ما سمي "الإسلام المعتدل" و"الإسلام المتطرف"، وقد توحي بأن هناك ردة فعل على رفض إشراك "حماس" في النظام السياسي الفلسطيني رغم اعتدالها، بحيث في هذه الحالة يمكن أن يفسر أو يوحي بأن الحديث عن الديمقراطية والانتخابات والمشاركة مجرد تكتيك، ويعكس نوعًا من الندم، ولا تنم عن تغيير حقيقي عميق لدى حماس غير قابل للارتداد عنه ... من واجب أبو مرزوق أن يوضح ما قصده.
الحذر كل الحذر من الوقوع في براثن التجريبية وفقدان البوصلة، فـ"حماس" جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية، ولها بعد فكري إخواني، والمفروض منها أن تعمق استقلاليتها، وطابعها الوطني والديمقراطي من دون التخلي عن بعدها الفكري، وهذا يختلف عن التذبذب بين الانخراط في مشروع وطني لا بد أن تكون له الأولوية دائمًا، و"مشروع إسلامي" فلسطين نقطة في بحره.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت