- بقلم/ د.علي شنن
- أستاذ التخطيط الاستراتيجي والدراسات المستقبلية المساعد .
كثير من الأحيان مايشتهي أحدنا أن يجد جليساً يحمل في خلجاته أيديولوجية فكرية تلمس شيئاً ولو بسيطاً من تلك التي كانت لدى أسلافنا غير المفكرين، شيئاً يجذب الأذهان للمعنى الحقيقي للعقل المفكر الناقل لكل من الخبرات الحقيقية و التجارب الحياتية و المصطلحات البناءة للذات المغذية للروح و الرامية للمستقبل. وليس أي مستقبل، إنه مستقبل وطن على أرض تصنعه أجيال.
و في ظل انه قد ذهب الوطن و سُلبت الأرض وضاعت الأجيال، فقد يمر زمناً طويلاً دون أن ينعم أحدنا بمصادفة ذلك الجليس المقصود، وإن تسابقت أسماء مفكري اليوم و تزاحمت، فسوف يظل الشعور بأن أحداً من بينهم لم يرتق بعد لأدنى المستويات الفكرية التي كان عليها ويحملها أحدهم في زمن أسلافنا، مره أخرى " من غير المفكرين " .
وكما هي العادة، تبقى السياسة هي المَنْفَذ الوحيد لتحقيق مصالح دول القوى العُظمى، حتى لو كان ذلك على حساب إنهيار دول أخرى اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ...إلخ، وهذا قد يكون من الصعب تحقيقه إذا ما كانت تلك الدول المعرضة للانهيار تمتلك شريحة كبيرة من أبنائها يتصِفُون بأنهم اصحاب عقلٍ وفكر، ولنا أن نرى ذلك جلياً لدى الدول التي قاومت الاستعمار ونهضت بعد احتلال طال أراضيها لسنوات طويلة، وعند قراءة مستفيضة للمجريات التي حدثت في معظم تلك الدول التي إنتزعت حرياتها من بين أنياب الإستيطان" أياً كانت تلك الدول المستعمرة"، نجد أن لمفكري ومثقفي تلك الدول المعتدى عليها الدور الأعظم في طرد الدول المستعمرة و اجتثاث جذورها من داخل أعماق بلادهم، وهناك العديد العديد من المواقف التي سجلها تاريخنا العربي في العديد من الدول التي تعرضت للاحتلال والاستعمار تثبت ذلك.
وفي نفس الصعيد، لم تكن إسرائيل كدولة مغتصبة أو كجاليات صهيونية منتشرة في جميع دول العالم " قبل وعد بيلفور " بعيدة عن المشهد الاستيطاني التي نفذته دول العالم الأول بحق الدول النامية بعد كل من الحرب العالمية الأولى و الثانية، بل أنها قامت بدراسة تلك التجارب الاستيطانية وتحليلها بشكل معمق، والوقوف جيداً عند أسباب فشلها وعدم تحقيق أي من خططها و أهدافها، ولعلهم بذلك خلصوا إلى العديد من الحقائق التي قادتهم بطبيعة الحال إلى ايجاد بدائل فعالة تقودهم الى تنفيذ خططهم الاستيطانية بشكل أكثر ضمانة فيما يتعلق بتحقيق اهدافهم مستعينين بذلك على خطط طويلة المدى قد نجد في أيامنا هذه نجاحاً واضحاً في تحقيق العديد من اهدافها مثل نقل السفارات للقدس و التطبيع العلني مع العديد من الدول العربية و التوسع المخيف في ملف الاستيطان بالاضافة إلى ما تم الإعلان عنه مسبقاً فيما يتعلق بصفقة القرن.
ولما كان الفلسطينيون يتمتعون قديماً بعقلية وطنية تتبنى بالدرجة الأولى مبدأ التحرير، تحرير الأرض والعرض من خلال ممارسة العمل النضالي فكراً و عملاً، وكان في سبيل ذلك تجمعهم ثقافات و معتقدات وانتمائات وطنية لا شائبة فيها ولا مصلحة، يؤمنون بأنه حتى يتم تحقيق أهدافهم الوطنية لا بد أن يتم تغليب مصلحة الوطن على مصالحهم الحزبية أو الشخصية، حينها فقط كانت فلسطين بسواعد هؤلاء الرجال و هممهم حاضرة في أذهان و قلوب كل عربي ومسلم في العالم، هذا بالاضافة إلى حضورها كبلدٍ مقاوم صلب للظلم و الاحتلال والاستيطان.
لقد علم قادة اسرائيل ذلك، وفهموا جيداً ان هناك عقل مقاوم لمخططاتهم الاستيطانية بثقافة و فكر له قوة تأثيرية أكبر من تلك التي تحدثها البندقية، فالبندقية التي يوجهها فكر وتصوبها ثقافة تحقق ما لم تستطيع تحقيقه بندقية يقود زنادها غير ذلك، ساعدهم في ذلك خبراتهم السابقة والتي تم الاشارة اليها فيما يتعلق بما حققته الدول التي تعرضت للاستعمار واستطاعت بفكر رجالها الوصول الى التحرر، فتأكدت أن السبيل الأوحد لنجاح خططهم الاستيطانية واهدافهم الاستعمارية هو الاطاحة بهم فكرياً و ثقافياً، وذلك من خلال تغيير طبيعة أفكارهم واستبدال ثقافاتهم الوطنية بثقافات متعلقة بمصالح حزبية و شخصية، وهذا ما تم الإعمال عليه من خلال إعادة صيانة العقول وتعديل ما بداخلها بما يخدم الهدف الاسرائيلي العام والمتعلق بدولتهم وديمومتها واستمرارها اقليمياً ودولياً.
ولعل المحركات السياسية التي يملك زمام امورها اللوبي الصهيوني كان مساعداً قوياً في تنفيذ ذلك وتحقيقه، فلو نظرنا اليوم في سياسة أي دولة في العالم لوجدنا أن اسرائيل حاضرة بين سطورها، سواء فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي أو التكنولوجي او الاجتماعي...إلخ، أو بما يتعلق بالدبلوماسية الدولية التي تفرضها العلاقات السياسية بين دول العالم الأول.
وقد ساعد ذلك كله، وغيره الكثير في نهاية الأمر إلى حصر الفكر السياسي لدى قادتنا الفلسطينية، وجعلهم ينفذون خططهم و آليات عملهم الوطنية داخل صندوق مغلق يتم التحكم بحجمة و مساحته وفضاء افكار المقيمين بداخلة خارجياً .
وهكذا أصبحت السياسة تتحكم ليس بمصير شعب وحسب، وانما بطريقة تفكيره وحجم ثقافته، حتى أصبحنا كما يقول الكثيرين... "نحن شعبٌ يملك المتعلمين و يفتقر للمثقفين و المفكرين".
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت