- د. سنية الحسيني
بعد الحرب الأخيرة على غزة شهدت الساحة السياسية تصريحات متذبذبة حول صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس، على الرغم من سرية المعلومات الصادرة عن ذلك الملف وشحاحتها. ومن الواضح أنه لم يتم حتى الآن جسر التباينات بين الطرفين، الا أن تصريحاتهما تؤكد رغبتهما في إنجاز الصفقة. فهل نشهد قريباً صفقة جديدة لتبادل الأسرى، أم أن الحديث حول ذلك لا يزال مبكراً؟
من الواضح أن إسرائيل بدأت بتحريك ملف صفقة التبادل مع "حماس" بشكل يختلف عن الفترات السابقة. فقد أقحمت إسرائيل قبل أيام الوسيط الألماني في إطار الملف، بعد الزيارة الأخيرة التي قامت بها إنجيلا ميركل المستشارة الألمانية المغادرة للسلطة، قبل أيام. وقبل ذلك بأيام، وصل إلى مصر وفد من حركة حماس، يعد الأعلى مستوى منذ بدأ العمل لإحياء ملف صفقة التبادل، بدعوة من عباس كامل، رئيس المخابرات المصري. وكانت إسرائيل قد تحركت نهاية الشهر الماضي لاقناع كل من قطر وتركيا الى جانب مصر بالتوسط لإنجاز الصفقة، قبل أن تقحم أيضاً الوسيط الألماني. وتؤكد مصر أنها تلقت نهاية الشهر الماضي طلباً من إسرائيل يدعوها لتحريك ملف الصفقة، بعد أن سحبت إسرائيل في ذات الشهر شرطها الذي ربط إعمار غزة بانجاز الصفقة، وبادرت إسرائيل بالفعل برفع عدد من القيود عن القطاع المحاصر.
لا يمكن تجاهل اهتمام إسرائيل بإتمام صفقة التبادل، اذ أكد بينيت خلال لقائه مع عائلة الجندي ارون شؤول التزامه بإعادة المحتجزين لدى حركة حماس. ويعتبر التزام القادة الإسرائيليين، منذ عام ١٩٤٨، باستعادة جنودهم المحتجزين عند الأعداء أحياءً كانوا أم أمواتاً، مبدأً رئيسياً يصعب تجاهله. وكانت إسرائيل قد أعلنت بعد الحرب الأخيرة على غزة، رفضها لإدخال أي مواد تتعلق بإعمار غزة، قبل استعادة الإسرائيليين الذين تحتجزهم حركة حماس. وتلمح إسرائيل لنيتها تقديم تسهيلات كبيرة لضمان إعادة اعمار غزة، والتي اعتبرها نفتالي بينيت رئيس وزراء إسرائيل أنها تحقق مصلحة لإسرائيل. وتلوح إسرائيل بهذه الورقة لاغراء حركة حماس، التي لا تخفي رغبتها القوية لكسر الحصار، لتقديم تنازلات في إطار ملف صفقة التبادل. وطرح يائير لابيد وزير خارجية إسرائيل خلال زيارته الأخيرة إلى مصر، خطة لإعادة إعمار غزة على مرحلتين، تبدأ الأولى بالمساعدات الإنسانية التي تشمل بناء شبكة كهرباء وبنية تحتية للمياه، وصولاً إلى بناء ميناء.
وفي العموم لا يخرج ذلك التوجه الذي طرحه لابيد عن الاستراتيجية التي يتبناها بينيت القائمة على أساس "الاقتصاد مقابل الأمن" في غزة والضفة، خصوصاً وأن إسرائيل تسيطر فعلياً على مستقبل الإعمار، الذي لن يتم دون الدور المصري، المنسق مع إسرائيل. وحدد بينيت أهدافه في غزة، في وقت سابق، بوقف اطلاق الصواريخ والبالونات الحارقة وتحقيق الهدوء، والسيطرة على تعاظم قوة حركة حماس في غزة، واستعادة المحتجزين الإسرائيليين لديها. ورغم تراجع إسرائيل عن ربط صفقة التبادل باعمار غزة، تركز إسرائيل في ظل تصاعد الحديث عن الصفقة، على التخفيف من إجراءات حصارها على غزة، والتي تصاعدت بشكل كبير في أعقاب جولة حرب أيار الأخيرة، سواء من خلال السماح بدخول مواد كان محظوراً دخولها، او بالسماح بتصدير غزة لبعض انتاجها، أو بزيادة عدد العمال المسموح لهم بالعمل لديها. إن ذلك يؤكد أنه على الرغم من موافقة إسرائيل على عدم ربط الاعمار والحصار على غزة بصفقة التبادل، الا أنها ذهنياً لا تزال تربط الملفين معاً. كما أن موافقة إسرائيل على فتح باب قبول عمال من غزة وزيادة عددهم، والذي يتزامن مع التطور في ملف الصفقة، لا يخرج عن إحراج حركة حماس بالوضع الإنساني المزري في القطاع.
ولا تخفي حركة حماس اهتمامها بتحقيق هذه الصفقة ضمن شروطها. فقد لمح مؤخراً يحيى السنوار زعيم حركة حماس في غزة إلى أن الصفقة ستضمن تحرير ١١١١ أسيراً. وفي حزيران الماضي، بثت كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، تسجيلاً صوتياً لأحد المحتجزين الإسرائيليين لديها دون تحديد هويته، تأجيجاً للرأي العام في إسرائيل، للتأثير على قيادته لإبرام الصفقة. كما أعلنت الحركة في الشهر الماضي أن صفقة التبادل ستشمل أسرى سجن جلبوع الستة. وتطالب حركة حماس بالإفراج عن حوالي ٦٠٠ أسير من ذوي الاحكام العالية، وقدماء الأسرى، ورموز الحركة الأسيرة على رأسهم مروان البرغوثي، في حين تعتبر إسرائيل أن المشكلة ليس في عدد هؤلاء وإنما بتصنيفهم. وكانت حركة حماس قد أعلنت في شهر نيسان من العام ٢٠١٦ لأول مرة عن وجود إسرائيليين لديها، دون إعطاء تفاصيل. وفي آذار من ذات العام أقر نتنياهو بوجود جهود لحل قضية المحتجزين الإسرائيليين الأربعة، وعرضت "حماس" بعد أيام صوراً لهم.
بعد انتخاب السنوار لقيادة حركة حماس في غزة عام ٢٠١٧، بلور رؤية تقوم على أساس تحقيق التهدئة والانفتاح على الآخر، وبات كسر الحصار عن غزة من أبرز أولوياته. سعى السنوار لتحقيق تفاهمات مع السلطة بقبول ادارتها المدنية للقطاع، ومع مصر، بفتح علاقات ودية وتفاهمات حدودية، ومع إسرائيل بعقد هدنة طويلة وفك الحصار، تأتي صفقة تبادل الاسرى في اطارها، إذ تؤمن حركة حماس بعدم رغبة إسرائيل بشن حرب مدمرة ضدها. وبدأ التحرك الأخير لإحياء ملف صفقة التبادل بوساطة مصرية، في أعقاب جولة القتال الأخيرة في غزة في شهر أيار الماضي، وجاء في إطار الحديث عن إعادة إعمار غزة بعد الحرب، حيث أصر رئيس وزراء إسرائيل بالربط بين ذلك الاعمار وتحقيق الهدوء والإفراج عن الجنديين أو جثمانيهما. وبدأ الحديث رسمياً حول بدء فتح حوار حول صفقة التبادل في شهر أيلول من العام الماضي، بعد زيارة وفد أمني مصري إلى غزة، وتأكيد إسماعيل هنية دور الوساطة المصرية في هذا الملف. وجاء ذلك التطور في أعقاب مبادرة إنسانية أطلقها السنوار مطلع شهر نيسان من ذات العام، لابرام صفقة تبادل ذات طابع إنساني، بعد انتشار فيروس كورونا، وأبدت إسرائيل موافقتها على التعاطي مع هذه المبادرة في الشهر التالي، وجرى الحديث عن وساطة سويسرية وكذلك ألمانية ومصرية، باشراف من الصليب الأحمر. وجرى الحديث أن تبدأ الصفقة باطلاق ما بين ٢٥٠ و٣٠٠ أسير فلسطيني من كبار السن والمرضى والنساء والأطفال، مقابل تقديم حركة حماس معلومات حول الإسرائيليين المحتجزين لديها، في مرحلتها الأولى. وتتمسك حركة حماس بضرورة افراج إسرائيل عن الأسرى المحررين في صفقة شاليت عام ٢٠١١، والذين اعادت إسرائيل أسرهم عام ٢٠١٤.
وترفض إسرائيل في هذه الصفقة تحرير أسرى من ذوي الاحكام العالية، بحجة أن حوالى نصف الأسرى يعود لممارسة العمل المقاوم. كما ترفض تحرير أسرى صفقة شليط المحررين وأسرى سجن جلبوع الستة. واذا قارنا العوامل التي ساهمت في إنجاح صفقة شاليت عام ٢٠١١ مع تلك المصاحبة لصفقة اليوم، يمكننا التنبؤ بمدى فرص نجاح صفقة التبادل الاسرى اليوم. لم تنجح المخابرات الإسرائيلية في تحقيق اختراق بالكشف عن موقع وجود شاليت كما تفشل الآن في تحقيق ذلك. كما أن نتنياهو سعى من خلال إنجاز صفقة شاليت لتحسين وضعه السياسي وشعبيته، في ظل الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت إسرائيل في ذلك الوقت، تماماً كما يسعى بينيت اليوم لتحقيق شعبية ومكانة سياسية، ضمن معطيات أخرى. الا أن العامل الأهم الذي أجبر إسرائيل في عهد نتنياهو لابرام صفقة شاليت كان مصر، في ظل تصاعد ثورتها، والقلق من تطوراتها لغير صالح العلاقات بين البلدين، والتي قد تعقد عملية تبادل أسرى مستقبلية. هذا العامل تحديداً تم تحييده الآن، ما يمكن أن يفسر عدم وجود ضرورة قاهرة لانجاز صفقة لتبادل الأسرى الآن، بتلك السرعة وضمن تلك التنازلات التي أقدمت عليها إسرائيل عام ٢٠١١. كما أنه يبقى السؤال، إلى أي مدى يمكن ل بينت تقديم تنازلات في إطار هذه الصفقة الآن، في ظل وجود معارضين لها بمعطياتها الحالية، من قبل اليمينيين المشاركين معه في الائتلاف، ووجود معارضة قوة ضده في الكنيست بقيادة نتنياهو، ومساعي حكومة بينيت لتمرير الميزانية في الكنيست الشهر القادم؟
صفقة تبادل الأسرى، والتي تشمل هؤلاء من ذوى الأحكام المرتفعة، والذين قضوا جل حياتهم في سجون الاحتلال، يشكل إنجازها أولوية للفلسطينيين جميعاً، الأمر الذي يفرض علينا انتظار الوقت المناسب، أو خلق الظروف المناسبة، التي تجبر دولة الاحتلال لانجازها وفق شروطنا. وأثبتت التجارب أنه طالما كان الطرف المفاوض قوياً، ويتحكم بأوراق اللعبة، في النهاية تستجيب إسرائيل لشروطه. كما أثبتت التجارب خلال سنوات الحصار الطويلة، أن الهدوء في غزة لا ينتج عنه فك للحصار أو تخفيفه، وإنما التصعيد العسكري والأمني يفتح باب مساومة إسرائيل، وارغامها على تقديم تنازلات للفلسطينيين. وخلال الشهور الثلاثة التي أعقبت جولة الحرب الأخيرة، ساد الهدوء، وشددت إسرائيل من حصارها للقطاع، الا أنه بعد تصعيد غزة الأخير بعد ذلك، لفك الحصار، تساهلت إسرائيل في حصارها، وبدأت بتفكيك محسوب. حررت حركة حماس من خلال صفقة شاليت في تشرين الأول عام ٢٠١١ (١٠٢٧) أسير فلسطيني، مقابل جندي إسرائيلي واحد، وغيرت كل القيود التي وضعتها لتحرير الأسرى الفلسطينيين، مع السلطة الفلسطينية. ونجح حزب الله بتحرير مئات الاسرى اللبنانيين والفلسطينيين والعرب، ومئات الجثامين لشهداء لبنانيين وفلسطينيين، مقابل الكشف عن مصير جنود، أو الافراج عن جثامين جنود، عبر أربع صفقات تبادل للأسرى خلال الأعوام ١٩٩١ و١٩٩٨ و٢٠٠٤ و٢٠٠٨. كما نجحت حركات التحرر الفلسطينية المنضوية تحت منظمة التحرير عندما كانت في أوج قوتها وصراعها مع إسرائيل بتحرير آلاف الاسرى الفلسطينيين خلال ستينيات وسبعينيات وثمانينات القرن الماضي.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت