- د.سامي الكيلاني
ضحك من كل قلبه وصديقه يروي له الحديث الذي سمعه من المختار لوالده وبقية الرجال الذين كانوا في زيارتهم. ضحك بصوت عالٍ جعل زبائن المقهى يستغربون وينظرون نحوهما باندهاش. قال صديقه إن المختار كان يحدث الحضور بدهشة وحيرة، بلهجة لا يدري السامع إن كانت إعجاباً أم استنكاراً. نقل له صديقه عن المختار أنه قال: "أنا عارف أولاد مصطفى السليم شو بدهم؟ كأنه هالوطن لهم لحالهم، شبر أرض ما عندهم، كل ليلة بيجي الجيش بوخدوني يفتشوا دارهم. إبنهم هذا الوسطاني بسمّعني حكي، الله يسامحه، ليش أنا من خاطري بروح مع الجيش، كل دارهم كتب، كتب حمرا، هدول شيوعية، ما أكثر هالكتب اللي عليها صورة هذا أبو لحية، شو اسمه والله ما بعرف أنطق اسمه. أنا عارف شو هامط رزهم، هذا الوسطاني جدع، بسوى مية شب، لو إنه داير باله ع شغله إن كان صاروا أصحاب أرض وعمارات، ولاّ كبيرهم المعلم هذا، محترم بس شو اللي جابره يمشي هالممشى، أنا داري، العقل زينة".
ضحك ضحكاً متواصلاً، ولكن بصوت حاول جهده ألّا يكون عالياً هذه المرة تحاشياً للانتقاد. قال لصديقه: "لك أحلى فنجان شاي على هذه الخبرية، غيرت مزاجي على الصبح". طلب الشاي.
جاء صاحب المقهى بصينية الشاي، وعندما أصبح قربهم، تحدث مع شخص قادم من الاتجاه الآخر "تفضل يا مختار". كان المختار قد وصل بجانبهم. ضبط نفسه من الضحك، ودعا المختار "تفضل مختار، فنجان قهوة"، شكره المختار سريعاً دون توقف، أضاف "مختار، تفضل فنجان قهوة وبحكي لك اسمه أبو لحية"، توقف المختار قليلاً، هز رأسه وتحوقل، ثم مضى دون أن يلتفت إلى الخلف.
(2) وجه آخر للصيّاح
صديقه حسن يدعوه دائماً للدراسة معاً، يقبل الدعوات لسببين، لأن صديقه صديق طيب المعشر بأفكاره وممارساته، رغم أنه لا يشارك في الألعاب مع مجموعات أولاد الحارة الخشنين بناء على نصيحة أخيه الأكبر، ويقبلها كذلك لحسن الضيافة التي يتلقاها وبضمنها كعكة "الككس" التي تصنعها أخته الكبرى. الأخ الأكبر يشكّل الأخوة الأصغر، أما هو فكبير إخوته وليس هناك من يشكّله، يحسده بعض الأصدقاء على هذا الوضع، ولكنه أيضاً يحسدهم على دعم الأخ الأكبر، خاصة أولئك الذين لهم إخوة أكبر يعملون في الكويت مثل صديقه حسن، الصيف وهدايا الزوار والمصروف المتميز على مدار العام. ليس لديه ما يقدمه في المقابل سوى أفكاره الجيدة في حل مسائل الرياضيات والعلوم وصداقة صادقة. والد حسن يقضي الليل هائماً في الحارات، يخاف منه بناء على ما يسمعه رغم أنه لم يلتق به، ولم يصادفه في البيت، خمّن أنه ينام النهار حتى يكون جاهزاً لجولاته الليلية صائحاً.
دخل أبو حسن عليهما فجأة وهما مندمجان في الدراسة، دخل بهدوء دون أن ينتبها. رفع رأسه فالتقت عيناه بعيني الرجل الواقف متأملاً بهما، عينان حمراوان تتأملانه، اضطرب قليلاً لكنه تغلب على ذلك حتى لا يجرح مشاعر صديقه. تحدث الرجل بهدوء يسأل عن حالهما ودروسهما، ثم سأل ابنه إن كان قد اعتنى بصديقه الضيف وإن كانا قد شربا شاياً. لاحظ حسن الدهشة على وجه صديقه، فقال إن والده حنون، ولكنه "يتعب" أحياناً، ثم طلب منه أن يستمرا في الدراسة. عادا إلى حل سؤال الرياضيات، وصورة الرجل الذي تركهما بهدوء، كما دخل، عالقة في ذهنه، صورة لا تمت بصلة للصورة التي يرسمها الناس عن أبي عادل الصيّاح، والد حسن.
(3) زعيم!
جلس على كرسي القش على الانبساط الإسمنتي أمام مقهى القرية بعد أن نفض بعض الغبار عن طرف قنبازه رغم أنه لم يرَ أي غبار، جزء من حركات شخصيته الجديدة، ووضع رجلاً فوق الأخرى. أخذ نفساً من سيجارته وشمّ معها رائحة عطر "ريفدور" الذي وضعه صباحاً بعد أن حلق ذقنه، تحسس ذقنه الناعم، وتحسس النقود التي في جيبه. إنه بكامل الاستعداد ليدعو أياً من المارين لشرب القهوة، وخاصة أبو فتحي.
عدّل جلسته وأسند ظهره للجدار، منتظراً أن يأتي أبو فتحي. بالأمس في هذا الوقت، هنا في هذا المقهى وعلى هذا الكرسي، قال له أبو فتحي، ملاّك الأرض الذي يعمل في حراثة أرضه، بعد أن دعاه على فنجان قهوة "هذه العيون الزرق، وهذه القامة، وهذا الوجه المستدير، ما شاء الله، وهذه الشخصية، لم تخلق لتكون لحرّاث، هذه كلها تصلح لزعيم". استأذنه وانطلق لا يلوي على شيء، باع عدة الحراثة والفدّان واشترى قنبازاً جديداً وقنينة عطر "ريفدور"، وعاد إلى البيت. حدّث زوجته بما فعل، صدمت وولولت احتجاجاً، لكنه صرخ في وجهها صرخة مدوية رافعاً يده مهدداً إياها إن فتحت فمها، كانت لهجته لهجة زعيم حقيقي.
ظهر أبو فتحي من طرف الشارع، فقام من على كرسيه ودعاه بصوت عالٍ ليشرب القهوة معه. وصله أبو فتحي وتفحصه من قدمه إلى رأسه عدة مرات، وضحك ضحكة ساخرة "ليش مش سارح اليوم، مشخّص، فكّرت حالك عن جد زعيم؟!"
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت