يلا نحكي: العمى السياسي ومحاكم التفتيش ... والشركاء الإسرائيليون

بقلم: جهاد حرب

جهاد حرب
  • جهاد حرب

إن الهرج والمرج على صفحات التواصل الاجتماعي عقب لقاءٍ جمع مدراء المنظمات الستة وعددٍ من المنظمات الإسرائيلية، التي في أغلبها تناهض الاستعمار وممارساته وتؤمن بحقوق الإنسان وفقا للقيم العالمية لهذه الحقوق بما فيها حق تقرير المصير، يظهر مدى العمى السياسي (اعتذر مسبقا لجميع المكفوفين عن استخدام هذا المصطلح الشائع) لمن ذهب باتجاه تنصيب نفسه محكمة تفتيش تصنف الناس وفقا لرؤيته ولموقفه دون النظر في أبعاد الفعل وتطورات العمل والتحولات والغايات السياسية من قرار حكومة الاحتلال الإسرائيلي.

مما لا شك فيه أن إعلان وزير الحرب الإسرائيلي المنظمات الستة بأنها "منظمات إرهابية" هو محاولة لتجريم عمل منظمات المجتمع المدني مستقبلا، ولمنع هذه المنظمات من رصد ومتابعة ممارسات الاحتلال الإسرائيلي بمكوناته كافة "أجهزة الدولة الإسرائيلية العسكرية والمدنية ومستوطنيها"، وفضح انتهاكاته في المحافل الدولية والعالمية، وملاحقة قادة الاحتلال وجرائمهم في المحافل الدولية، أو تلك المنظمات الساعية لمساعدة المواطنين المتضررين من ممارسات الاحتلال والمستوطنين، وتعزيز صمودهم في أراضيهم من خلال تقديم الخدمات الأساسية اللازمة للكرامة الإنسانية لهم.

إن العمى السياسي هنا يتعلق بعدم إدراك التحولات السياسية والتفاعلات في "الحرب" الفلسطينية الإسرائيلية ومعاركها متعددة الساحات والأدوات والوسائل، ومتعددة المجالات والأوجه والأبعاد. فالنضال الفلسطيني لا يقتصر على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وهو حق أساسي، بل هو جزء من أحلام المناضلين في العالم بالأمن والسلم العالميين، وجزء من طموح إنساني عالمي بشمول حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الإنسانية، وجزء من مناهضة الظلم إلحاق بالإنسان في فلسطين وفي غيرها؛ وهي تلك عالمية الأبعاد للثورة الفلسطينية. الأمر الذي يتطلب أولاً: تعظيم جبهة المناصرين للحق الفلسطيني المترسخ في حقوق الإنسان العالمية، وثانياً: تحليل عميق للتحولات في التناقض بين ما هو رئيسي وما هو ثانوي ومغزاها؛ وذلك لإدراك اللحظة التاريخية للتحول أو صعود التناقض الثانوي إلى تناقض رئيسي والعكس بالعكس من جهة وفي توسيع جبهة المناصرين والداعمين للحق الفلسطيني من جهة ثانية.

كما أن العمى السياسي هنا يتعلق أيضا بقصور الإدراك لطبيعة الصراع من جهة، والحالة الفلسطينية من جهة ثانية، وأدوات الصراع من جهة ثالثة. إن الأسلوب الأحادي والوحيد لا يجدي نفعا؛ فلا المفاوضات وحدها، ولا المقاومة المسلحة وحدها، ولا المقاومة الشعبية وحدها، ولا العمل السياسي وحده قادر على إنهاء الاحتلال، فليس لدينا زعيم كـ "هوتشي منه" لفتح سايغون بالكفاح المسلح، أو المهاتما غاندي في المقاومة السلمية لإنهاء الاستعمار، ولا نلسون مانديلا بنضاله وتأثيره "للقضاء" على التمييز العنصري "الأبارتهايد"؛ لافتقادنا للعوامل الذاتية والشروط الموضوعية للانتصار في حرب التحرير التي ضمنت لهم ذاك التحول.

إن تجاوز العجز الفلسطيني هذا يتطلب من الفلسطينيين جميعا توسيع جبهة الداعمين والمناصرين والمتضامنين مع النضال الفلسطيني، والتحالف مع المناهضين للظلم والاحتلال والمناصرين لحقوق الإنسان بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية والسياسية وجنسياتهم وميولاتهم الإنسانية من جهة، والابتعاد عن إثارة الخلاف الحاد بين الفلسطينيين في الوسائل والأدوات ومناهج ومسارات العمل السياسي والنضالي من جهة ثانية.

فالنقاش أو الاختلاف حول كيفية البحث أو البحث عن شركاء إسرائيليين لمناهضة الاستعمار الإسرائيلي هي مسألة مفاهيمية جوهرية تتعلق بوسائل العمل أو البرنامج النضالي للفلسطينيين ورؤيتهم للآليات المطلوبة والممكنة التي تحقق التأثير الأكبر أو على الأقل تأثيرا لصالح الفلسطينيين. وهو نقاش دائم عبر تاريخ النضال الفلسطيني يأخذ أشكالاً مختلفة حول الوسائل. ففي الخمسينات والستينات من القرن الماضي جرى النقاش حول الكفاح المسلح ونجاعته ما بين حرب التحرير الشعبية وحرب الجيوش الرسمية، ومن ثم جرى ناقش في السبعينات حول اختطاف الطائرات كوسيلة نضالية ورفضها، وفي التسعينيات أيضا بات النقاش حول العمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية والداخل المحتل وكذلك الأمر في الانتفاضة الثانية. كما أن النقاش مستمر اليوم حول جدوى وعدم جدوى امتلاك الصواريخ مقابل المقاومة الشعبية السلمية في مواجهة الاحتلال، وهو كذلك اليوم في العلاقة مع المجتمع الإسرائيلي ومؤسساته.

 إن الإشكالية الأساسية في العقل السياسي الفلسطيني تتمثل بأن كل طرفٍ، في كل الأزمان، يرى أنه يمتلك الحقيقة دون غيره في البلاد أو هو صاحب المشروع الوحيد دون الدخول في حوار "وطني" للاتفاق على الأساليب والوسائل المطلوبة والممكنة التي تخدم الهدف الأسمى لهذا النضال، أو الاتفاق على المعايير الواجبة لاستخدام هكذا أسلوب أو وسيلة يمكن تبريرها أو تقديمها للمجتمع الفلسطيني، بل ينصب نفسه محكمة تفتيش لتخوين وتكفير ووسم المخالفين له أو لمنهجه أو الساعين لشق طرق جديدة في مسارات النضال الفلسطيني وفي مقاومة الاستعمار الإسرائيلي الكولونيالي الاستيطاني.

يعني ذلك قد يكون الشخص مقاطعاً لاقتصاد الاستعمار الإسرائيلي وناشطا في حركة "BDS" وفي الوقت نفسه مشاركاً في تحالف مع أطيافٍ من المجتمع الإسرائيلي لمناهضة الاستعمار، وقد يكون في أحدهما وغير مقتنع بالمشاركة في الوسيلة الأخرى. هذه مسألة اختيارات وقناعات لكن الأهم عدم العبث أو إهدار الوقت في الصراع الداخلي، تخوينا وتكفيرا وشتما؛ لتحقيق الغلبة لطرف على الآخر أو لمسار على آخر أو لمنهج على آخر، بالقدر اللازم لاستثمار القدرات الكامنة لدى الأطراف والجماعات والمجموعات المختلفة.

وأجزم هنا أن جميع المسارات مطلوبة؛ فلم يتحرر شعب من الاستعمار دون مقاومة بأشكال مختلفة وفقًا لإمكانياته وقراءته للشروط الموضوعية والذاتية، ودون العمل مع فئات وشرائح وقوى مجتمع دولة الاستعمار ذاته وإقامة تحالف أو شراكة مع حركات أو أطراف أو تجمعات داخله بدواعي مختلفة أو أسباب متعددة سواء كانت تلك ايماناً بالحقوق الوطنية للشعوب المُستَعمرة أو لوقف الدماء والوقوف مع ضحايا العنف، وهما يسيران جنبا إلى جنب.  

في ظني أن المسألة الرئيسية الغائبة في الفهم الفلسطيني ترتبط بمسألتين هما عدم الاتفاق أصلا على الوسائل أو على الأقل على المبادئ التوجيهية للوسائل المختلفة أولاً، ما يتبعه عدم فهم تناغم المسارات المتعددة للوصول للهدف الوطني ثانياً.

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت