- نهاد أبو غوش
في ذكرى استشهاده، نتذكر القائد الرمز بكل ما يليق به من محبة وتوقير كان أهلا لهما في حياته وبعد رحيله، فهو القائد الذي لم يختلف على قيادته أحد حتى أولئك الذين اختلفوا معه حول مواقفه وسياساته أو قراراته وإجراءاته، وهو الرمز الذي اندمجت ذاته الفردية والإنسانية بقضية شعبه حتى تخال أن هذا القائد لم تكن له حياة شخصية، فكل شيء لديه مكرس من أجل فلسطين. وهو الشهيد الذي كان للشهادة ويتوقعها في كل حين، ولم يكن ليتردد قيد أنملة بما كان يدفعه دفعا إلى هذا المصير المأساوي على المستوى الشخصي، والأكثر سموّا ورفعة على المستوى العام.
من المؤكد ان مئات الآلاف، بل ملايين الفلسطينيين والفلسطينيات يرتبطون بذكرى خاصة وشخصية ما مع ياسر عرفات، "أحد اسماء فلسطين الجديدة"، و"الفصل الأطول في حياتنا" كما قال شاعرنا العظيم محمود درويش. فمنهم مع حارب معه، أو التقى به وسلّم عليه، أو صمد خلال التحقيق وضباط الاحتلال يساومونه للتبرؤ من هذا القائد، أو استمع لخطابه، أو لوّح له إذ صادف موكبه في الطريق، أو هبّ لنجدته حين حاصرته دبابات الاحتلال، أو بكى عليه حين رحل، أو ما زال يفتقده في الليالي الظلماء وما أكثرها عددا وظلمة، وذلك أضعف الإيمان.
ياسر عرفات نفسه كان جزءا من حياتنا اليومية، ليس لأنه تسلم موقع المسؤولية الأول لسنوات طويلة، بل لأنه كان جزءا حميميا من مكونات شخصيتنا وثقافتنا، كان أحد مركبات هويتنا، وقد اعتقدنا أنه معطى ثابت من معطيات حياتنا، ولذلك تعاملنا معه بتلقائية فناضلنا تحت قيادته وانتقدناه أحيانا، بل كان بعضنا يحمله مسؤولية كل السلبيات، ولم ندرك مدى رمزية هذا الرجل واستثنائيته إلا بعد رحيله الموجع.
من الطبيعي أننا كلما ابتعدنا عن زمنه وعن تاريخ وفاته، كلما أحطنا شخصيته بهالات من الرمزية التي هي أقرب للأساطير والقداسة، يحصل ذلك مع كثير من الشخصيات التاريخية المؤثرة مثل الزعيم جمال عبد الناصر. لذلك فإن الجيل الذي نشأ أو كبر في غياب ياسر عرفات والذي لم يشتبك مع تفاصيل السياسة اليومية في عهده، هو أكثر من يؤسطر شخصيته، بينما من عايشوه وعملوا معه يظهرون واقعية أكثر، فبعضهم يحمله مسؤولية ما وقع في عهده وما جرى بعد وفاته وما آلت إليه الأوضاع، أما البعض الآخر وهم الأغلبية على ما أظن فما زالوا وسوف يواصلون إحاطة شخصية ياسر عرفات بكل مظاهر التبجيل المقترنة بالحب والتفجع على فقدانه. من حق الشعب الفلسطيني، وبعد أن برد ألم الرحيل قليلا، أن يقيّم مرحلة عرفات وشخصيته بكل موضوعية، ليس من أجل الحكم على هذه الشخصية الفذة، فهذا حاصل ومتحقق وقد تبوأ عرفات مكانته المرموقة في وجدان شعبه بجدارة وامتياز، بل من أجل الاستفادة من التقييم في مواجهة التحديات الكبرى التي تقف في مواجهتنا.
فابو عمار في نهاية المطاف إنسان يصيب ويخطىء، وسياسي أدار الشأن الوطني والداخلي وكانت له علاقات إقليمية ودولية متشابكة ومعقدة مع الأشقاء ومع الحلفاء وحتى مع الأعداء، وأحاط عرفات نفسه بمجموعات متنوعة ومتنافرة ومختلفة من المساعدين والمستشارين، ولكن مثل هذا الحكم، وتحديدا عند الحديث عن الأخطاء والسلبيات، ينبغي أن يخضع لمعايير علمية وتاريخية صارمة وليس لأحكام انطباعية واعتباطية، وأحسب أن أي تقييم مهما كان لن ينال من مكانة ياسر عرفات في قلوب أبناء وبنات شعبه.
في ذكرياتنا عن ياسر عرفات سوف نتذكر أنه إنسان حاضر البديهة في كل وقت، لا في القضايا الحياتية والشخصية، بل بكل ما يتعلق بفلسطين وقضيتها وشعبها، تسأله عن صحته فيجيبك عن فلسطين، تسأله عن سلامته فيجيبك عن شعبه. وكان مشدودا إلى الناس العاديين، يخاطبهم ويستنهض روحهم الوطنية وهممهم الكفاحية، حتى وهو يجالس النخب والقيادات، فكان كأنما يتحدث بلغتين في وقت واحد: لغة لمن يجالسونه ولغة لأولئك المنتشرين في الساحات والشوارع والقرى والمدن والمنافي ينتظرون إشارة من قائدهم، وهي ميزة فريدة تجدها ايضا في معاني ودلالات كلامه حين يتحدث، عليك أن تسمع لما يقول مباشرة، ولما هو كامن بين سطور كلامه.
وكان يقدس الشراكة الوطنية، يحرص على البحث عن القواسم المشتركة وتعظيمها، بارعا في تدوير زوايا الخلافات.وعلى الرغم من مكانته وعظمته، فقد كان متواضعا على اشد ما يكون التواضع، يحب ان يعظّم من شأن من هم حوله، جاهزا على الدوام للمبادرة بالمصالحة وطي الخلافات، وفتح صفحة جديدة لعمل مشترك من أجل فلسطينن ربما كان شديدا على المقربين من القادة والمسؤولين ولكنه كان أرق من النسيم مع الأطفال والجرحى وأهالي الشهداء ومع عموم المواطنين العاديين والبسطاء .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت