في ذكرى استشهاده (17) ياسر عرفات ... ابو عمار بين خيار البندقية والغصن الاخضر ... وبين الحرب والسلام.

بقلم: يوسف ذياب عواد

يوسف ذياب عواد
  • بقلم أ.د يوسف  ذياب عواد
  • نائب رئيس جامعة القدس المفتوحة للمسؤولية المجتمعية

ولد القائد ابو عمار سنة  1929 في القاهرة التي تلقى التعليم الجامعي فيها كما انشأ وقتها الاتحاد العام لطلبة فلسطين وقد أتيحت  لي الفرصة مرة ان قرأت خطه الجميل وتوقيعه الحي باسم محمد عبد الرؤوف في اول تشكيل لمجلس الطلبة بالقاهرة بحيث جمع كل أطياف السياسة  الفلسطينية تحت  هذا الإطار الطلابي النقابي. انتقل الى الكويت للعمل فيها  كمهندس قدير براتب وفير واتيحت له الفرصة ليمارس العمل الوطني ويخطط لتبدأ اول عملية عسكرية في عيلبون وتخلى عن مهنته وما بها من راتب وامتيازات لصالح العمل الوطني.
 لعل من الصائب القول انه ؛ قلما عرفت شعوب الارض قاطبة قائدا متمرسا عظيما قدر ما بلغ اليه الياسر ابا عمار الذي قاد حركة التحرر الوطني الفلسطيني وأجمع الكلمة للموقف الداعم لقضيتنا ونصرتها من مختلف الأوساط والدول الكبرى والأحزاب والمحافل وقوى التحرر الحديثة في العالم فكان معلما ورمزا بحيث عرفت معظم الشعوب والدول قضيتنا الفلسطينية من خلال كوفيته العريقة ومواقفه ودبلوماسيته وحنكته التي نفتقدها هذه الأيام ... فكثيراً ما كان يتغلب على ازمات خانقة وخطيرة ويتجاوزها باقتدار بسرعة كبيرة  وجهد بسيط  .
 كان قائدنا عنيدا صلبا شجاعا عندما يتطلب الامر ذلك وكان مرنا متساهلا متعاونا اذا اقتضت الحاجة عفويته وبساطتة المعهودة التي تقترن بابتسامة الواثق والحاني لابناء شعبه الذين وضعوا ثقتهم الكبيرة فيه وانتظروه مخلصا لهم من معاناة التشريد والقتل والتدمير .. وبعد اتفاق السلام وعودته مع آلاف العائدين بذل كل جهد مستطاع في سبيل ابقاء المقاومة كخط دفاع ثان عن الحل السياسي وبديل قائم في حال فشل محادثات السلام وبخاصة ما يتعلق بالقدس والحدود للدولة وحق العودة.
 وبعد انتظار طويل ورفضه لإغراءات وضغوطات كبيرة اتهم انه أعطى الضوء الأخضر لانتفاضة الاقصى التي احدثت شرخا كبيرا بين السلطة الفلسطينية والاحتلال ولم تثنه عبارات التهديد والوعيد بقصف مقر المقاطعة برام الله حيث يتواجد عن التراجع في دعم المقاومة والدفاع عن حقوق الشعب التي تنصل منها الاحتلال برغم الاتفاق (أوسلو)..  كانت العودة والدولة والقدس ثالوث الاهتمام في معادلة البقاء لشعب تشرد من ارضه ومساكنه ومؤسساته مقحما المؤسسات الدولية بتحمل مسؤولياتها تجاه شعبنا.. ولعل اكثر المواقف المؤثرة ما قاله في الامم المتحدة لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي ... رغبة في السلام الذي عمل لأجله وضحى وتنازل رأفة بالأطفال والشيوخ والمرضى والمعذبين من الشعبين  .. الا انه دفع ثمن هذا المنحى الذي  ينكره العنصريون المحتلون الذين أعدوا له المكيدة الغبراء. فقضى شهيدا شهيدا بعد عدة سنوات من الحصار اللعين. ارسى ابو عمار كثيرا من مقومات الدولة برغم من سلبيات كبيرة رافقت وجود السلطة الا ان طابع الاحتواء والاسترضاء والبطالة المتفشية  والازمات كانت ملاذا للتبرير المقنع ربما. فكثيرا ما كان الشهيد عرفات يحظى بالإجماع الوطني بلا منازع.
عاش مناضلا زاهدا متفانيا ومات عزيزا غاليا في قلوب محبيه من شعبنا العظيم بمختلف مناطق تواجده. كان لغيابه عن السياسة الفلسطينية تقهقرا في تحقيق الطموحات المنشودة لشعبنا وباتت الأمور تتناقص بمنجزاتها باستثناء الاعتراف بدولة فلسطين في الامم المتحدة التي لقيت انتصارا فلسطينيا كبيرا للرئيس عباس . كرس ابو عمار البقاء على الثوابت التي مات لأجلها لدرجة التزم خلفه الرئيس عباس  بها ولم يرضخ لضغوطات  خارجية وداخلية ايضا. وبرغم من تشكيلات متعاقبة للحكومات الفلسطينية الا انها لم تخرج عن الإطار الذي حدده ابو عمار من حيث البعد السياسي وليومنا هذا وكأن الثوابت تورث تباعا .
ظلت مسألة تسميم ابو عمار حديث الساعة والسر الغامض والمؤرق الا ان الشكوك لم تصل حد اليقين وان كان الترجيح باستخدامها مقنعا . يعد الانقسام الفلسطيني الداخلي أسوأ ما حصل بعد وفاته وهي مأساة تلقي بظلالها  على الوضع الداخلي  وهذا ما يذكرنا ايضا بمنهجية ابو عمار وفق ما يسمى بالقرار الفلسطيني المستقل الذي تراجع بوفاته واستشهاده طبعا. عاشت الفصائل الفلسطينية بغيابه سنوات عجاف  وليس ذلك خللا بوارثي السلطة ربما بقدر ما كان يتمتع به الشهيد عرفات من خصائص وسمات قيادية وطنية توحيدية بامتياز لدرجة ان هناك ثمة مقولة كانت تتردد ان الناس يختلفون مع ابو عمار ولا يختلفون عليه.
عاش الخالد فينا سنوات كبيرة من التحديات والأحداث والحروب والمؤامرات ولكنه كان يبتسم متفائلا باجتياز النفق المظلم ببصيص من امل يزرعه في نفوس الشعب . مات ملتهبا بشوقه للأقصى الذي تمنى الصلاة فيه و دفنه بالجوار الا ان تراب المقاطعة في رام الله كان له شرف الضيافة حتى ينقل جثمانه الطاهر الى حيث أراد  أسوة بالقائدالامير عبد القادر الجزائري الذي أعيد رفاته من المنفى ليدفن حيث كان يرغب في وطنه الجزائر بعد التحرير. كانت القدس بالنسبة له حجر الزاوية في أي اتفاقات او تفاهمات  او سلام مع الاحتلال وكان يستند الى قاعدة ان للقدس خط أحمر  فلسطيني وآخر عربي ثم اسلامي ولا مجال للتفريط بذرة تراب منها بل ربط حلمه بإقامة الدولة برفع شبل من اشبالنا وزهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق أسوار القدس ومآذن القدس وكنائس القدس.
 كان ابو عمار يوظف البعد الديني للطوائف بما فيها اليهود المعتدلين من غير الصهاينة لتحقيق مزيد من الوحدة الوطنية والترابط المجتمعي. وقد أعطى المعوزين والأيتام وذوي الشهداء والجرحى والمعتقلين   دعما معنويا وماديا .  ابو عمار أسطورة غنية وأنموذج في التحمل والصبر والعزيمة .. كانت شخصيته تجمع بين:  الحرب والسلم والبندقية وغصن الريتون  ... اللين والشدة ..  الصديق والعدو .. الواقع والمستقبل تركنا القائد الرمز عندما فاضت روحه الطاهرة في مستشفيات فرنسا بتاريخ ١١/١١/٢٠٠٤  الى بارئها مسترضية مستبشرة بذات الوقت الذي تغلغل حبه واحترامه في أعمق النفوس رحمه الله مع الصديقين والشهداء في ظلال جنة وارفة ظلالها.ابو عمار باق في نفوس أهله وشعبه  بقاء سرمديا عزيزا  ... سرمدية الزيتون والزعتر  ... الى جنات الخلد بحول الله تعالى يا زعيما يشار له بالبنان بعد وفاته بأكثر من حياته وكفاك مجدا بذلك يا قائدنا.

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت