- بقلم سند ساحلية
تشهد المنطقة العربية تراجعا حادا في ثقافة التسامح والمشاركة، في ظل انتشار الصراعات والنزاعات الانفصالية والاقتتال على خلفيات سياسية ومذهبية وإثنية، مما يشجع ويغذي نشوء وتنامي الأفكار الظلامية والإقصائية والتكفيرية. وتبدو المصالحة ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر، أمورا غير منظورة في الزمن القريب، ولعل أهم أسباب ذلك يكمن في الثقافة والذهنية التي تدّعي امتلاك الحقيقة كاملة، وترى في الرأي الاخر كفراً أو جهلاً او ضلالة.
ومع ان التنوع بأشكاله يكاد يكون هو الأصل في منطقتنا، حيث ان مجتمعاتنا ومنذ أقدم العصور عرفت التنوع الهوياتي، وهي تزخر بتنوع ديني ومذهبي أصيل، وأعراق غير عربية، كونها منطقة حضارات وثقافات متداخلة ومتراكمة، إلا أن كثيرين يتعاملون مع منطقتنا وكأنها عالم أحاديّ الهوية الثقافية والدينية.
هذه الأحادية تشكل سببا من أسباب فشلنا في تحويل هذا التنوع الغني إلى مصدر قوة وغنى؛ حيث أن الذهنية التي تؤمن بالأحادية وترفض التعددية تشكل عائقا أمام تطور مجتمعاتنا، لا بل تقودها نحو الخلاف والتناحر، علما بأن التنوع والاختلاف والتعددية هي أمور غير سلبية بل طبيعية، والتخلي عنها سيؤدي إلى اختلال التوازن في مجتمعاتنا وتصبح غير مستقرة، وعندما نفقد استقرارنا نفقد فرص تطورنا وازدهارنا على كافة الأصعدة.
ان وضع أسس رشيدة للتنوع والاختلاف، تحترم ما يميز كل فرد من أفراد المجتمع، وتحترم مكوناته الثقافية التي تمثل هويته ومصدر اعتزازه، ونشر ثقافة التسامح والمشاركة، تشكل مداخل رحبة للبدء ببلورة حلول لكثير من المشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا، ليس أولها الاقتصادية والاضطرابات السياسية ولن تكون آخرها المشكلات الثقافية والاجتماعية. وبغياب هذه المفاهيم تبرز أنماط من العقليات المتعصبة والمتطرفة الملأى بالحقد والكراهية اتجاه الأخر، وتؤسس لقيم وأفكار وسلوكيات ومظاهر سلبية دخيلة على مجتمعاتنا، وقد تتحول من مجرد أفكار الى ممارسات لفرض هذه الأفكار والمعتقدات على الآخرين بالقوة، وإلى حد اللجوء الى العنف للدفاع عنها مقترنة بإقصاء الاخر وتهميشه.
وفي سياق نشر ثقافة التسامح الديني والثقافي والأخلاقي والاجتماعي، تتنوع المبادرات والأنشطة وتعقد مؤتمرات للحوار، الا أن كثيرين يعتقدون انها لم تحقق أهدافها وتبقى في الإطار النظري بعيدا عن التطبيق والفعل؛ حيث ان سوء الفهم هو سبب للصراع، وأفراد المجتمع بحاجة لفهم أكثر لمعتقدات وثقافة الآخرين، وتعريفهم على بعضهم بعضا من خلال الاطلاع على الموروث الفكري والثقافي والمعتقدات، لتكوين فهم ومعرفة لخصوصية كل طرف كخطوة أولى في الحوار.
إذن المعرفة بوابتنا إلى التسامح، وسلاحنا في مواجهة أفكار التعصب والتطرف، وتقليص فرص خلق أعداء وهميين في مجتمعاتنا، وقطاع التعليم هو رأس الحربة وجسر من أهم الجسور التي توصلنا الى هذه البوابة، حيث أن تعليم التاريخ المشترك وليس الأحادي، يعزز روح المواطنة والانتماء، ويزيل مشاعر الحقد والكراهية، ويخرجنا من الظلمة الى النور "لئلا تصدم بحجر ارجلنا... او سهم يطير في الليل".
المعرفة بتاريخنا المشترك، ومساهمات كافة مكونات مجتمعاتنا وتأثيرهم ودورهم الريادي في الحضارة العربية والإسلامية، يعد الطريق الأمثل لحوار ناجع وبناء، ودون هذه المعرفة كيف لنا ان نتوصل الى القواسم المشتركة بين مختلف مكونات مجتمعاتنا، ونحن نجهل بعضنا بعض؟ حينها سنبقى ما بين مثالية الفكرة وضعف التطبيق، وتبقى المعرفة مجرد فكرة ونظرية، والتسامح كمدينة افلاطون الفاضلة!
ما يجمعنا في المشرق أكثر من ان يحصى، وهناك الكثير من المشتركات التي تجمع مسيحيي المشرق ومسلميه، وبدل ان يتم الترويج لها ونشرها نجد أن خطابات الشحن والتعبئة والإقصاء والتكفير هي التي يتم الترويج لها عبر منابر رسمية وغير رسيمة، وعبر وسائل إعلام متنوعة ومتعددة.
ما يشجع على طرق هذا الموضوع وطرحه علانية، بعض الأفكار طرحت في نقاش حول ثقافة التسامح، ومنها ما طرحه الأب بشار فواضلة من كهنة بطريركية القدس للاتين، والمرشد الروحي للشبيبة المسيحية في فلسطين، شبيبة موطن يسوع، حيث يرى أن واجبنا في فلسطين ان نبحث عن المشترك فيما بيننا ونعززه لكي نستطيع البناء عليه؛ علينا ان نكون "أشبه برجل عاقل بنى بيته على الصخر فنزل المطر وجاءت الانهار وهبت الرياح ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط لأنه كان مؤسسا على الصخر". لا أن نكون اشبه "برجل جاهل بنى بيته على الرمل فنزل المطر وجاءت الانهار وهبت الرياح وصدمت ذلك البيت فسقط وكان سقوطه عظيما". (متى 7- 27:24)
وتتلخص فكرة الأب فواضلة، التي جرى تطبيقها في لبنان الشقيق، بان لا تقتصر قيمنا المشتركة على التاريخ والحضارة ومشاركة الأفراح والأتراح والاحتفالات إضافة الى قضيتنا الوطنية الجامعة فقط، بل لتشمل أيضا إعادة بناء ذاكرة مشتركة وبعدا ايمانيا وعمقا روحيا مع الله.. وحيث ان السيدة مريم العذراء تحتل مكانة في الديانتين المسيحية والإسلامية لم تحظ بها أي امرأة في تاريخ الأديان، وتشكل قاسما مشتركا له قدسيته بين أبناء الديانتين، مما يؤهل عيد بشارة السيدة مريم العذراء (25 أذار من كل عام) لأن يكون عيدا وطنيا رسمياً، ومناسبة دينية بطابع وطني يجمع ما بين المسيحيين والمسلمين، وتعطل فيه المؤسسات الرسمية، وتنظم فعاليات رسمية وشعبية مشتركة على مستوى الوطن.
وقد جاء في القرآن الكريم عن مريم {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}.. )آل عمران: 42(
وتذكر قصة هذا العيد بالنسبة إلى المسيحيين في إنجيل لوقا (فَدَخَلَ إليها المَلاكُ وقالَ سلامٌ لكِ أيَّتُها المُنْعَمُ علَيْها. الرَّبُّ معَكِ. مُبارَكَةٌ أنْتِ في النِّساءِ. فلَمّا رأَتْهُ اضطَرَبَتْ مِنْ كَلامِهِ وفَكَّرَتْ ما عَسَى أنْ تَكونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ. فقالَ لها المَلاكُ لا تَخافي يا مَرْيَمُ لأَنَّكِ قدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِندَ اللهِ. وها أَنْتِ سَتَحْبَلينَ وتَلِدينَ ابناً وتُسَمّينَهُ يَسوعَ).. (لوقا 1: 28-31)
وفي القرآن جاء في الآية 45 من سورة آل عمران؛ (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ). وثمة سورة كاملة باسم السيدة مريم العذراء ترد فيها حادثة البشارة.
فهل لنا ان نغادر محطة الكلام وحوارات النخب إلى ميدان الفعل والتطبيق على أرض الواقع، لنقدم نموذجا حقيقيا للتسامح والعيش المشترك والتصالح مع الذات؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت