- محمد سيف الدولة
هذه هى الحلقة السابعة من هذه السلسلة، التى نتناول فيها كتاب ماهية الحروب الصليبية للدكتور/ قاسم عبده قاسم الذى رحل عن دنيانا فى الاسابيع الماضية. وكنا قد تناولنا فى الحلقات السابقة الأيدلوجية الصليبية، والظروف التاريخية والدوافع، وخطبة البابا والاستجابة الشعبية، والحملة الاولى واغتصاب القدس، وبدايات الوحدة والمقاومة والتحرير، ومصر وصلاح الدين والحملة الثالثة.
واليوم نتناول الحملات من الرابعة الى السابعة وحملة الاطفال والحملة العجيبة واخيرا قصة التحرير الكامل للارض المغتصبة.
***
الحملة الرابعة 1204 م:
بعد صلاح الدين، تفسخت دولته بين الورثة من ابناء البيت الأيوبي، وهو ما جاء نعمة على ما تبقى من الوجود الصليبى فى لبنان وفلسطين، وتمتعت مملكة بيت المقدس الوهمية التى اصبحت عاصمتها عكا بفترة سلام قاربت العشر سنوات.
وفى عام 1200 م تولى السلطان العادل الايوبى منصب السلطنة الايوبية فى القاهرة.
اما فى اوروبا، فلقد أدرك البابا والغرب ومعهم الصليبيون فى الشرق ان الاستيلاء على مصر هو الخطوة المنطقية والضرورية لتامين وجودهم فى بلاد الشام.
لقد بات غزو مصر بكل مواردها، قضية منطقية وضرورة حربية لضمان الاستيلاء على ما استرده صلاح الدين من مملكة بيت المقدس اللاتينية.
واخذ البابا انوسنت الثالث 1198/1216 على عاتقه مهمة الدعوة الى حملة صليبية جديدة يكون هدفها مصر.
وبالفعل بدات الاستعدادات لتجميع هذه الحملة وتم الاتفاق مع جمهورية البندقية لكي تقوم اساطيلها البحرية بنقل القوات.
وفى سنة 1201 م تحركت الجيوش الى البندقية لكي تنقلها السفن الى الشواطئ المصرية.
ولكن بدلا من ذلك، انحرفت هذه الحملة، واتجهت عام 1202 م الى حصار القسطنطينية العاصمة المسيحية، بدلا من القاهرة العاصمة الاسلامية.
وفى 24 يونيو 1203 رسا الاسطول فى مياه خلقدونية قبالة القسطنطينية.
وفى اول مارس 1204 كانوا يرسون دعائم دولة جديدة تحل محل الامبراطورية البيزنطية بموجب معاهدة فصلوها على اهوائهم.
وفى 23 ابريل 1204 تم اقتحام المدينة وتركت عرضة للنهب والمذابح الصليبية على مدى ثلاثة ايام مرعبة.
وهكذا انتهت الحملة الصليبية الرابعة.
ولكن بعض الصليبيين الذين لم يعجبهم انحراف الحملة عن وجهتها الاساسية، قد واصلوا الطريق حتى شواطىء الشام وهناك تعاونوا مع المستوطنين الصليبيين لشن هجوم هزيل ضد مدينة رشيد ومدينة فوة المصريتين وقد ظلوا فى حصارهم خمسة ايام من عام 1204م، ثم انسحبوا.
وسرعان ما أدرك الصليبيون فى عكا استحالة قدوم حملة صليبية من الغرب لنجدتهم، فسعى امالريك الثالث ملكهم لعقد هدنة مع السلطان العادل الايوبى الذى رحب بذلك نظرا لازدهار التجارة ومكاسبها فى حالة السلم وبسبب متاعبه الداخلية مع بقية الايوبيين من ناحية اخرى.
وبالفعل تم عقد هدنة مدتها ست سنوات فى اواخر 1204.
***
حملة الاطفال 1212 م:
كرد فعل شعبى فى اوروبا الغربية على فشل البابوبة وحكام اوروبا فى استرداد مدينة القدس، خرجت حملة من نوع عجيب عرفت بصليبية الاطفال.
ففى عام 1212 م ظهر صبى فرنسى فى الثانية عشرة من عمره اسمه ستيفين، ادعى ان العناية الإلهية اختارته لقيادة حملة من الاطفال الابرياء لاسترداد القدس التى فشل الملوك والامراء والبابا فى استردادها بسبب ذنوبهم.
ونحج ستيفين بالفعل فى اجتذاب بضعة مئات من اطفال فرنسا وعدد من صغار القساوسة وتوجهوا الى مرسيليا فى انتظار ان ينشق البحر امامهم فى معجزة مثل تلك التى حدثت للنبى موسى عليه السلام، وتكررت نفس الحكاية فى المانيا تحت قيادة صبى اسمه نيقولا، ولكن لم يعلم احد ماذا حدث بعد ذلك لهذه الحملة العجيبة.
***
الحملة الخامسة 1218م:
فى عام 1215م وبسبب ضعف المستوطنات الصليبية وسوء حالها منذ معركة حطين، دعت البابوية وبعض القوى فى غرب اوروبا الى حملة جديدة هدفها مصر للاسباب الاتية:
اولا ـ رغبة المدن التجارية الايطالية الممول الرئيسى للحملة فى السيطرة على تجارة المتوسط وضرب المنافسة المصرية فى عقر دارها بالسيطرة على ميناء دمياط اهم موانئ شرق المتوسط آنذاك.
وثانيا ـ بداية تبللور واستقرار عقيدة سياسية وعسكرية صليبية جديدة مؤداها ان هزيمة مصر او تحييدها على الأقل خير ضمان لبقاء المستوطنات الصليبية.
ثالثا ـ استرداد الشرف العسكرى الذى تمرغ بعد هزيمتهم فى حطين وفقدانهم للقدس.
وبالفعل بدأت هذه الحملة فى الوصول الى عكا.
وفى مايو من عام 1218 م وصلت قواتهم قبالة دمياط وحاصرتها.
فعرض عليهم السلطان الكامل الجلاء عن مصر مقابل أن يأخذوا الصليب المقدس وان يمتلكوا مدينة بيت المقدس ووسط فلسطين والجليل وان يدفع المسلمون جزية عن الحصون التى تبقى بايديهم.
ورغم هذا العرض الكريم والسخى والمتخاذل، فان الصليبيين رفضوه.
وفى 5 نوفمبر 1219 سقطت دمياط فى ايديهم.
وفى صيف 1221 م واثناء تقدمهم الى فارسكور، بدأ فيضان النيل وفتحت الجسور واغرقت كل الطرق امام الجيش الصليبيى.
وتقدم الجيش المصرى وحرر دمياط فى سبتمبر من سنة 1221م.
ولقد استمرت هذه الحملة 4 سنوات وانتهت بالفشل.
ولقد كان فشلها، هو فشل للبابوية وانتقاصا من هيبتها، فلقد كانت هى الداعية الرئيسية الى هذه الحملة.
***
الحملة السادسة ، الحملة العجيبة 1228 م ، والتنازل طواعية عن القدس!
استغل الامبراطور الالمانى فردريك الثانى والذى عرف باسم اعجوبة الدنيا، الروح السلمية للسلطان الكامل، فتبادل معه المراسلات ضد رغبة البابا.
وقد اسفرت هذه المراسلات عن قدوم الامبراطور الى فلسطين عام 1228 م وفى صحبته جيش صغير من الفرسان قوامه ستمائة فارس فقط واسطول هزيل، واستطاع رغم ذلك وبدون قتال، ان يوقع مع السلطان الكامل هدنة مدتها عشر سنوات على اساس ان يتسلم الامبراطور الالمانى مدينة القدس وبيت لحم وشريط من الارض يصل بين عكا والقدس ويبقى فى حوزة المسلمين المسجد الاقصى وقبة الصخرة والمناطق الريفية، وفى المقابل يتعهد فردريك بمنع اى حملة صليبية من اوروبا لمدة عشر سنوات.
وبالفعل توج نفسه ملكا على مملكة بيت المقدس الصليبية، وعاد الى اوروبا فى يونيو1229، بمكاسب لم تستطع اى حملة اخرى قبله ان تحققها منذ الحملة الأولى فى اواخر القرن الحادى عشر الميلادى.
وثار العالم العربى الاسلامى واعتبر هذه الهدنة كارثة حقيقية، وظهر رد فعل شعبى عنيف ضد السلطان الكامل.
وفى عام 1239 م مات السلطان الكامل، وبعد سلسلة من الحروب الاهلية بين الايوبيين فى مصر وبلاد الشام والجزيرة، اعتلى ابنه الصالح نجم الدين ايوب عرش السلطنة فى القاهرة عام 1240 م
***
التحرير الثانى للقدس 1244م:
اتاحت هذه الهدنة فرصة جيدة للصليبيين وزعماء الغرب الاوروبى لكى يستعدوا لجولة عسكرية جديدة ضد المسلمين.
وفى عام 1239 انطلقت حملة جديدة صغيرة استجابة لدعوة البابا جريجورى التاسع ووصلت الى عكا.
وفى نوفمبر 1239 التقى جيش الصليبيين المكون من ألف فارس مع الجيش المصرى قرب غزة، وهُزم الصليبيين.
ومن ناحية أخرى هجم الملك الناصر داود الايوبى حاكم الكرك على بيت المقدس واستعادها من الصليبيين عام 1239
و لكن نشأ صراعا بين حكام المسلمين، فتحالف الناصر داود و حكام دمشق وحمص مع الصليبيين ضد الصالح ايوب سلطان مصر، وتنازلوا لهم عن طبرية وعسقلان، ومكنوهم من الصخرة بالقدس، فجلسوا فوقها يحتسون الخمر وعلقوا جرس على المسجد الأقصى.
وفى عام 1244 م تمكن السلطان الصالح نجم الدين ايوب من أخذ بيت المقدس بواسطة الخوارزمية
وكانت تلك هى الاستعادة الأخيرة لبيت المقدس التى ظلت بيد المسلمين العرب طوال سبعة قرون قبل ان يدخلها جيش اوروبى آخر وقبل ان يحتلها الصهاينة.
***
الحملة السابعة والأخيرة 1249م:
وكان رد الفعل الاوروبى سريعا، ففى عام 1245بدأ التنسيق بين الملك الفرنسى لويس التاسع وبين البابا انوسنت الرابع بشأن التجهيز لحملة صليبية جديدة هدفها استرداد بيت المقدس من الخوارزمية، وتكوين حلف مغولى مسيحى بهدف تطويق العالم الاسلامى والقضاء عليه. وهو المشروع الذى فشل بسبب الحلم المغولى بالانفراد بالسيادة على العالم.
وفى خريف 1248 أبحر الاسطول الصليبيى من ميناء مرسيليا الفرنسى الى قبرص ومنها تجاه الشواطىء المصرية فى مايو 1249
وفى 4 يونيو نزل الصليبيين قبالة دمياط، التى سقطت بدون قتال تحت تاثير شائعة ان سلطانهم المريض قد مات.
وكان السلطان قد قام بنقل معسكره الى مدينة المنصورة التى كانت قد خرجت الى الوجود قبل ثلاثين عاما فقط.
ونشطت المقاومة ضد الصليبيين، وجاء قوات عربية أخرى من بلاد الشام لنصرة المصريين
وفى خضم ذلك توفى السلطان نجم الدين ايوب واخفت زوجته شجرة الدر نبأ وفاته لكى لا تتأثرمعنويات الجيش
وتوجهت القوات الصليبية الى المنصورة، ولكن الامير بيبرس البندقدارى الذى صار فيما بعد السلطان الظاهر بيبرس تصدى للصليبيين واوقع بهم هزيمة فادحة فى معركة رهيبة قرب مدينة فارسكور فى فبراير 1250 م
وتم اسر لويس التاسع ونقل الى دار ابن لقمان القاضى بالمنصورة وأفرج عنه بعد فترة بعد ان افتدى نفسه بفدية كبيرة.
ولقى لويس التاسع حتفه بعد ذلك فى مغامرة صليية جديدة فى تونس.
وكانت الحملة السابعة بقيادة لويس هى آخر جهد اوروبى ضد مصر فى تلك المرحلة من العصور الوسطى
***
انهيار المشروع الصليبى:
اخذ الوجود الصليبيى بعد ذلك يتلاشى رويدا رويدا:
· فبعد ان وحد الظاهر بيبرس مصر والشام، نجح عام 1265 بعد دخوله فى عمليات حربية واسعة فى تحرير قيسارية ثم ارسوف.
· وصفد عام 1266.
· وفى 1268 استولى على يافا.
· وحرر انطاكية فى عام 1268 م بعد احتلال دام 150 عاما وكان ذلك اكبر انتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ ايام حطين واسترداد بيت المقدس، وكان الفرح عظيما.
· ثم عقد هدنة مع ملك عكا الصليى مقابل التنازل عن نصف املاك التاج الصليبى فى عكا
· وفى عام 1271 عقد هدنة مع ملك طرابلس الصليبى بوهيموند السادس بسبب قدوم حملة صليبية جديدة الى عكا تحت قيادة الامير ادوارد الانجليزى.
· وفى 1285 م استولى السلطان المنصور قلاون على حصن المرقب.
· وفى 1287 حرر اللاذقية، وهى آخر ما تبقى من امارة انطاكية الصليبية التى حررها بيبرس.
· وفى ابريل 1289 حرر طرابلس ثم بيروت وجبلة، وانحصر الصليبيون فى عكا وصيدا وعثليت.
· وبدأ الفصل الأخير فى هذه المواجهة المضنية الطويلة بتولى الأشرف خليل بن المنصور قلاون حكم البلاد.
· ونجح عام 1291 م فى تحرير عكا بعد حصار استمر 43 يوما وبعد أسر دام 103 سنة.
· وبعد عكا سقطت بقية المدن والمعاقل الصليبية تباعا، ودالت دولة الصليبيين فى فلسطين الى غير رجعة.
· وعلى الرغم من ان بقايا الصليبيين فى قبرص ورودس ظلوا مصدر ازعاج فى القرنين التاليين الرابع عشر والخامس عشر الا ان قصتهم فى المنطقة العربية قد انتهت على امتداد خمسة قرون تالية. (يتبع)
*****
القاهرة فى 15 نوفمبر 2021
Seif _[email protected]
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت