- بقلم علي بدوان
دخلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ أيامٍ خلت عاماً جديداً من عمرها الكفاحي. منذ أن أعلن الدكتور جورج حبش عن قيامها، وذلك في اطار ائتلافي توحدت به عدة أطراف فلسطينية سياسية وفدائية تحت مسمى الجبهة الشعبية، حيث شكّل تنظيم حركة القوميين العرب الكتلة الأساسية من جسمها.
وقد شكَلت الجبهة الشعبية رافداً نوعياً مُتميزاً في مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني من حيث تبني روح العمل المقوم بكل اشكاله، وقوة حفاظ على وحدة الصف الفلسطيني وحماية للوحدة الوطنية، وذلك في مختلف المُنعطفات التي مرت بها حركة المقاومة الفلسطينية ومنظمة التحرير، خصوصاً بعد الانشقاق الذي ضرب جسم المنظمة بعد العام 1982. فلعبت الجبهة الشعبية دوراً رائداً ومتميزاً في العمل لرأب الصدع الداخلي في البيت الفلسطيني، وفي التوصل الى اتفاق (عدن الجزائر) عام 1984، ومن ثم الاعداد للدورة التوحيدية الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني الذي عُقِدَ في الجزائر عام 1987، وهي الدورة التي أسدلت الستار على الانقسام الفلسطيني الداخلي في حينها، وأعادت احياء الوحدة الوطنية، مما هيأ التربة المناسبة لانطلاق المارد الفلسطيني في الانتفاضة الكبرى في 7/12/1987 ولكن، لم تكن مسيرة الجبهة الشعبية طوال السنوات الطويلة من عمرها لتسير بسلاسة دون التواءات أو انتكاسات، بل عاشت الجبهة الشعبية في قلب ومعمعان العمل الوطني الفلسطيني في مراحله المختلفة التي شَهِدت الكثير من المطبات والعثرات الكبرى وتعرضت فيه الجبهة الشعبية لخضات وهزات كانت عنيفة في بعض الفترات، بدءاً من المرحلة الأردنية في العمل الوطني الفلسطيني والمرحلة اللبنانية وصولاً لتداعيات ماجرى بعد الخروج الفلسطيني المسلح من بيروت صيف العام 1982 وصولاً للوقت الراهن، حيث تعاظمت معضلات العمل الوطني الفلسطيني كنتيجة طبيعة لحدة الجهد المضاد الذي استهدف عموم الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ومنها الجبهة الشعبية، خصوصاً بعد الانطلاقة الكبرى للتيار الاسلامي المقاوم في الساحة الفلسطينية ممثلاً بحركتي حماس والجهاد الاسلامي، باعتبارها باتت واحدة من الأطراف الرئيسية الفاعلة في مسيرة الثورة والحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.
ان مسيرة الجبهة الشعبية تحتاج بعد تلك السنوات لجلسات تقييم نقدية، ولمكاشفات ومصارحات جريئة وغير خجولة، وبعيدة عن لغة المجاملات، فأين أصبحت الجبهة الشعبية، ولماذا هذا التراجع في حضورها في ساحة العمل الفلسطيني على كل مستوياته ..؟
اجابات قاسية
ان الاجابات الممكنة عن تلك التساؤلات قد تكون قاسية، لكنها تنطلق من التقييم الصادق الذي لايتناول الجبهة الشعبية بالتجريح أو الشماتة أو هدم الجدران، بل يتناولها من موقع الغيرة عليها وعلى دورها التاريخي الذي لعبته في المراحل المختلفة من العمل الوطني الفلسطيني، وقد أنجبت من بين صفوفها القادة والكوادر المُتخمين بالمناقبية العالية والطهارة الوطنية وعلى رأسهم المؤسس الدكتور جورج حبش، والشهيد أبو علي مصطفى، والدكتور وديع حداد، وغسان كنفاني، وأحمد اليماني، ومحمد مسلمي، وربحي حداد، واسحق مراغه، وغيرهم ....
فالجبهة الشعبية، تبوأت الموقع الثاني في ترتيب القوى الفلسطينية في ائتلاف منظمة التحرير الفلسطينية من حيث الحضور والفعل والتأثير (نقول في اطار منظمة التحرير)، ولعبت شخصية الدكتور جورج حبش، والكاريزما العالية التي تمتع بها في الشارع الفلسطيني، اضافة للمناقبيته التي ميّزته، دوراً هاماً في تقديم الصورة الايجابية والحضور المتميز للجبهة الشعبية واعطائها طابعها النقي، بغض النظر عن الاشتقاقات السياسية التي ارتأتها الجبهة الشعبية في مراحل مختلفة، وما اعترتها من قصورات هنا وهناك، أو سوء تقدير.
ان أبرز المثالب التي أصابت جسد الجبهة الشعبية خلال السنوات الماضية، تمثّلت في تراجع دورها وحضورها بين الناس، كنتيجة مباشرة لوجود حالة من الضياع السياسي وظهور أشكالٍ من التكتلات والمحاور والاصطفافات داخلها وان توافقت فيما بينها على التعايش السياسي والتنظيمي داخل جسم الجبهة الشعبية وتجنب حالات الانشقاق التي لم تعد الساحة الفلسطينية تتسع لها أصلاً، وقد أفصحت تلك الحالة عن نفسها من خلال التباين في أداء الجبهة الشعبية بالنسبة للموقف السياسي وظهور درجة من الاختلافات والتفلتات من قبل بعض قيادييها في الداخل، وقد أثّرت تلك الوقائع على حضورها وعلى تماسك ووجود كادراتها في فلسطين والشتات، عدا عن تراجع أدائها داخل أوساط الشتات الفلسطيني في مخيمات وتجمعات اللجوء في سوريا ولبنان على وجه التحديد، وهي التنظيم التاريخي بين اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان.
وحتى نكون صريحين وواضحين، نقول إن حالات من التماهي السياسي باتت موجودة منذ زمن لابأس به بين عدد من الرموز القيادية المؤثرة في الجبهة الشعبية وتيار الحل السياسي التفاوضي في الساحة الفلسطينية، وتلك الحالة السياسية تتناقض مع الخطاب السياسي المُعلن والمعروف للجبهة الشعبية، وتلك الحالة من التماهي السياسي شكّلت عنصراً وعاملاً اضافياً استولد المزيد من الضبابية على مسار الجبهة الشعبية خلال السنوات الماضية وأثّرَ بالتالي على تماسك عموم كادراتها وقياداتها في الداخل والشتات، فبات الواحد منّا أحياناً يَضِيعُ في تقدير موقف الجبهة الشعبية من عنوان سياسي واحد.
وفي هذا السياق، فإن غياب الشخصية القيادية المؤثرة التي كان لها أن تَلعَبَ دور الموحد لايقاع وجهد الجبهة الشعبية وعملها السياسي، انعكس سلباً عليها مع رحيل مؤسسها الدكتور جورج حبش، وأمينها العام ورجلها القوي الشهيد أبو علي مصطفى والذي كانت عملية اغتياله صيف العام 2002 عملية «اسرائيلية صهيونية» مدروسة لاضعاف وضعضعة الجبهة الشعبية نظراً لما كان يُشكّله الشهيد أبو علي مصطفى من شخصية قيادية توحيدية وحازمة في صفوف الجبهة الشعبية.
لقد عَجِزت الجبهة الشعبية حتى الآن في التحول لحزب طليعي جماهيري يساري فلسطيني مُتجدد في الساحة الفلسطينية كما تقول أدبياتها (نَعم كما تقول أدبياتها) كما عَجِزت عن تشكيل حالة أو نواة حالة قطبية يسارية في الساحة الفلسطينية والتي باتت ساحة ذات ثنائية قطبية بوجود حركتي فتح وحماس. وهذا العجز لاتتحمله الجبهة الشعبية وحدها بل عموم فصائل وقوى اليسار الفلسطيني التي أنهكتها التباينات السياسية والشخصانية والذاتية بين عموم قواها وفصائلها، كما أنهكتها الأمراض الداخلية والعصبويات التنظيمية التي مازالت تفتِكُ بها حتى الآن بالرغم من المصائب الهابطة على عموم الساحة الفلسطينية في الداخل والشتات.
أخيراً، ان المعلومات المتوافرة والمؤكدة، تشير الى أن المؤتمر العام السابع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قد أنهى اعماله تقريباً، وأن الجبهة الشعبية انتهت من انتخاب هيئات قيادية جديدة لها في الداخل والشتات بما في ذلك المكتب السياسي والأمين العام، في محطة انطلاقة جديدة لها، وتجديداً للدماء الشابة في مواقعها القيادية المختلفة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت