- معتصم حمادة
- عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
■ لمخيم اليرموك الفلسطيني عاداته المميزة التي نقل الكثير منها من البلاد، فحافظ على تقاليده الفلسطينية، كما صان الهوية الوطنية لسكانه، مما جعل منه مدينة صغيرة، تتوزع في أركانها القرى، بسكانها ولهجاتهم، وعلاقات القربى التي حافظوا على احترامها، خاصة كبار السن منهم.
من بين تلك العادات، أن يقيم السكان أفراحهم وأحزانهم في الشوارع والساحات والحارات. فعند الاحتفال، بفرح، كإعلان خطبة أو عقد قران أو حفل زواج، تزين مداخل المنازل، والحارات التي تقود إليها، بالأنوار، والألوان، والرايات والأعلام الفلسطينية وأحياناً بصورة القادة الشهداء، ورئيس البلاد، ويتجمع المحتفلون، في الساحة القريبة حيث تقام المنصة الكبرى، وعليها تنتصب أدوات الزينة وينتشر أعضاء الفرقة الفنية وتعزف الموسيقى، وتشق الأغاني الوطنية والتراثية عنان السماء، وتعقد حلقات الرقص والدبكة، وتوزع الحلوى، وتمتد الأفراح أحياناً لليالي ثلاث، تختتم بعدها بمسيرات فرح، بين منزلي العريسين، ليلتقيا في رحلة جديدة من الحياة والعيش المشترك في واحد من منازل المخيم.
أما في الأحزان، عند وداع شهيد، أو قريب، أو صديق أو عزيز، فتقام مجالس العزاء، في المكان نفسه الذي تقام فيه مجالس الفرح، فتمتد المقاعد على جانبي الجادة أو الشارع القريب من منزل الفقيد حيث يتقبل الأهل التعازي، وتتلى آيات القرآن، وتوزع القهوة المرة على الحاضرين وتتلى الفاتحة أكثر من مرة في الساعة الواحدة. وعلى مدى ثلاثة أيام، يختتم اليوم الثالث منها بتقليد ديني يسمى «الختمة» ويقال أن المقصود بذلك أن يتلى القرآن كاملاً (يختم) من قبل الحضور، وأن يكون هذا اليوم هو خاتمة الأحزان.
لذلك لا غرابة وأنت تتجول في المخيم، هنا أو هناك، أن نلتقي أكثر من فرح، فتكون مشاركاً دون أن تكون مدعواً، فالفرح يقام في الهواء الطلق خارج القاعات، ليكون الجميع شركاء فيه، تدعوهم الموسيقى والأغاني والأهازيج ليكونوا شركاء.
ولا غرابة أنت تتجول في شوارع المخيم، بعد الظهر، أن يصادفك مجلس عزاء امتد على جانبي الطريق، فتأخذ مكانك، حتى ولو كنت لا تعرف من هو الفقيد، تتلو الفاتحة وتحتسي القهوة المرة، وتتقدم بواجب العزاء من أهل الفقيد، كما لو كنت من أحبائه أو أصدقائه أو معارفه. فالفرح في مخيم اليرموك كان ملكاً للجميع، والحزن على الراحلين في اليرموك كان واجباً على الجميع.
امتدت هذه العادات الاجتماعية إلى أن حلت باليرموك نكبة 17/12/2012، حين اقتحمه المسلحون، ونكلوا بأهله، وطاردوهم حتى هجروهم، وحاولوا أن يفرضوا على القلة التي بقيت فيه تقاليدهم الإرهابية، فتعطلت الأفراح، وحل الحزن المكتوم محلها، وشيئاً فشيئاً دمر المخيم، ونهب المخيم، في خطة كان الهدف منها محو المخيم من الوجود، بكل ما يتلوه ذلك من تداعيات كارثية على الحالة الفلسطينية.
فالمخيم لم يكن مجرد مكان للسكن. بل هو، بالنسبة للفلسطينيين اللاجئين، المكان الذي يجمع بينهم، فيه ينمون هويتهم الوطنية، ويحافظون على لهجاتهم ولكناتهم، وعاداتهم، وأسماء بلداتهم وقراهم، وفيه يمارسون حياتهم السياسية، في علاقة يومية مع الفصائل الفلسطينية ومراكزها الثقافية والاجتماعية. وفيه يلتقون ويتبادلون الذكريات والهموم، وينظمون أنفسهم، حفاظاً على كيانهم السياسي. وفيه تقام مناسباتهم الوطنية، الفرح منها، كانطلاقة الثورة، وأعياد تأسيس الفصائل الفلسطينية وغيرها، والحزين منها، كتأبين شهيد أو استعادة لذكراه السنوية. وفي مخيم اليرموك، في اثنيتن من مقابره، يرقد قادة فلسطينيون كبار، من كل الفصائل، ويرقد شهداء فدائيون أبطال، من كل الفصائل تزار أضرحتهم في المناسبات الوطنية والدينية، تتلى لهم الفاتحة، وتزين أضرحتهم بالأشرطة الملونة، بألوان العلم الفلسطيني، وبأعواد الريحان، وتوزع الحلوى على أرواحهم بينما مكبرات الصوت ترسل تلك الترانيم والتراتيل والأناشيد الدينية احتفاء بالعيد، أو تتلو القرآن وداعاً للراحلين.
ومن مخيم اليرموك خرجت المجموعات الأولى للفدائيين، وفي مقبرته المسماة «قديمة» (المقبرة الأولى التي أقيمت للشهداء) ترقد جثامين أبطال الدوريات الأولى.
اليرموك، مثله م.ت.ف، هو الوطن المعنوي للاجئين الفلسطينيين، إلى حين العودة إلى الوطن الحقيقي فلسطين، الهدف الأسمى، الذي لم يفكر ولا حتى طفل واحد. من أطفال اليرموك بإستحالة تحقيقه، بل، وكلما تقدمت الأيام في الغربة على أرض اليرموك، كلما أحس اللاجئون أن يوم العودة إلى فلسطين بات أقرب.
حاولوا تدمير اليرموك، فدمروا القسم الأكبر منه، وعبثوا بما تبقى منه، حاولوا تدمير الشخصية الوطنية الفلسطينية فهجروا أبناء اليرموك، في الأحياء المختلفة من دمشق، والمدن المجاورة، بل إن بعضهم قضى في البحار في طريق الهجرة إلى بلاد الشمال.
لكن إرادة الحياة وإرادة الصمود، أجهضت كل هذه الخطط، وبتعاون وثيق بين فصائل المقاومة، وجيش التحرير الفلسطيني، والجيش العربي السوري، جرى تحرير مخيم اليرموك، واستعيد من قبضة المسلحين والإرهابيين، والفرق المتأسلمة.
وعاد اليرموك إلى الحضن الوطني في العام 2018، ليشق طريقه نحو استعادة أهله وسكانه، بعد أن أصبح خراباً بخراب.
وطوال ثلاث سنوات من العمل المضني، على أكثر من صعيد، وأكثر من مستوى، وبين جهود للحكومة السورية، والجهات المختصة، وبتوجيه من أعلى سلطة في البلاد، وبين جهود الفصائل، وم.ت.ف، ووكالة الغوث (الأونروا) بدأت أبواب الرجوع إلى المخيم تنفتح وتتسع. وبدأت مسيرة الرجوع تزداد زخماً يوماً بعد يوم.
في 17/12/2021، أي بعد 9 سنوات كاملة من التهجير، خطت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين خطوة جريئة، حين أعادت الفرح إلى شوارع المخيم في احتفال وعرس وطني أقامته بمناسبة عودتها إلى مقراتها في المخيم بعد إعادة تأهيلها وترميمها، شارك فيه قادة العمل الوطني، وممثلو الأحزاب السورية والعربية، والسلك الدبلوماسي المعتمد في سوريا، واللجان والاتحادات الشعبية والمؤسسات الاجتماعية ولفيف من المثقفين والمبدعين وحشد كبير من الأهالي، أعادوا لمخيم اليرموك الفرح حين صدحت الأناشيد الوطنية في شوارعه، وفي مقدمها النشيدان الوطنيان السوري والفلسطيني.
والتقى الأصدقاء والأحباب والرفاق والإخوة في شوارع المخيم يتبادلون التهاني، ثم في قاعات المبنى الممتد على أربعة طوابق، مزود بالطاقة الشمسية، أفردت فيه كل الأدوات الضرورية لعقد اللقاءات والمؤتمرات والمهرجانات والندوات الشعبية.
وقال فهد سليمان، نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية إن مقر الجبهة في اليرموك هو «بيت الجميع»، ولن يكون حكراً على الجبهة الديمقراطية وحدها، فيه يلتقي المواطنون ليبحثوا، ويتناقشوا، ويتفاهموا ويضعوا الخطط اللازمة من أجل استكمال رحلة الرجوع إلى المخيم، بحيث يستعيد سكانه، وأبناءه، كما يستعيد موقعه في الخارطة الوطنية «عاصمة للشتات الفلسطيني».
مبروك لليرموك ولأهل اليرموك، ومبروك للجبهة الديمقراطية وشكراً لكل من أسهم في إعادة الحياة لليرموك، وإعادة اليرموك لأبنائه■
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت