- أسامة نجاتي سدر
اليوم تكتمل فرحة سهيل بن عمرو ويزهو بين أسياد مكة مفتخرا بولده، وقدرته التي فاقت جبابرتهم في إعادة ابنائهم إلى حضن قبيلتهم ودين آبائهم، وها هو عبد الله اليوم يقف كالنسر على المؤن والأقوات في حربهم للقضاء على هذا الدين الجديد، بل يصر أن يركب فرساً تقدح بالأرض ناراً وتنزع رقاب من فارقوا دين آبائهم ونقضوا صلاتهم بأقاربهم وقبيلتهم وهاجروا من ديارهم، ومر فرسه يتمختر أمام الجيش وكأنه فرس عنترة، شد اللجام باتجاه المسلمين ونهره ليطير صوبهم كالنسر ولكن ليحطّ بينهم معلنا أنه مؤمنٌ وموحدٌ بالله ومن السابقين إلى الإسلام.
أمّه فاخته بنت عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ونوفل جدها أخ لهاشم والد جد النبي، وأختاه سهلة زوجة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وأم كلثوم زوجة أبي سبرة بن أبي رهمٍ أسلمتا منذ أول شعاع وصل مكة من نور الله، وهما من كانتا ترعيانه في صغره وبثتا فيه بذور الايمان بالله ورسوله – لم أجد لأمه في كتب السيرة إلا ذكرا- وأدرك عبد الله عمّيه حاطب والسكران ابنيّ عمرو بن عبد شمس وقد أسلما فقد كان عمره عند نزول الوحي خمسة عشر عاما أو عشر سنوات في رواية أخرى وقد هاجرا مع أختيه وأزواجهما في الهجرة الأولى إلى حبشة بعد البعثة بخمس سنوات رغماً عن أنف سهيل بن عمرو وأسياد مكة وتركوا بين ضلوع الفتى وأخيه أبي جندل جذوة من نور بدأت تكبر وتنتشر.
يقف سهيل في سوق عكاظٍ يخطبُ بصوتٍ جَهور يعيب دين محمد ويدعو إلى الثبات على دين الآباء والأجداد، وقد بات ليلته يبحث عما يعزز خطبته ويقنع الناس بما يريده سادة مكة، تتفجر حيرته على قسمات وجهه ولسانه؛ كيف يكذّب محمداً وقد عرفته مكة بالصادق الأمين، كيف يطعن فيه وهو من أشرفهم نسبا، أيكون ساحراً والقرآن أفصح ما عرفته العرب وما كان لأفصح شعرائهم أن يأتوا بمثله، كيف يفرّق بين الأب وابنه والأخ وأخيه وهو يدعو إلى بر الوالدين وصلة الأرحام، كيف يسفّه أحلام قريش وهو يعود بها لأصل دين إبراهيم في التوحيد وينقيها من عبادة الأصنام والأوثان، كيف يهدم المجتمع وهو يقوّم العلاقة بين الغني والفقير والسيد والعبد والرجل والمرأة ... أين أجد ما يصد الناس عنه ويرفع عن أهل مكة فتنته، وفي جواره ابنيه يسمعان ما يحدث به نفسه وتتوق أرواحهم الطاهرة النقية لاتباع الحق ونصرته.
يُعدُّ سهيل بن عمرو عبد الله(أبا سهيل) ليكون أمير بني عامرٍ القادم، ويغرس فيه كل ما اكتسبه من الدنيا كي يهيّئه للمشاركة في دار الندوة كممثل لقومه بعدما فقد بِكرَه يزيد، ويأمل أن يتميز بين شباب مكة حتى يكون قدوة لهم ويطيعوه إذا قادهم نحو رفعة مكة ووحدتها، وأصبح هو أمله بعدما فقد أخويه وابنتيه ولم يبق إلا هو وأخوه أبو جندل، ولكن أنى لشمس الحق أن تغطى بغربال، فمال الفتى للقاء النبي والسماع منه ولم يك منبع الإسلام في دار الأرقم بعيدا، ولابد أنه روى عطشه للهدى حين سمع من النبي وأعلن إسلامه، لكنه أشفق على والده وقبيلته أن تنهار أحلامهم وتتحطم آمالهم مرة واحدة، ولعله طمع أن يكرمه الله فتدخل الأسرة كلها معه الإسلام هو وأبوه وأخوه.
ويمضي الزمان دون أن يرق قلب والده أو يميل للحق طرفة عين، فيلتهب فؤاده وهو في فسطاط الكفر والمسلمون مطمئنون بقرب النبي وينهلون من الوحي ما يشبع قلوبهم وعقولهم رغم كل أذى قريش وعذابها، فهل يعيشُ الرجل بقلبيْن؟ واحدٌ لنفسِه، وآخرٌ لغيره؟ هل نُطيع آباءنا ونعصي أفئدَتنا؟ لا والله بل أجهر بالحق وإن تحمّلت له المغارم، فعمد إلى والده وأخبره بأنه أسلم، فقيَّده وأخفاه عن الناس حتى لم يسمح لأحد بالدخول عليه إلا أخاه أبا جندل، وسخر الله أبو جندل نافذة يشع منها نور الله فأسلم وأصبح ينقل ما يتنزل من القرآن وأخبار النبي وصحبه إليه، وأدمعت عيونهم نهاية آل ياسر رضي الله عنهم وكيف تخلص عمار من أذى الكفار، ولأن الحق يسم صاحبه ويميزه رغم أنفه، علم سهيل بإسلام أبي جندل وربطه مع أخيه بنفس القيد.
ولمّا عطشت أنفسهم لوحي الله وهديِ النبوة ولم يبق لهم سبيل، تبرأ عبد الله من الإسلام وخرج حرا مع والده، تاركا أخاه في حبسه حزينا على من علمه الإسلام كيف ينكص على عقبيه، لكنّ فيضا من نور الله وهدي النبي قد استمر يغشاه في سجنه، وقد منّ الله عليه بمن يهوّن عليه أمره، وجعل للمسلمين المستضعفين عيناً تهوّن عليهم اليد التي تبطش وتخفف عنهما الظلم والجبروت، وبقي عبد الله يعمل مع الله ويتحمل البُعد عن النبي وصحبه إلا سرا، ورأى الصحابة يهاجرون إلى الحبشة وتتوق نفسه للسفر معهم فارّا بدينه، إلا أن له مهمة لا يمكن لغيره أن يؤديها، وقيل بأنه كان من المهاجرين إلى الحبشة، ثم رآهم يهاجرون بدينهم إلى يثرب فرادى وجماعات ولكن مهمته لم تنتهي بعد والأمر لم يصل إليه بالهجرة.
بدأت دولة الإسلام بالظهور واستمرت مهمة عبد الله حتى علم بأن النبي قرر أن يقطع طريق قافلة قريش، وجاء الخبر بأن أبي سفيان غيّر طريقه عن آبار بدر وأفلت من النبي وصحبه، لكنّ قريش مصرة على ملاقاته وقتاله وجمعت له العتاد والرجال، وطلب من والده أن يكون مع الجند في حربهم التي سيقضون فيها على هذا الدين الجديد، ولكن والده الذي شك فيه منذ زمن رفض في البداية لكنه رضي بعد أن أصر ولو كان قيما على العدة والعتاد.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت