هناك زمن موازٍ مستقطع من الحياة، يعيشه أحباؤنا بمعزلهم بين البنيّ والرمادي، وهناك زمن موازٍ مثيل له، نظيره تماماً، مستقطع هو الآخر من الحياة، تعيشه عائلة المعتقل، وتنسج من خلاله قصصاً معه.
لدى (مينا) قصة محبوكة بفانتازايا الوقت، حاكتها مخيّلة ابن الثماني سنوات، لاستدراج الاحتلال، واستعادة والده بينهم من جديد. في رأسه الصغير، يتمنى (مينا) أن تُستبدَل الأدوار للحظات معدودة، يصبح فيها القاضي والده، يُقنعه فيها أن يستكفي بالمدة التي قضاها سامر في الأسر، وعندما ينطق القاضي بالحكم، تعود الأمور لنصابها في لحظات، ليخدع الاحتلال ويظفر بوالده من جديد.
هذه خطة (مينا) في التأرجح بالوقت، وانتزاع حرية أبيه، وقد أوضح لوالده تكتيكه الزمني في زيارته الأخيرة له في سجن نفحة الصحراوي هو وأخته (جولان) والدته (نورة)، حيث يقبع سامر العربيد منذ سنتين دون محاكمة، فيما جدولت أخته الكبرى (ريتا) دورها للزيارة المقبلة.
خمس وأربعون دقيقة، كانت من نصيب الطفلَيْن اللذين التصقا بالسماعة أمام (نورة)، فآثرت تركهما لمشاهدة أحاديثهم سوياً، حنيناً لدفء عائلة تفتقد تفاصيلها وتشتاق لَـمَّ شملها. بدأ الطفلان يكيلان لوالدهما أخبار العائلة، والهدايا التي حصلا عليها مؤخرا، كما شكت جولان (سانتاكلوز) لأبيها، "فحضرته لم يستجب لأمنيتها هي وريتا ومينا" على حد وصفها، ولم تنل قواه غير الخارقة إعجابهم الثلاثة، ولم ترقَ أبدا لمستوى آمالهم التي علّقوها في عيد الميلاد مؤخرا، فـ(سانتا) نكث بوعده، ولم يحقق لهم أمنيتهم الوحيدة على الإطلاق: عودة سامر بينهم على الدوام.
شرعنة الاغتيالات
خضع سامر في أيلول 2019 لتحقيق عسكري وصل حدّ فقدان الحياة، بدأ بالركل والضرب على مختلف أنحاء جسده، وبالأخص رقبته، التي بدا عليها -في أول تمديد أمام القاضي- بقع حمراء، بفعل محاولات خنق متكررة في أول يوم من التعذيب بغية انتزاع اعترافات منه. بعد التمديد القضائي، استمر التحقيق العسكري بربط سامر على مذبح، وشرع محقق- يلبس (بومة) بين أصابعه، وهي قطعة حديد محدبة بأربع فتحات تُــلبَسُ على أصابع اليد، ويُضرَبُ بها المعتقل لإلحاق الأذى به- بضربه على صدره، بينما كانت يداه مثبتتان الى الأعلى، ليتهشّم على إثرها أحد عشر ضلعا لديه. دخل العربيد في غيبوبة مع فشل كلوي، وانتفاخ في جميع أطرافه، ومُنِعَ من زيارة المحامي له، في محاولة لإحكام جهاز الشاباك سيطرتهم على إخفاء آثار جريمة التعذيب التي اقترفها رجال المخابرات في أقل من 48 ساعة فقط من اعتقاله. تلا ذلك محاولة اغتيال ثالثة طالته وهو ممدد على سرير مستشفى هداسا، وموصول بأجهزة التنفس التي تبقيه حيا، حيث فتح حارس الغرفة رشاش الغاز الذي بحوزته على سامر، وهو ما يزال في غيبوبة، مما فاقم من وضعه الصحي سوءا.
تُجَسّدُ حالة سامر العربيد تكامل الأدوار التي لعبتها منظومة القضاء الصهيونية مع المؤسسة الطبّية؛ فبالرغم من فقدان العربيد وعيه، ووجوده بوضع صحي حرج جدا، لم يعق ذلك المحكمة من الاستمرار في تمديد توقيفه ومنعه من لقاء محاميه، ما يثير تساؤلا إنسانيا يجدر تدويله عالميا إزاء دولة تدعي الديمقراطية: فأي خطرعلى مجريات التحقيق قد يلحقه معتقل فاقد للوعي إذا ما تمكّن محاميه من زيارته؟!
توازى تمديد التحقيق، ومنع محامي العربيد من الزيارة بإصدار جهاز المخابرات (الشاباك) والشرطة الاسرائيلية بأمر يقضي بمنع نشر المؤسسات الحقوقية، ومنها الضمير- الموكلة من عائلة العربيد بمتابعة ملف سامر- أية معلومات بخصوصه، وقد تجاوزت فترة المنع ثلاثة أشهر متواصلة.
60% هي نسبة العجز بأذن سامر اليسرى جراء التعذيب
حاولت ماكينة الاحتلال الإعلامية بأوامر قضائية متواطئة التعتيم على قصة سامر، وإخفاء آثار التعذيب الذي طالت جسده، كما ماطل القضاء طويلاً بتسليم الملفات الطبية لمحامي الضمير على مدى شهور طويلة، وما زالت مصلحة السجون تماطل في توفير العلاج اللازم له. "فحتى الآن لم يُعرَض العربيد على طبيب أذن مختص، كما أنها تؤخر معاينته من قبل طبيب أعصاب، أو حتى إجراء صورة أشعة لعاموده الفقري حسب الطلب الذي توجهت به جمعية أطباء لحقوق الانسان منذ شهور طويلة.
قد تكون آثار الكدمات على جسد سامر اختفت الآن، لكن العربيد لا يزال يعاني حتى اللحظة من عواقب التعذيب الصامتة على جسده النحيل. يظهر ذلك جليا على مؤشرات جسمه الحيوية، إذ لم تنمُ نهايات أظافر رجليه منذ تسريفهم النزوفات الداخلية من فرط ما ضُرِبَ وشُبِح، إضافة لوجع دائم يلازمه في رجليه وظهره ورقبته. أما طنين أذنه اليسرى، فهو لا ينضب أبدا، إذ يسمع فيها زهاء 40% فقط! فيما وثّق أشباه الأطباء الذين عاينوا حالة سامر احتياجه الى سمّاعة، محاولين إظهار إنسانية الاحتلال بمهنية عالية، الا أنهم فبركوا كذبة من العيار الثقيل، تفيد برفض سامر لها.
تتواطؤ مصلحة السجون مع الأطباء، الذين يعاينون الأسرى المرضى، فيزوّرون افتراءً ملفاتهم الطبية بكتابة ما يرضي مصلحة السجون، متجاوزين قسم أبقراط الذي تلوه قبل مزاولتهم المهنة.
تكامل أدوار مؤسسات دولة الاحتلال للتغطية على جرائمه
تؤكد حالة سامر تكامل أدوار مؤسسات دولة الاحتلال، حيث لعب القضاء والمنظومة الطبية أدواراً قذرة في التغطية على ما يمرّ به المعتقل. فبحسب مؤسسة الضمير، وبعد أن تمكنت أخيراً من الحصول والاطلاع على ملفات سامر الطبية، تبيّن "أن ما تم توثيقه في التقارير الطبية لم يكن توثيقاً مهنياً يعتمد على معايير توثيق التعذيب التي وضعها بروتوكول اسطنبول، حيث افتقرت التقارير الطبية الى الوصف الدقيق للعلامات الموجودة على جسد المعتقل، وحجمها ولونها ومكان وجودها، واكتفت فقط بالإشارة الى وجود كدمات على جسده، وتشير الى كسور في الصدر، وحالة الكلى والقلب والرئتين. ولا تضع هذه التقارير أي معلومات حول سبب هذه الإصابات."
تصرح مؤسسة الضمير في دراسة لها حول تعذيب الأسرى في مراكز التحقيق، بعنوان (زنزانة 26)، "أن هذه الممارسات تعتبر مخالفة صريحة للواجب المهني والأخلاقي للأطباء، حيث نصّت مبادئ آداب مهنة الطب المتصلة بدور الموظفين الصحيين، ولا سيما الأطباء في حماية المسجونين من التعذيب، وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية واللاإنسانية أو المهينة". وعليه، "فإن تغاضي الأطباء عن توثيق أي من الكدمات الموجودة على جسد المعتقل بشكل دقيق وتفصيلي ما هو الا شكل من أشكال الاسهامات السلبية في جريمة التعذيب... من شأن ذلك أن يسهم في التغطية على جرائم الاحتلال، وعدم تمكّن المؤسسات الحقوقية من الإثبات القاطع لجرائم التعذيب التي يتم إرتكابها."
الخارقون هم الأحرار
تقول (نورة): بعدما شهدنا قضية تعذيب زوجي، وحرمانه من وداع أمه التي لم يتحمّل قلبها دويّ شبح سامر في المسكوبية، فوهُنَ حتى توقف عن النبض، وأثر غياب الزوج والأب عن البيت وتبدّل حالنا؛ أستطيع الجزم أن مؤسسات حقوق الإنسان بـِدعة كونية، تقتات على وجع البشرية فقط." وأكملت نورة: "حقوق الإنسان شعارات تتباهى بها المؤسسات بدون أفعال"، لم يأبه العالم كله عندما مزق سفير الكيان الاسرائيلي لدى الأمم المتحدة جلعاد أردان تقرير مجلس حقوق الإنسان، وصرّح أن مكان هكذا تقرير هو سلة المهملات، مهيناً جميع المشاركين في محفل دولي حقوقي، ولم يحرك أحد ساكنا لمحاسبته."
"فليست قوى (سانتا كلوز) وحدها غير خارقة، وإنما قوى الساكتين على تنكيل دولة احتلال بشعب أعزل. وحدهم الخارقين من يواجهون المحتل داخل المعتقلات، وضمائر الشعوب الحُرّة التي تقف مع إنسانيتها قبل كل شيء."