تجربتي متطوعاً في خدمة الأسرى المرضى‏

بقلم: الأسير محمد رفيق أبو عليا

الأسير محمد رفيق أبو عليا
  • بقلم الأسير محمد رفيق أبو عليا
  • سجن النقب الصحراوي

يعاني الأسرى المرضى من كافة صنوف المرض والألم، وما يثير المشاعر الإنسانية أن هؤلاء ‏الأسرى يواجهون قسوة حرمان السجن ومعاناة وألام المرض .‏

في عيادة سجن الرملة تتجلى ثنائية قسوة السجن وألم المرض.، وبحكم تجربتي في عالم الأسر في عيادة سجن الرملة ، دفعني قلمي المشحون بالتضامن والإحساس ‏العميق لمعاناة الأسرى المرضى أن اكتب عنهم وعن معاناتهم لينطق قلمي سارداً تجربتي التي طالت ‏مع قصرها وانتهت مع بقائها آلام في قلبي ووجداني وذاكرتي ، أسردها واحكيها وأخبرها لمن ‏ينبض له قلب لمن يستشعر معاناة أولئك المعذبين في حرقة ذلك الواقع المرير ، وتُستحضر أرواح ‏أولئك الشهداء الذين ارتقوا في ذلك السرداب الأبدي راسمين بدمائهم معالم الطريق نحو الحرية و ‏الاستقلال.‏

‏ كان قد مضى على اعتقالي عام 2016 قرابة العام ونصف حينما جاءني ممثل معتقل عوفر إلى باب ‏الزنزانة رقم 1 في قسم 11 وقال لي : أن الأسرى المرضى في عيادة سجن الرملة أرسلوا رسالة مفادها ‏‏: أنهم يحتاجون إلى متطوع لخدمتهم ومساعدتهم وتلبية احتياجاتهم الصحية والمعيشية الحياتية ، ‏وذلك بسبب ازدياد أعداد المصابين برصاص الاحتلال ومستوطنيه في إحداث هبة السكاكين، وغالبية ‏هؤلاء أوضاعهم صعبة ولم نجد من هو قادر على تحمل المشاق والصعوبات بالذهاب والتطوع ، فما ‏رأيك ؟

فقلت له ودون تفكير موافق أنا جاهز لأذهب منذ لحظتي . تمكن ممثل المعتقل وبعد ضغط على إدارة ‏السجن من انتزاع قرار نقلي لعيادة سجن الرملة، وضبتُ أغراضي وبعد نصف ساعة كانت سيارة ‏البوسطة التي تحمل عشرات الأسرى المنقولين بين السجون جاهزة للانطلاق ، فوصلنا لسجن الرملة ‏وهو سجن للأسرى الجنائيين يصل عددهم لبضعة آلاف، وعيادة السجن المعروفة باسم (عيادة الرملة) ‏هي المكان الوحيد الذي يُحتجز فيه أسرى أمنيين.‏

فأجابني:ا أنزلني السجان مكبل اليدين والرجلين حاملاً حقيبتي وقادني إلى تلك العيادة ، وكان يتبادر ‏إلى ذهني كأي أسير لم يرى هذه العيادة معتقداً أنها كأي مركز طبي به أدوات متقدمة وكامل ‏التجهيزات الطبية وان أطباءها مختصين وإنسانيين ، ولكن أصابتني الصدمة وتفاجئت عندما وصلت ‏إلى مدخلها حيث وعلى ما يبدو أنه سجان يرتدي قميصا أبيض فوق قميصه الكحلي، فسألته: ما هي ‏وظيفتك؟! فأجابني : بطريقة فظة ، ألم تر قميصي؟ فسألته: أي قميص! فقال لي: إنه طبيب يعالج ‏المرضى، فأدركت فورا ماذا يعني أن يعالجك الجلاد، أسجان هوَ أم طبيب؟ يا لقساوة اللحظة، وسواد ‏ذلك الطبيب المزيف !.‏

‏ صعدنا إلى الطابق الثالث وفوجئت أن عيادة سجن الرملة لا تشكل إلا جزءا صغيرا من هذا الطابق، ‏فهي جناح لا تتعدى مساحته 90 مترا، بداخله أربع غرف ،بأبواب فولاذية ، وأسلاك شائكة ، وأقفال ‏يصدح رنين مفاتيحها، وكاميرات تنتشر في كل الأرجاء .‏

لحظة وصولي إلى داخل القسم، استقبلني الأسيران المتطوعان لخدمة الأسرى المرضى راتب حريبات ‏من دورا الخليل، وإياد الطبنجة من طولكرم والمحكوم كل منهما 24عاماً، إياد الذي ما زال حتى كتابة ‏هذا المقال يخدم إخواننا المرضى ويتحمل من المشاق ما لا يمكن أن يتحمله إنسان، فهو متطوع لخدمة ‏إخوانه الأسرى منذ أكثر من عشر سنوات، يرونه كأنه الأب والأخ والزميل والصديق.‏

آثر راحة المرضى وخدمتهم على راحته، فما كلّ ولا ملّ فسلمت يمناه .أما الأسير راتب حريبات ‏المعتقل منذ 20 عاما قد تطوع لخدمة الأسرى المرضى ، وكان له دور بارز في إيصال رسالة الألم و ‏المعاناة وخاصة في إضراب الكرامة عام 2017، فقامت إدارة السجون بنقله من العيادة على خلفية ‏مشاركته في الإضراب وحمل رسالة الأسرى المرضى ومطالبهم.‏

رافقني الأسير راتب حريبات ليعرفني على المرضى والمصابين الذين سأعيش معهم لحظات الألم ‏بليلها ونهارها شهوراً عديدة ، فرأيت أغلبهم ساكنين دون حراك ، فسألته: لماذا لا يتحركون بينما ‏أعينهم مفتوحة !؟ لماذا أجسادهم هزيلة وابتسامتهم جلية ؟ صمت هنيهة ، ونظر إلي راتب بحرقة ، و ‏هز رأسه وعيناه تغمضان ألماً ، التفت إليهم فإذا بعيونهم المفتوحة فرحا مع الحزن والصمود وصبرا ‏يسحق المستحيل.‏

شيوخ أطفال وشباب ، أعمارهم مختلفة وهدفهم واحد جمعهم المبدأ والعزة والكرامة ، سقطوا جرحى ‏برصاص غادر، لكن رايتهم لم تسقط ، فأخبرني أن السجانين يقومون بإعطائهم حبوبا مخدرة نهاراً ‏لكي لا يتكلف ما يسمى الطبيب بمتابعة احتياجاتهم العلاجية فلا يشعرون بالآلام حتى يسدل الليل ستاره ‏فتتجدد أوجاعهم وآلامهم، ولا طبيب مناوب ليلا فما يسمى طبيب السجن نائم في بيته.‏

رحت اذرُعُ أمتار غرف العيادة لأتعرف عن قرب على كل أسير مريض ، فوجدت الشهيد بسام السايح ‏من نابلس والذي ارتقى قبل عامين بسبب الإهمال الطبي ، حيث كان يعاني من مرض السرطان، ‏وبرفقته شقيقه أمجد السايح الذي قدِم خصيصاً من سجن جلبوع والمحكوم 20 عاما ،و بعد جهد جهيد ‏وضغوط رضخت خلالها إدارة السجن لنقله عند أخيه ليؤازره ويلبي احتياجاته اليومية، مع العلم أن ‏الأسير الشهيد بسام لم يكن محكوما، ولا يزال جثمانه إلى يومنا هذا محتجزا في ثلاجات الموتى ، كنت ‏أرى أمجد متألما حزينا على أخيه بسام الذي يراه يذبل بسبب المرض و الإهمال المتعمد الذي سيصل ‏به نحو مصير محتوم، كنت أراهم يمرحان يتمازحان وكأنهما على قمة جبل عيبال بنابلس في النسائم ‏العليلة لينسيا الألم ولو مؤقتا.‏

رأيت الشهيد سامي أبو دياك من جنين والمحكوم عليه بالمؤبد عدة مرات والمصاب بمرض السرطان ‏وبرفقته شقيقه سامر أبو دياك ، الذي عانَى ما عاناه أمجد السايح حتى وصل أخوه قادم من سجن نفحة ، ‏إخوة هم في طفولتهم ورجال وهامات في شبابهم ، رفقاء الدم والكفاح ، يُذكر أن الأسير الشهيد سامي ‏أبو دياك وبعد استشهاده تم تسليمه للأردن بعد تدخل من حكومة الأردن حيث رفض الاحتلال أن يُدفن ‏في فلسطين، ليدفن بعيداً عن أهله ووطنه الذي مات مدافعا عنه ، أسر في الحياة وإبعاد في الممات .‏

رأيت أيضا خالد الشاويش على سريره يلملم ألمه ويقضم وجعه الذي زاد عن عشرين عاما بشظايا تأكل ‏جسده، حيث كان برفقته ابنه قتيبة الذي كان حديث الاعتقال، رأيت معتصم رداد و ممدوح عمرو وجلال الشراونة و حسن القاضي و الكثير من المعذبين .‏

ولكن الذي لفت نظري هو الأسير الجريح عميد الأسرى المرضى منصور موقدة من سلفيت، والذي ‏يعاني من شلل كامل، نائم على سريره دون حراك منذ اثنين وعشرين عاما، محكوم بالمؤبد ، و بالرغم ‏من أن مرضه يُقعده على كرسي متحرك إلا أنه مجد يعتلي وأمل لا ينجلي .‏

إن الأسرى المرضى هم مثال الألم و الأمل لرجال قدموا الغالي و النفيس من دمائهم و أجسادهم ومعاناة ‏أهلهم ، ليعيش شعبهم وتحيى أرضهم بعزة وكرامة ،أشهُر قضيتها في خدمة الأسرى المرضى لا يمكن ‏شرحها و سردها في مقالة، أو ورقة ، إنها فترة زمنية مليئة بالآلام و الأوجاع التي لا يمكن أن تنتهي إلا ‏بانتهاء معاناة هؤلاء الغائبين الحاضرين في ضمائرنا بتحريرهم و إنهاء مأساتهم ، فهل من مجيب؟ ‏

‏ هنا في زخم المعاناة حيث لا مجتمع دولي ولا قرارات أمُمية ولا مؤسسات حقوقية وإنسانية تساءل ‏الاحتلال عن ممارساته العدوانية بحق الأسرى المرضى، وتستحضرني مقولة ابن المقفع من أمن ‏العقوبة أساء الأدب .‏

‏ أقول إن أخوًّتنا محققة وأن هذه الأخوّة أخوّة وطن وهدف سامي نبيل هو نيل الحرية و الاستقلال ، فما ‏جمع هؤلاء المرضى هنا هو تناصرهم لإحقاق الحق و رد المعتدي و صون الكرامة ، هنا حيث الصف ‏الواحد و الألم هو الأمل الواحد لا الصف المنقسم و الكفاح الفردي ، هنا طاقات جبارة صنعت بصمودها ‏المعجزات ، فيا فصائلنا ويا قياداتنا ويا من نسي أو تناسى لا تنسى لكي لا تكون كما قال الشاعر :‏

من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميّت إيلام

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت