- د. وفاء درويش
تشكل رواية زرعين للكاتب صافي صافي رواية الأرض بامتياز، فمن خلال رحلة أسبوعية، تبدو عادية، يوثق صافي صافي لمعاني الوطن السليب بالترميز له بقرية زرعين الواقعة في منطقة بيسان. يتعرف القارئ من خلال الرحلة إلى زرعين، إلى قصة أرض ووطن وشعب ممثل بالمجموعة التي تقوم بالرحلة. يبدأ الكاتب روايته من حيث تنتهي الرحلة، وبموضوع يرزح في ضمير كل فلسطيني، وهو ما أعتقد أنه مأزق أوسلو، وبذكر حنان حبيبة الراوي التي تشكل قصتها مع الراوي إطارا يغلف الرواية.
يقود الرحلة العم أبو إبراهيم الرجل الجاد المحب والذي يتحلى بالحكمة والقدرة على تحمل المسؤولية ومجموعة من الرجال المتقدمين في العمر، منهم أربعة أشخاص، من ضمنهم الراوي، يقعون في مأزق الصعود إلى تلة لا يستطيعون النزول عنها دون تعرضهم لخطر حقيقي يهدد حياتهم. من بين الأربعة، بالإضافة إلى الراوي الذي يتميز بسلبيته حياديته تجاه أخذ المواقف رغم موقعه كراوي بدون منازع، يقول الراوي في بداية الرواية وبعد نجاتهم من المأزق: "لكني غطيت رأسي بقبعة السترة التي ألبسها، وخلعت نظارتي، وكسوت وجهي بمزيد من التجهم، وأكملت سيري، كما أني لا أرى أحدا، وأعرف أنهم يروني جيّدا. أهملت وجودهم، علهم يهملون وجودي. هذا السلوك اعتدته، حينما لا يعجبني أمر ما، أهمله، أتعامى عنه، وها أنا أجد نفسي بهذا النهج. البديل أن أواجهه، ونحن لسنا مستعدين للمواجهة، ربما المواجهة السلبية".
أبو نهاد العمواسي، وهو شخصية ممتعة، يبول دون خجل أمام المجموعة، يدخن ويرقص، وهو بالكاد يستطيع المشي دون مساعدة، وكان هو من تسبب بوقوع المجموعة الصغيرة بالمأزق. يظهر أبو نهاد بقمة تجلياته حين يزور الفريق قرية عمواس التي حولها الاحتلال إلى حديقة عامة، فيبدع بالرقص ومحاولة تسلق الشجر لتذوق خروب أرضه وأرض أجداده.
كما أن في الفريق نفسه أبو ماهر اللاجئ، الذي حطت به الأقدار في الغربة، وقد عاد لزيارة البلاد وانضم للمجموعة بهدف محدد، فقد نجح بإدخال رماد والده الذي توفي في المهجر إلى الوطن، وقام بدفنه في قبر أبيه في زرعين. استوقفني هذا الحدث في الرواية لما يبرز من جرأة الكاتب على تناول موضوع حساس كحرق الجثة بعد الوفاة، حيث يقوم الفريق جميعه بتقبل الأمر وحتى الصلاة على الرماد. يدور نقاش طويل حول موقف الدين من الحرق، ويأتي المبرر طبعا بتحقيق وصية المتوفى بأن يدفن عند أبيه وفي مسقط رأسه. وبالنهاية يأتي دور جمال الموظف في المعارف الإسرائيلية، الذي يواظب على كل الرحلات رغم مرضه وينصب نفسه ناطقا باسم المجموعة. جمال هذا يبدو أنه عراب أوسلو فهو يقرر ويحتم رأيه على الاتصال بالشرطه الإسرائيلية طالبا النجدة لاخراجهم من المازق. ذلك رغم اعتراض الآخرين، ورغم تمكنهم بالنهاية من النجاة بمساعدة الحاج إبراهيم، دون تلقي أي عون من قبل الشرطة باستثناء استفزاز المجموعة بالاسئلة والتحقيق. حتى أن الراوي رفض استخدام سيارتهم للوصول إلى الحافلة رغم أنه كان قد تعرض لإيذاء رجله حين تزحلق أثناء المسار، وبسبب ألم قدمه وتأخر الوقت لم يستطيع الراوي التقاط صورة بيت جد حبيبته حنان ولا حتى رؤيته.
تقدم الرواية غزلا شرها للأرض وطبيعتها الخلابة فلا يترك صافي صافي أي فرصة تلوح دون استخدامها للتغزل بجمال الوطن الذي لم يعد يستطيع العودة إليه إلا زائرا أقرب ما يكون إلى السائح منه إلى صاحب الحق بالأرض وما عليها، يفعل ذلك من خلال كل شخوص الرواية وخاصة الحاج إبراهيم "الحاج إبراهيم، لا يكل ولا يمل وهو يتغزل بالطبيعة، فرغم أنه زار العديد من البلدان، آسيوية وأوروبية، ورغم جمال طبيعتها وتنوعها، كان يستعجل الرجوع، والتجول في ربوع الوطن. هو نفسه الذي يكرر الجمل عينها، وتعكس ما في داخله من جمال: "ما أجملك يا بلادي"، "ما أحلى هذه الطبيعة"، "ما أجمل ما أهدانا الله في هذا الكون"، وهو نفسه الذي ينادي أعضاء الفريق بالأبطال. تجده في آخر الصفوف أحيانا وفي مقدمتها أحيانا. إنه يتابع الفريق، له نظرة غير التي نمتلكها، نحن نستمتع بالطبيعة، وبالمشي، وهو يتابع الطبيعة والفريق". بالإضافة الى التركيز على جمال الطبيعة، فهو، أي الكاتب، يظهر علما ومعرفة دقيقة بالطبيعة فيصف الصخور والنباتات والطيور، كل باسمائها وتكوينها العلمي والشعبي. كما أنه يكرس الوعي الجمعي للذاكرة الفلسطينية فيما يتعلق بالحياة اليومية لقرى فلسطين بما في ذلك من تفاصيل تاريخية وتراثية وثقافية، ويعبر عنها بأسلوب تيار الوعي الذي يهيمن على جزء كبير من النص. ففي إحدى شطحاته يتخيل القرية كما كانت قبل تهجير أهلها، فوصفها ببيوتها وأزقتها وأناسها وأعراسها ومواسمها، كأنه يراها أمامه "أسمع صوت يسرى البرمكية وهي تغني، وتدق على الدف في الأعراس والموالد. أرى تواصل أهالي القرية مع قرى الأردن، في التبادل الزراعي والتجاري. إني أرى القرية بكامل حيويتها وطاقتها، وأراني جزءا منها. أرى العائدين من الحقول، من كل اتجاه، فرحين مبتهجين، أسمع ثغاء الماعز، وخوار الأبقار، وأرى أبناءها يلتصقون بها، علها تنال وجبتها، وأسمع نهيق الحمير تحمل بعضا من الغلة، ورجالا مثل الشباب يعتلون الخيل، ورائحة الطعام تنتشر بين أزقة القرية، من طوابينها، وقدورها، في انتظار من يأكلها. أرى الحياة، كما لم يكن قبلها، ولن يكون بعدها."
بالاضافة إلى تيار الوعي وتلاعب الكاتب بالوقت الزمني والسردي للرواية، فانها مكتنزة بالدلالات والرموز، فطير البلبل الهندي مثلا يرمز للاستيطان، حيث يداهم المنطقة، ويهجر طيورها الأصلية، ليحتل مكانها. والعصي التي اتكأ عليها بعض أعضاء الفريق وخذلانها لهم بانكسارها يمثل اعتماد الشعب الفلسطيني على أنظمة لطالما خذلته. أما الرمز الأساسي فيتمثل في صورة عائلة حنان، المعلقة على حائط منزل جدها في بيسان، الذي كان تصوير الصورة أو ظل مكانها على الحائط، السبب الرئيسي لانضمام الراوي لتلك الرحلة تحديدا، ليكون قد نال رضى حنان، وحقق حلمها بإثبات وجودها وعائلتها في ذلك البيت وانتمائها له وللأرض. ورغم عدم تمكن الراوي من تصوير ظل الصورة، إلا أنها ستعيش في ذاكرة حنان و أبناءها إلى الأبد.
يؤكد الكاتب أن كل قرية في فلسطين للفلسطينيين أينما عاشوا، ويتضح هذا التأكيد في مواقع عدة في النص، تتمثل باندماج الطبيعي والتلقائي لأفراد المجموعة لطبيعة المكان وذكرياتهم وتصرفاتهم المنسجمة تماما مع تلك الطبيعة، كما يتضح في الحوار التالي الذي دار بين أبو نهاد والمحقق الإسرائيلي:
- هل تعترف بأن عمواس بلدتي؟
- كانت بلدتك.
- من أي دولة أنت؟
- أنا من هنا.
- من أي دولة أبوك؟
- بلاد كثيرة.
- هذه بلدتي. افتح الخارطة، وشوف اسمها.
- إذا كررت ذلك سنعتقلك، ونحاكمك.
بالإضافة الى القضية الأساسية والمتعلقة بالتمسك بالأرض والوطن كاملا، والمكان بمعناه الوجودي تتعرض الرواية إلى العديد من القضايا من خلال حوارات شخوصها، فمن النقاشات الدينية وطرح الأسئلة الوجودية الى التلميحات الجنسية اللتي أصبحت تؤرق فريق الرحلة المتقدم في العمر.
أما حنان التي يبدا بها النص وينتهي بها، فهي الحاضر الغائب لكونها امرأة تقليدية لا تحاول حتى التفكير بكسر النمط التقليدي للعلاقات وخاصة علاقتها بالراوي الذي لا يحاول بدوره وبسبب سلبيته، الحرب من أجل حبه، فتنتهي الرواية دون أن يستطيع حتى تصوير بيت جدها، أو حتى ظل صورة العائلة التي لم تعد على الأغلب موجودة، فيؤجل مشروع التصوير إلى مناسبة أخرى وهي نهاية تنسجم مع كل مشاريعنا المؤجلة
.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت