- سري سمور
كنت قد استعرضت في العام الماضي أحد كتب الشيخ محمد عوامة حفظه الله ونفعنا بعلمه، وهو من علماء حلب الشهباء، وكان الكتاب "أثر الحديث في اختلاف الفقهاء".
وأستعرض هنا من جديد كتابا آخر من كتب فضيلة الشيخ محمد عوامة، ألا وهو:
أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين
وقد يسر الله لي قراءة الطبعة الثالثة منه (1428هـ-2007م) الصادرة عن دار اليسر للنشر في المدينة المنورة، وقامت بطباعته وإخراجه دار قرطبة للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت في لبنان، والكتاب يقع في 250 صفحة من القطع المتوسط.
ولأن المرء يرى ويسمع ما يخلّ بأدب الاختلاف بين أهل العلم وطلبته ومريدي الشيوخ والعلماء، من مختلف المدارس، حيث استسهل بعضهم التبديع والتشنيع على الآخر، كأنه ليس من أهل الملة، ومهما كان من خلاف فإنه لا يمسّ الأصول، ولو فرضنا أن ثمة فهما مختلفا للأصول، فإن أساس الاختلاف هو الحوار بالتي هي أحسن حتى مع من ليسوا من أهل القبلة، فكيف بين المسلمين أنفسهم؟
ولقد سهّلت مواقع التواصل الاجتماعي على نفر من الناس استسهال المسّ والإخلال بأدب الاختلاف في مسائل العلم والدين.
رأيت أن أكتب تلخيصا لمن يهتم أو من لا جَلَد لديه لقراءة الكتاب المذكور:
قسّم المؤلف كتابه إلى 4 جوانب هي:
- تعريف الاختلاف والفرق بينه وبين الخلاف ومجالاته حكمه وشروطه.
- تعريف الأدب ومعناه وأهميته وأدب الاختلاف وبعض نماذجه من واقع الأئمة.
- جواب شبهات على ما ورد في الجانبين السابقين.
- سبل النجاة والخلاص من الواقع المؤلم.
وتعريف الاختلاف: أن يأخذ كل واحد طريقا (قولا أو فعلا) غير طريق الآخر من غير تنازع ولا شقاق، أو بتعبير معاصر: اختلاف الوسائل ووحدة الغايات.
وهو غير الخلاف الذي هو أعمّ من الضدية، حيث الوسائل والغايات كلاهما مختلفة، والاختلاف من آثار الرحمة ويستند إلى دليل، أما الخلاف فمن آثار البدعة ولا يستند إلى دليل وهو ما يقع في ما لا محل للاجتهاد فيه، فالاختلاف محمود والخلاف شرّ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، ولذا يقول أهل العلم "هذا اختلاف لا خلاف"، ومجالات بحث الكاتب هنا في اختلاف الأديان والفرق والفروع الفقهية.
ولقد بيّن الكاتب ببعض الأمثلة أن الصحابة اختلفوا في بعض المسائل الفقهية مثل: هل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- الله تعالى ليلة الإسراء والمعراج؟
ولم يكن هناك سعي لحمل الأمة على رأي واحد، فهذا مناف للفطرة والسعة وطبيعة أفهام الناس، وقد رفض الإمام مالك جعل "الموطأ" كتاب الأمة.
وللاختلاف المشروع شرطان اثنان هما: موضع الاجتهاد أي كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، وأهلية المخالف وتأهله علما وتأهله ديانة وصلاحا، فلا يؤخذ العلم إلا من أهل التقوى وحسن العبادة.
والأدب له تعريفات عدة منها أن كلمة الأدب تجمع كل خصال الخير، والسلف يسمونه الهدي، أي السيرة العامة والخاصة، وقد حرصوا على الأدب مع العلم لأن العلم بلا أدب كالنار بلا حطب، والأدب بلا علم كالروح بلا جسد، وضرب الكاتب أمثلة عدة في أدب العلماء مع بعضهم في ما اختلفوا فيه، مثل طلب الأوزاعي من ابن المبارك أن يستكثر من أبي حنيفة بعدما تبيّن له الحق (كان الأوزاعي قد حذر من أبي حنيفة باعتباره مبتدعا!).
وكذلك كتاب مالك إلى الليث بن سعد ورد الليث عليه، ومن المعاصرين ما كان من خلاف الشيخين مصطفى صبري ومحمد الكوثري في الجبر والاختيار ومع ذلك كانا يتزاوران، والإنصاف من أدب الاختلاف ودون محاباة لقرابة أو صلة مال أو رغبة أو رهبة؛ ومن أمثلة ذلك أن عفان بن مسلم منع عنه العطاء وقت فتنة القرآن وكان معيلا لعدد كبير من الأفراد فما تزحزح عن الحق.
قلت: انظر الآن كيف بمن درس العلم الشرعي وترقى في سلّم وظائفه كيف يحابي الطغاة لعرض زائل، وهو لو تخلى عن منصب أو وظيفة لن يكون في ضيق عيش، بل لربما لن يخسر سوى بعض الحوافز والبدلات!
وردّ الكاتب على شبهات عدة منها أن الاختلاف رحمة وتوسعة، بخاصة ما ذهب إليه ابن حزم من أن عكس الرحمة السخط، وعليه تضعيف الحديث "اختلاف أمتي رحمة"، والمقصود هنا الاختلاف في الفروع لا في أصول الدين والعقائد، وناقش مقولة "مذهبنا صواب ويحتمل الخطأ ومذهب غيرنا خطأ ويحتمل الصواب" وأنها لسان حال الإمام المجتهد كما قال الطحاوي.
كما لا يجوز للعامة الخوض في ما ورد عن بعضهم من كلمات نابية تجاه بعض نظرا للشك في الروايات، ولأن الحالات مخصوصة إذا صحت (مثل قصة ابن ذئب ومالك والخليفة أبي جعفر المنصور)، فنقع في قلة أدب مع جهل مركب.
ويتحسر الشيخ محمد عوامة على واقعنا الذي انتشرت فيه الردود حتى ممن هو ليس أهلا لكتابة كلمة في دين الله، والخلاص من هذا الواقع يكون بالعودة إلى سير السلف في العلم والتعليم والعمل. وشدد على أهمية تلقي العلم عن شيخ، أو ما يعرف بالمزاحمة بالركب، لأن المتلقي عن شيخ يتأدب بأدبه، ويقل عنده اللغط والخطأ، فالمطلوب طول الصحبة وطول الطلب، وكثرة المراجعة وتتبع عبارات العلماء، ومن لم يصحب العلماء زمنا طويلا ويتأدّب بأدبهم لا تُتصوّر منه معرفة قيمة العلماء، ومن ثم يطول لسانه وقلمه عليهم، ولا يعرف أدب الاختلاف المحمود.
وأما التعليم فنهج السلف تربية الطلبة على صغار المسائل قبل كبارها والتدرج معهم، ومن هنا جاء وصف العالم الرباني، ودأب السلف على كتابة المتون وتدريسها للمتعلمين حتى إذا أتقنوها انتقلوا إلى ما بعدها، والمتون تعنى بأمهات المسائل، وتبتعد عن التفريعات، وانتقد الشيخ عوامة حال هذه الأيام حيث يبدأ المتعلم بكتب مثل سبل السلام ثم نيل الأوطار ثم المحلّى، فلا يكون هناك أدب اختلاف، بل جرأة على العلماء، وتحريض على الخروج عن المذاهب الأربعة بل الأربعين! "نظرا لما في المحلّى من تطاول على الأئمة".
كما عرّج على محمد عبده وجرأته على أئمة الأمة وعلمائها هو وأبناء مدرسته. ويوصي الشيخ عوامة بضرورة اتباع نهج السلف في الاختلاف، وعدم الانجرار وراء السفه، وأن يتحرّى المختلفون في ردودهم إحقاق الحق وتبيينه، من دون تشهير بالأشخاص أو المدارس، حيث هذا السائد مما يظهر انعدام الإخلاص.
هذا باختصار ما تيسر لي في تلخيص أو استعراض أبرز ما في كتاب فضيلة الشيخ من نفائس وفوائد، ولو كنت ناصحا لنصحت بقراءته وعدم الاكتفاء بالتلخيص، ولكن لا بأس أن آتي من صفحاته بقبس كما حاولت وتبدّى لي في السطور السابقة.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا.
سري سمور(أبو نصر الدين الحنفي) :الجزيرة نت
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت