- بقلم: فراس ياغي
يعاني الكثير من الكتاب والمحللين من عقدة "الإتحاد السوفيتي" السابق وحين يتحدثون عن "روسيا" الجديدة فهم يقارنوها إلى حد ما بما كان عليه "الاتحاد السوفيتي" وحصاره إقتصاديا من الغرب حتى لحظة سقوطه، وهم يتجاهلون أن عقود ثلاثة ونيف غيرت الكثير على مستوى العالم و "روسيا" بالذات.
لا وجود لمعسكرين كالسابق والكل جزء من السوق الحر، وهناك تنافس كبير في داخل هذا السوق مع خوف أمريكي واضح من التراجع للمرتبة الثانية إقتصاديا بسبب التقدم الهائل الذي يحدثه العملاق الصيني في كافة المجالات الإقتصادية، لذلك حين النظر لما يحدث الآن من عقوبات إقتصادية وصلت لحدها الأعلى ضد "روسيا" لن تؤسس لعزلة كما كان زمن "السوفييت"، رغم كل المحاولات الأمريكية لفرض مفهوم الحرب الباردة من جديد في محاولة لإستنساخ مفهومي المعسكر الشرقي والغربي في معركتها المصيرية ضد "الصين" بالأساس، وهي، أقصد "الولايات المتحدة الأمريكية" تبني آمال على أن تقوم "الصين" بالإنحياز الكلي والتام لصالح "روسيا" لكي يسهل عليها مواجهتها، ومن جهة أخرى إبعاد "أوروبا" وبالذات "ألمانيا" و "فرنسا" عن روسيا ومنع تشكل تعاون وتكامل بينهما ولكن بدرجة أقل من تحالف.
خطة "الولايات المتحدة" ورأس حربتها الحزب الديمقراطي الأمريكي الذي أصابه الهوس الصيني في مقتل لن تحقق أهدافها وذلك للأسباب التالية:
أولا- الطاقة والغاز لا يمكن الإقتراب منها ولا تزال خطوط وأنابيب الغاز الروسي تسيل إلى أوروبا والنفط لا يزال يُصدّر، وهذا سيبقى على المدى القريب والمتوسط .
ثانيا- الصين التي هي مصنع العالم ككل، لها علاقات إقتصادية تفضيلية مع روسيا تبلغ مئات المليارات وهي ليست جزء من العقوبات المفروضة ولن تكون.
ثالثا- دول النفط والغاز وعلى رأسها فنزويلا وإيران تستمر في علاقاتها وليست جزء من العقوبات.
رابعا- هناك منظمة شنغهاي ودول البريكس واوبك+ باقية وواضح أنها ستستمر في التوسع.
خامسا- على المدى المتوسط والبعيد العقوبات الإقتصادية الأمريكية والغربية على روسيا لن تكون بذي فائدة كبيرة وستنعكس سلبا على دول الإتحاد الأوروبي أكثر من أي دولة أخرى بل أكثر من روسيا.
سادسا- روسيا والصين حضروا انفسهم للعقوبات خاصة مسألة إخراجهم من نظام السويفت (Swift)، وأنشأوا أنظمة دفع خاصة، في روسيا تعرف بنظام دفع خاص يعرف بنظام نقل الرسائل المالية "SPFS" كبديل وإحتياط لنظام السويفت تشارك فيه "23" دولة من الدول الحليفة لروسيا كالصين والبرازيل والهند، هذا بالاضافة الى أن الصين لديها نظام مالي ايضا يسمى سيبس "cips" وهو نظام الدفع عبر الحدود بين البنوك مثل نظام السويفت المالي، ( أشرف غراب، خط أحمر، 3 مارس 2022)، إضافة إلى أن الكثير من الدول بدأت تُفضل التبادل التجاري بعملاتها المحلية كبديل للدولار وهناك إتفاقيات بهذا الخصوص بين روسيا والعديد من الدول.
سابعا- روسيا حضّرت نفسها لما سينتج عن العملية العسكرية في "أوكرانيا" ونوّعت إحتياطها من العملات بحيث لم تقتصر على الدولار بل أصبح هناك لديها إحتياط باليوان الصيني واليورو الأوروبي والذهب، وذلك لتخفيف حدة العقوبات المتوقعة.
ثامنا- روسيا لا تفكر مطلقا بالطريقة السوفيتية القديمة، ولو كانت كذلك لإنتهت معركة "أوكرانيا" منذ أيام، هي ترى في الشعب الأوكراني جزء أصيل من الشعب الروسي وهي لا تُريد تدمير البنية التحتية ولا إحتلال "أوكرانيا"، فالهدف هو منع الولايات المتحدة من جعل "أوكرنيا" كما قال عنها الرئيس بوتين "روسيا المضادة"، أي منع تحولها لرأس حربه "للناتو" ضد روسيا.
تاسعا- الإعلام الغربي ومعه للأسف غالبية الفضائيات العربية وعلى رأسها "الجزيرة" و "الشروق" و "العربية" تقوم بحملة شيطنة "روسيا" وفقا للخطة الأمريكية وكمقدمة لإعادة عجلة التاريخ نحو مفاهيم "الحرب الباردة"، لكنهم يتناسوا أن الشعوب في العالم ككل ضاقوا ذرعاً بالممارسات الأمريكية في العقود الثلاثة الماضية كشرطي العالم ويرون في الخطوة "الروسية" البداية للتعددية القطبية القادمة لا محالة.
عاشرا- الغالبية من زعماء وسياسيي الشرق الأوسط وفي مقدمتهم الكثير من الزعماء العرب وتركيا وإيران ينظرون بعيون مصالح دولهم الحقيقية بعد أن شاهدوا على أرض الواقع صدق "أمريكا" مع حلفائها ودورها فيما عُرف ب "الربيع العربي" (إقرأ الخراب والدمار العربي) وإنسحابها المُذل من "أفغانستان" وإنسحابها من المنطقة للشرق الأقصى لمواجهة "الصين"، وهذا وحده كفيل بعدم الإنجرار بشكل أعمى خلف إدارة "بايدن" ومخططها، ومقابلة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لِ "مجلة ذا أتنلاتك" واضحة ومهمة.
ليس كل ما يلمع ذهباً، وبالضرورة التاريخ لا يمكن أن يعود للخلف، وهناك لحظات تاريخية تكون ضبابية الإستشراف المستقبلي، ونحن في حاضرنا نلمس ذلك ونشاهده في العملية العسكرية الروسية الجارية في "أوكرانيا"، وكل المحاولات لتحويل الرئيس "بوتين" لِ "شيطان" العصر لن تنجح، وما تقوم به فضائيات الغرب والعرب الإعلامية في تخويف العالم وشعوبها من "روسيا" سترتد عليهم لأن الشعوب رأت "الشيطان الأكبر" وهو يُدمر العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا وبلغراد ويحاصر فنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية وإيران...الخ، وكل ما يقوم به إعلامهم ما هو إلا إسقاط نفسي إمبريالي حتما سيكون برداً وسلاماً ليس على الشعب "الروسي" فحسب، بل على كل الشعوب التي ظلمتها سياسة الغرب الرأسمالي المتوحش وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية "الشيطان الأكبر".
هنا أودّ أن أهمس في اذن بعض الكتاب والمحللين غير المأجورين، إرحمونا يرحمكم الله، ف "روسيا" الجديدة ليست الإتحاد السوفيتي، وصراعها القائم مرتبط بمصالحها القومية وليس بمواقف مبدئية مستندة لأيديولوجيا الفكر الشمولي، إنها مصالح تحالف "أوراسيا" الجديدة التي حذر منها الغرب مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق "زبغنيو بريجنسكي" في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى" وكتب بأن "رقعة الشطرنج الرئيسية التي تدور عليها اللعبة هي أوراسيا وهي تنتهي بسيطرة الغالب على الإدارة الإستراتيجية للمصالح الجغرافية السياسية لأن من يُسيطر على أوراسيا يُسيطر على العالم" خاصة أن "في أوراسيا تقع الدول الست التي تلي الولايات المتحدة في ضخامة الإقتصاد وحجم الإنفاق على التسلح وفيها جميع الدول النووية المُعلنة بإستثناء واحدة". ويرى "بريجينسكي" أن على "أميركا أن توثق العمل بشكل خاص مع ألمانيا من أجل تشجيع توسع أوروبا شرقاً، فهذا سيحقق ضغطاً أميركياً - ألمانياً مشتركاً ضرورياً من أجل السيطرة على حلف الناتو وتوسيعه الذي يعدّ ضرورة أساسية إذا ما أريد لأوروبا الجديدة أن تظل جيوبوليتيكيا جزءاً من المجال الأوروبي - الأطلسي."، من هنا، نرى الخطوة الروسية التي تقف سداً منيعا في توسيع "الناتو" خاصة في "أوكرانيا" التي يراها "بريجنسكي" "نقطة إرتكاز دولي ودولة إقليمية كبرى بدونها لا يمكن أن تصبح روسيا قوة إمبريالية عظمى" بل ستكون أكثر "أسينة" (ذات طابع آسيوي)، لذلك ف "كييف" بالنسبة للرئيس بوتين هي مثل "ستالينغراد" بالنسبة لِ "ستالين"، والإقتصاد الروسي وحركة أسطوله التجاري والعسكري يعتمد على "أوكرانيا" فلا عائدات غاز ولا مجال إنتاج زراعي ولا حركة للأسطول بدون الأرض الأوكرانية، وروسيا "بوتين" تعلم ذلك جيدا، والولايات المتحدة الأمريكية عملت وفق نظرية "بريجنسكي" لحرمان "روسيا" من ثلاث دوائر جيوسياسية مهمة بحكم موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية وهي "أوكرانيا وأوزبكستان وأذربيجان"، فشلت الولايات المتحدة سابقا بالحسم الروسي في أذربيجان عام 2008، ولم تستطع في أوزبكستان والآن "بوتين" يحسم مسألة "أوكرانيا".
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت