"قول يا قلم"

بقلم: تحسين يقين

تحسين يقين.JPG
  • تحسين يقين
  • الخاص والعام!
  • مرة أخرى تطرق الموضوع؟
  • ربما هكذا تأتي الكتابة، حين نمر ذاتيا بقضايا شخصية، لها علاقة بمنظومة المجتمع إدارة أمور ونظاما سياسيا.
  • قل ما عندك!
  • ما نكتب عنه الآن، يهمني ويهم الناس، فمجموع فردياتنا تعني نحن جميعا.

كثيرا ما أسمع أغنية "قول يا قلم قول" لإيمان البحر درويش، متذكرا حينما سمعتها أول مرة في نهار ثمانيني؛ كنت ابن عشرين عاما، فيما كان المغني ابن ثلاثين.

كنت في بداية الكتابة، وهو قد قطع مشوار صغيرا، عرفت أنه حفيد سيد درويش، فنان الشعب. وقد عمل إيمان البحر على إعادة إحياء أعمال جده فقدمها بطريقة ممتازة لاقت إعجاباً كبير في كافة أنحاء الوطن العربي.

ولعل روح سيد درويش قد حلت في الحفيد صوتا ومضمونا، بما تضمنت أغانيه من انتصار للبشر، مانحا دوما الأمل في الغد. لم يكن بكاء بل نهضويا وطليعيا.

الأغنية كلمات الشاعر حسام الدين شوقي، وألحان ابراهيم نصير، وتعد من الروائع الخالدة فعلا.

كنت أرى في الأغنية أيام الدراسة الجامعية منهاجا للكتابة، وطريقا ومنطلقا، وما زلت بل تعمق ذلك، وإنها المسؤولية، مهما كانت منطلقاتها:

قــــول يــا قـــلــــم قــــــــول وايــــــاك تـــخــــــاف لـــحـــظــــــة نــــــــدم

 اصــرخ ولـــّم الــنــــاس افتحــلـنـا الــــكـــراس

 صفحة قصـاد عــيـــــّنا نــــــــقــــرا ضـمـايـــرنا

هنا دعوة من البداية، بدون تمهيد، طلب مباشر بالقول كما ينبغي له أن يكون. أما التحذير من خوف الندم، فكأنني فهمته، من باب أن يأتي القول بما يمكن أن يؤثر على القائل!

في بداية الشباب كنا أقرب الى الجرأة، واليوم لعلنا أقرب الى المسؤولية.

ثم ينتقل الشاعر حسام الدين شوقي، مستخدا أفعال الأمر، بما هو أهل له، وبما هو وظيفة أخلاقية للكتابة:

اجعل كلامـــي أنـامل تمسح جبين العرقـــنين

 وازرع سطوري سنـابل تطرح في ارض الفلاحين

 وابـدر حـــروفي قـنابل تصبح حصاد الجبارين

فحين تصبح الكتابة، والغناء، والفن، من أجل الإنسان، فإن الكلام يصير فعلا أنامل حنونة تمسح جبين من يكدون لأجل الرزق وستر الحال، حتى لا تمتد الأيادي طالبة العون. كما يصير الكلام النبيل سنابل خير تقينا الحاجة والعوز، أما الحروف فتقاوم كل جبار مستبد.

أما آخر الأغنية مضمونه واحد، كما نقرأ، ولكن الملحن العبقري ابراهيم نصير هنا وظّف بذكاء (المستوي الصوتي) من خلال اللحن في "لون وشوش الناس الى النهاية، لمنح الأمل والحنان والأمان، بعد أن حملت الكلمات في "هتلاقي في الأصحاب كــــــتـــيــــر اغـــــــراب" رثاء حزينا لما يكون.

 عــــــدي مـــن الأبواب اكــــيـد هـناك أحباب

هتلاقي في الأصحاب كــــــتـــيــــر اغـــــــراب

 خــــــــدهـم مـعاك للنور خــــدهـم وعــدّي بحور

 لــــــوّن وشــــوش الـناس بلــــــــــــــون الـــــــنـيــل

واجعل فـي صوت الفاس غــــــــنى ومــوويــــــــل

 وافــــــــتـح عيون الفجر متــشوفش تـاني ليل

 قــــــــول يـا قلــــــــم قـول...

نعم، قول يا قلم قول، أغنية ومنهاج إعلام وصحافة وثقافة وفن، تدل على إدراك الشاعر للوظيفة العميقة للكتابة والفنون.

ظهرت هذه الأغنية في النصف الثاني من الثمانينات، وارتبطت بأغنية "نفسي" الأكثر شهرة وتأثيرا، تلك التي ظهرت في فيلمه "زمن الممنوع"، الذي أبدع عمر خيرت في موسيقى الفيلم التصويرية. وهوإنتاج عام 1988 الذي سنفرد له وللأغنية مقالا خاصا بها، حيث لم ينل حظه من العرض.

سياق الثمانينات مصريا وعربيا ودوليا، كان في تراجع اليسار، وصعود اليمين، وما ارتبط به من مظاهر وظواهر في الحكم والاقتصاد، وقد كنا نعيش ونشهد نتائج سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي لم تقترن بليبرالية فكرية حقيقية، فظهر ما ظهر من سلوكيات اجتماعية، وظهور فنون استهلاكية ضعيفة، ارتبطت بالتحولات التي ما زلنا نكتوي بنارها مصريا وعربيا.

لم يكن من السهل الحديث، والغناء، والإبداع المسرحي والسينمائي، إلا في أضيق الحدود، لكن بالرغم من كل ذلك، فقد ظهرت روايات وأفلام وأغان تنتصر للإنسان.

لنا دوما قدوة رائعة في كل كلمة حرة بكامل التزامها ونبلها ومقصدها، هكذا راح ابراهيم طوقان ينشد:

ما ضَلَّ ذو أملٍ سَعى يوماً وحكمتهُ الدَّليلُ

كلاَّ ولا خاب امرؤٌ يوماً ومقصْدهُ نبيلُ

والبيتان مقتبسان من قصيدة طوقان الأكثر شهرة: كفكف دموعك، تلك التي بدأها بقوله:

كَفْكِفْ دموعَكَ ليس ينفَعُكَ البكاءُ ولا العويل

وانهضْ ولا تشكُ الزمانَ فما شكا إلاَّ الكسول

واسلكُ بهمَّتِكَ السَّبيلَ ولا تقلْ كيف السَّبيلُ

ما بين الشاعر الغنائي المصري حسام الدين شوقي في الثمانينات، وما بين الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان في الثلاثينيات، خمسون عاما، وماض وحاضر مستمر، ومستقبل منشود، طمحا بأمل وما زالا وما زلنا.

واليوم هو أب الغد، وأمه، فليس لنا أولا إلا هذا الوطن، فلنقوي أنفسنا، ولنقوي بعضنا بعضا، ونحن ما زلنا نعيش تحت الاحتلال. ولنفكر بأمانة ومسؤولية فيما نقوله في المجالس وفي وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.

المنهاج واضح:

اجعل كلامـــي أنـامل تمسح جبين العرقـــنين

 وازرع سطوري سنـابل تطرح في ارض الفلاحين

 وابـدر حـــروفي قـنابل تصبح حصاد الجبارين

وهو هنا فعل لا تباك:

وانهضْ ولا تشكُ الزمانَ فما شكا إلاَّ الكسول

واسلكُ بهمَّتِكَ السَّبيلَ ولا تقلْ كيف السَّبيلُ

لقد استلزم المضمون هنا أسلوبا خاصا، حيث فعل الأمر لما يجب فعلا القيام به، لمن أراد، ولمن آمن بدور الكلمة.

فحينما نتحدث، لنسأل أنفسنا، هل ستكون كلماتنا أياد حنونة؟ وثمار خير؟ ومقاومة للاستبداد؟

خارج ذلك، سنشهد اشتباكات بيننا وبيننا، لن نسنفيد منها جميعا، تلك هي الطريق، تلك هي الإيجابية.

والآن، وغدا، هل سنشهد تعميق النقد البناء لتكون بلادنا أفضل، ومؤسساتنا والأفراد؟ هل سنشهد النقد البناء؟ هل سنقوى بكل يد حنونة تمتد لتشجعنا على مواصلة الطريق؟

هل سنتعاون فعلا، أم كل منا يتقوقع على نفسه بمحيط صغير يتغنى به، ثم ليتابع التغني بآخر قادم؟

هل سنشهد فعلا آثار الفعل التطويري والإصلاحي إن جاز التعبير؟

هل ستنعكس قراراتنا وبنانا الإدارية، وإدارة المال العام إيجابا على المواطنين، أطفالا في المدارس، ومزارعين، وفي العيادات الصحية؟ وباقي جوانب المجتمع!

"أما ينفع الناس، فيمكث في بيت القصيد" يا محمود درويش.

وعليه: قووول يا قلم قووول.

 

 

 

 

 

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت