بقلم: د.نجلاء الخضراء
اعتاد الدمشقيون على دمشقة سهراتهم ولياليهم الرمضانية كما اعتادوا على دمشقة مدينتهم، فكانت لتلك الليالي روعة وجمالا واجلالا إذ أنهم بعد إقامة فروضهم وصلواتهم وتراويحهم وبعد انتهاء التكبيرات والتهليلات المنغمة في المساجد وقبل البدء بطقوس قيام الليل وعباداته حتى آذان الفجر كان هناك فترة مسائية لترويح النفس واراحة الصدر ورمي المتاعب بالاجتماع مع الأقارب والأصدقاء وقضاء وقت مازال عالقا في الذاكرة الشعبية ببساطته ودفئه وابتسامته التي كان يطبعها على القلوب قبل الوجوه.
لم تخلو تلك السهرات من الموائد الفاخرة التي حملت أشهى الحلوى والأطباق الرمضانية كالكنافة والقطايف والعصافيري والمعروك المحشو بالتمر والزبيب وأرغفة الناعم وأحيانا الأرز بالحليب المجلل بالمكسرات وإلى جانبها أنواع وألوان من الفواكه المجففة، مع فنجاجين القهوة وأكواب الشاي وغيرها من العصائر والمرطبات الرمضانية. فيقضون ليلتهم في تداول القصص والنوادر والألعاب والتباري بالأمثال والأقوال والأبيات الشعرية والأحاجي التي تميزت بمعناها ومبناها وجرسها الموسيقي ومضامينها واتسامها بالطرافة والمتعة وقدرتها على جذب ومشاركة كل الجالسين في السهرة وهي تتناول الأشياء المنظورة والمأكولات والمشروبات والأيام والشهور والسنين والأشخاص والأدوات والأحداث والأمكنة وكل ما يخطر بالبال. إضافة إلى السجالات وغالبا ما تكون بين النسوة بوصف محاسن البيضاء والسمراء أو الحديث عن الحظوظ وبين الأباء والأبناء وربما الأجداد لحل اشكال بين الأجيال أو توضيح فكرة بأسلوب رقيق لطيف ومحبب. وتداول الأمثال الشعبية والنوادر و الحكايات فعندما يأتي دور الحكاية تجد الجميع منصتون منجذبون وقد كانت تلك الحكايا موجهة للكبار تحمل وتناقش مواضيع الحياة الأسرية كموضوعات الحماية والكنة والسلفات والضراير وعلاقة الزوج بزوجته وأولاده ومواضيع اجتماعية من الحياة اليومية والمشاكل التي كانت تدور ضمن الحارات وبين الجيران وكان لتلك القصص عدة وظائف غير التسلية وبث روح المرح والابتسامة والنكتة فقد كانت تلك القصص تعمّد بأسلوب من التوجيه غير المباشر وتغليب نزعة الخير على الشر وانصاف المظلوم من الظالم.
لم تتوقف السهرات الرمضانية على البيوت والعائلات أنما تعدتها إلى المقاهي حيث الأسرة الأكبر فيلتقي الرجل بجيرانه وأصحابه وأقاربه حيث يكون احتساء الشاي وتدخين النرجيلة وقضاء الوقت بالأستماع للحكواتي ومشاهدة فصول خيال الظل.
ظهر الحكواتي مع ظهور المقاهي فكان يتخذ مكانه في صدر المقهى على سدة عالية من الخشب مجللة بالسجاد وحوله أصص نباتية، وقبل شروعه بالحكاية يبدأ بما يسمى دهليز الحكاية وهو عبارة عن مقدمة يسردها ريثما يصل الجمهور المتأخر ثم يبدأ حكايته ببراعة في الالقاء وقوة في الصوت الذي يعمل على تغير نبراته ولهجاته بحسب الشخصية والحدث ومرافقة بالحركات فينزل من على سدته إلى جمهوره ويقف ويقفز ويحمل بيده عصا أو سيفا يلوح به ويضرب على الطاولات وهو يصرخ ويتوعد وكأنه بطل الحكاية مما يثير الحماس، فيحبك القصة ويصعد الأحداث إلى أن يتوقف عند عقدة يكون فيها البطل في موقف حرج على أمل اللقاء بهم في اليوم التالي ليتابع لهم السيرة. والأمثلة كثيرة عن الحكواتية الذين أوقفوا قصتهم ليكملوها في اليوم التالي وتركوا البطل يعاني في السيرة ما يعانيه ليطير النوم من عيون أحد المتحمسين الذين أخذتهم القصة وإلى عالمها وأحزانها ومغامراتها ويتوجه ليلا إلى دار الحكواتي ويوقظه ويطالبه بإخراج البطل من ذلك الموقف.
يركز الحكواتي خلال قصص السيرة على بث مكارم الأخلاق والشجاعة والفداء في الحضور من خلال تجسيد هذه السمات في شخصية أبطال السير وفي المقابل يظهرون اتصاف اعدائهم بالكذب والبخل والخيانة والغدر والرياء والنكث بالعهد والقصص التي فيها العبر والمواعظ التي تذكر الناس بهذا الشهر العظيم من الناحية الدينية وتحثهم على الصدقات وأعمال الخير، فرمضان ليس امتناعا عن الطعام والشراب رمضان امتناع عن السوء والبغضاء واقبال على كل ما فيه خير.
في حين يعد مسرح خيال الظل أحد أرقى أنواع الفنون المسرحية إذ يمثل فنا متكاملا له القدرة على تقديم الخيال أو الظل بصورة رائعة وهو إضافة إلى ذلك فن شرقي أصيل. مصطلح خيال الظل مصطلح عربي خالص إذ أن الخيال يعني التشبيه والتصوير والظل هو انعكاس للصورة والأصل في المصطلح ظل الخيال لكن الإضافة مقلوبة.
يتألف المسرح من قماش أبيض يوضع على إطار مقاسه متر مستطيل 60×100 ومصباح يثبت ضوئه وراء القماش، أما طريقة التنفيذ توضع الستارة من القماش في مواجهة الجمهور يثبت من الأعلى ضوء موجه عليها ومن الاسفل يتم وضع الدمية المصنوعة من جلد البقر أو الجمال على رف خشبي، بين الشاشة والضوء ويتم البدء بالعمل المسرحي عن طريق تحريك الدمى بالعصى من وراء القماش فيظهر الخيال للمشاهد.
وردت أقدم الإشارات إلى وجود مسرح الدمى في سورية على شكل مخطوطة مؤرخة سنة 1308م لشمس الدين محمد بن إبراهيم الدمشقي وكذلك ذكره الشاعر أبو العلاء المعري (973-1057) في شعره بدون ذكر تفاصيل أو وقائع لذلك يعتقد أن مسرح الدمى عرف في سورية منذ العصر الذهبي لها كمركز للثقافة العربية والإسلامية في القرنين السابع والثامن الميلاديين.
لاقى مسرح الدمى أو مسرح خيال الظل ازدهاراً وانتشاراً لا مثيل له في القرن التاسع عشر
تميز الأثرياء أول الأمر باستقدام مسارح الدمى والمخايلين في الاحتفالات والليالي اللاهية كما كانوا يستقدمون المنشدين والمغنين. وبعدها كثر المخايلون في تلك الفترة وكثرت ألعابهم وفنونهم فما لبثوا أن أصبحوا يجولون القرى وأحياء المدن في مواليد الأولياء والقومية وحفلات الزواج والختان والمناسبات الدينية وخصوصا في رمضان. ويعرضون تمثيلياتهم الظلية في المقاهي والحانات والأسواق
لهذا السبب نجد أن مسرح خيال الظل قد ارتبط بالعادات والتقاليد الاجتماعية والمناسبات الدينية . وناقش الواقع والموضوعات الاجتماعية فكان مسرحا ساخرا فكاهيا استطاع أن يتحدث بلغة الشعوب وان يعبر عن معاناتهم ومتطلباتهم وان يكون قريبا من وجدانهم.
ومن الملفت أنه في شهر رمضان وهو شهر الصوم عند المسلمين كانت تقام مباريات في المدن السورية الكبرى يشارك فيها مخايلون من بيروت وطرابلس وحلب ودمشق وطرطوس وحمص و أرواد وهذا يعني أن سورية عرفت منذ ذلك الوقت ما يمكن أن نطلق عليه اسم مهرجان مسرح الظل السوري.
لا يتقيد المخايل في عروضه بالمنطق والتسلسل التاريخي فليس للزمان والمكان أهمية بالنسبة له وكل ما يهمه معالجة اهتمامات الناس ومشاغلهم ومتاعبهم بأسلوب كوميدي ساخر يدخل السرور والمتعة إلى القلب حتى يستطيع تمرير ما يريد من انتقاد وتجريح وتوجيه.
تقسم فصول خيال الظل إلى قسمين فمنها ما هو أصيلا ومتوارث مثل فصل الطاحون وأياصوفيا وشمارين والوزير الخاين والدوماني ومنها ما يحاكي الوقت الراهن ويناقش الحاضر ويتناسب مع التطورات الاجتماعية.
كانت مسرح خيال الظل أكثر تأثير للمشاهد من الحكواتي لأنه يعتمد على حاستي السمع والبصر في مخاطبته ينما اعتمد الحكواتي على حاسة السمع وجذب الحضور بأسلوب مدروس يعتمد على تمكن الحكواتي من تغير الالصوات واللهجات وسرعة بديهته وحضور نكتته في سرد قصصه وحكاياته.
مع مرور الوقت وظهور الإذاعة والتلفاز استبدلت أغلب المقاهي الحكواتي وخيال الظل بوضع جهاز الراديو وبعده التلفاز في صدر القهوة فأصبح المشاهدون يجتمعون على برامج الإذاعة والتلفاز الخاصة بشهر رمضان، وكذلك أصبحت السهرات المنزلية تعتمد على أجهزة التلفاز حيث يجتمع حولها الأفراد ليمارسوا طقوس سهراتهم ومتابعة برامجهم المفضلة فكان التلفزيون السوري يعرض صباحا الأخبار وبرامج الأطفال وبرامج الطهو وأطباق رمضان وتبدأ السهرة التلفزيونية من أذان المغرب الذي كان ينقل مباشرة من الجامع الأموي وبعده دعاء الإفطار ثم برامج دينية تتحدث عن اًصول الدين والهدايات القرآنية وأسماء الله الحسنى وأقدم المساجد وعن أهم الشخصيات الدينية ثم المسابقات الرمضانية وبعدها مسلسلات رمضان التاريخية والرمضانية والاجتماعية التي لا تختلف كثيرا من حيث توزيع الأدوار والشخصيات وتناوب الأخذ والرد على شكل مقالب مستمرة التي لا تختلف كثيرا في مناقشة موضوعاتها عن مسرح خيال الظل إلا من حيث البيئة والمكان وأسلوب العرض فلم يكن مسلسل حمام الهنا أو مقالب غوار إلا امتدادا لتلك الفصول والبابات والمشاهد. وفي نهاية رمضان كان يتم نقل الاحتفالات بليلة القدر والدروس الدينية التي كانت تقام لكبار العلماء والأئمة.
أما اليوم فبالرغم من تغير ظروف الحياة وتطورها وتشابكها وزيادة قسوتها إلا أن الفرد
ما يزال يبحث عن ردهة لراحة نفسه والهروب من الضغوط والهموم الحياتية ومتاعب الصيام والعمل في رمضان فما تزال السهرات الرمضانية متوارثة وموائد الأطباق والحلوى الرمضانية وجلساتها ومشروباتها ومرطباتها مستمرة إلا أنها اختلفت في طبيعتها حسب تطورات الحياة العصرية فقد أصبحت أكثر خصوصية بعد أن توزعت الأسرة الكبيرة إلى عدة أسر وبيوت صغيرة فأصبح اجتماع العائلة حول شاشة التلفاز بشكل يومي خاص بسهرات رمضان ما جعل رمضان مناسبة لتقديم أضخم الأعمال التلفزيونية وأجملها
يحتاج الصائم بعد نهار منهك من الصيام والعمل والعبادة إلى ردهة للراحة والترويح عن النفس ليجد ضالته في السهرات والجلسات الرمضانية وقضائها في التسلية والترفيه إضافة لإتاحة الفرصة للتفكير وامعان العقل والعودة للتاريخ العربي و الإسلامي واحياء لحظات الانتصار وزمن الازدهار والقاء الضوء على الشخصيات والأحداث العظيمة في التاريخ العربي والإسلامي للارتكاز على تلك الردهات في تطوير الحاضر وبناء المستقبل ونشر الثقافة السليمة التي تتناسب مع المجتمع والعادات والتقاليد والتاريخ والذكريات والبيئة والمكان
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت