التباس المكان في قصيدة "تبلو" للشَّاعر صلاح أَبو لاوي

بقلم: أحمد أبو سليم

أحمد أبو سليم.jpg
  • أَحمد أَبو سليم

 يقول باشلار: إنَّ البيت الَّذي ولدنا فيه محفور بشكل ماديٍّ في داخلنا، إنَّه يصبح مجموعة من العادات العضويَّة، فبعد مرور عشرين عاماً ورغم السَّلالم الكثيرة الَّتي سرنا فوقها، فإنَّنا نستعيد استجاباتنا للسلَّم الأَوَّل..." وسواء أَخذنا فكرة باشلار بشكل مباشر، أَو مع كلِّ ما تحمله من انزياحات، فإنَّنا بالضَّرورة لا نستطيع أَن نتخيَّل بشراً دون مكان، ومكاناً دون بشر. ربَّما من فائض القول إنَّ المكان لا يعني شيئاً أَبداً دون الوعي بالمكان، ومن هنا، ذهب بعض الفلاسفة إلى أَنَّ المكان مرهون بالوعي، وفقط بالوعي، وما عدا ذلك فهو غير موجود. يبدأُ الوعي بالمكان منذ بداية الوعي، ويتشكَّل هذا الوعي طبقاً لمعطيات المكان، وبالتَّالي ما يفرزه المكان من علاقات اجتماعيَّة إنسانيَّة وتاريخيَّة وجغرافيَّة، تؤثِّر مسبقاً على التكوين الأَساسيِّ للإنسان، وبالتَّالي للوعي، وما عدا ذلك سيُعدُّ تمرُّداً على المكان وإفرازاته، والأُسس الَّتي بني عليها، وهو قليل لا يعوَّل عليه في دراسة تعتمد التَّعميم لا التَّخصيص.

 

 وبما أَنَّ النصَّ هو جزء من إفرازات المكان، فهو في الحالة الفلسطينيَّة نصٌّ يكاد في كثير من الأَحيان يكون ملتبساً بالنِّسبة لأُولئك الَّذين ينتمون لمكان ربَّما لم يتمكَّنوا من رؤيته لو مرَّة واحدة، ربَّما من هذا المنطلق يذهب الكثير من الكتَّاب إلى القول إنَّنا لم نعش في فلسطين، لكنَّها تعيش فينا... فما هي صفات المكان المُتخيَّل، أَو المخلوق، وخصوصاً إذا كان هذا المكان مُحتلاً، ويعاني ما يعانيه من ظلم عاطفيٍّ مكثَّف يؤدِّي إلى حالة تكثيف في الوجدان، ما يخلق نصَّاً يبحث في كلِّ مرَّة عن الكمال ولا يدركه نتيجة لإعادة تدوير المتخيَّل وما يطرأُ عليه من تغييرات وجدانيَّة في الأَساس؟

 

 من بديهيَّات الكتابة الشعريَّة أَنَّها تكتب المتخيَّل لا الواقع، فهي تعيد تكثيف الواقعيِّ، وتدخله عبر بوتقة الشَّاعر بما يحمله هذا الشَّاعر من ثقافة معيَّنة، ووعي، وخيال، ليعيد إنتاجه ضمن صبغة شعريَّة قد تقترب أَو تبتعد عن الواقع لكنَّها ليست نفسه.

 

 تنبني قصيدة تبلو، للشَّاعر صلاح أَبو لاوي، على المكان، حيث يشكِّل المكان العنوان، والمتن، وسيتكرَّر المكان في مقاطعها الثَّلاثة، لكنَّه ليس المكان الواقعيَّ، الحقيقيَّ، بل هو المكان المُتخيَّل الَّذي يعيد صلاح أَبو لاوي خلقه شعريَّاً وفق منظومة نفسيَّة معقَّدة تستند على مكان مبنيٍّ ضمن معطيات عاطفيَّة، وجدانيَّة، وهو فلسطين، من هنا يمكن القول إنَّ المُتخيَّل في القصيدة، المبنيَّ على الواقعيِّ، هو محاولات دائبة لإعادة تدوير، وخلق المكان المُتخيَّل الَّذي يسكن وجدان الشَّاعر ولا يتمثَّل ماديَّاً أَبداً، أَلا وهو فلسطين.

 

 يصطدم الشَّاعر منذ البداية بصوت العصافير الَّتي تزقزق ليلاً، في ظلام تبلو، ويقوم بمقارنتها بالعصافير الَّتي لم يعرف قطُّ أَنَّها تزقزق ليلاً في بلاده، والبلاد هنا هي فلسطين القابعة تحت الاحتلال، والشَّاعر لا يعيش في فلسطين، من هنا، يبدأُ المتخيَّل المبنيُّ على الواقع، بمحاكاة المتخيَّل المبنيِّ على المتخيَّل. إنَّ المتخيَّل المؤسَّسَ على المتخيَّل يعطي مساحات واسعة للشَّاعر كي يبني خياله دون معوِّقات الواقع، فالعصافير الضَّعيفة الَّتي عادة ما ترمز للحريَّة بسبب حجرها في أَقفاص تصبح حارسة للأَحلام، ويصبح الفعل متبادلاً، بين الإنسان المضطهد، والعصفور المضطهد، إذ إنَّ كلاهما يحاول أَن يتمثَّل حالة الآخر، والعصافير الَّتي تطلق زقزقاتها في الظَّلام، هي عصافير الطَّرف الآخر، النَّقيض الَّذي أَسَّس لمأَساة فلسطين، والفلسطينيِّ، وحرص على أَن يظلَّ المضطهد مضهداً، إنَّه بعبارة أُخرى النَّقيض الَّذي يبدو من وجهة نظر ما يبني الجنَّة، لكنَّها الجنَّة المبنيَّة على تلِّ عظام، من هنا يبرز التَّناقض حادَّاً في الوعي الَّذي يحاول رصد الواقع وإعادة إنتاجه.  

 

"تبلو" أَم أَقول الجنان الَّتي وعد الله أَن يبعث المؤمنين إليها وبها الأَعين الحور والخضر والزُّرق يسلبن أَفئدة الأَتقياء.. كما وصف الله جنَّته في الكتاب فتبلو هي إن الجنَّة الَتي وعد الله المؤمنين بها، لكنَّها جنَّة معادية، جنَّة الآخر الَّتي خلقها من دمنا. لم أَكن كافراً بالنَّوارس حتَّى أُرتِّل ما يتيسَّر من غربتي لم أَكن مؤمناً لأُخلِّصني من شوائب أَوردتي هل تراني الشَّبيهة، قالتْ سأَفرش غابات مائي لعينيكَ حتَّى تتمَّ الصَّلاةْ إنَّه البحر بيني وبينكِ قلتُ اخرجي من شآبيب غيمي اخرجي من عيوني اخرجي من وضوئي اخرجي من صباي لتكتبني الأُمنيات سأَعود لقطرة ضوء بمنفاي أُطلق شنَّار أَسئلتي فالحقول الَّتي تعلمين استفاقت نشيد حياة. إنَّه في نهاية المطاف اللاَّجئ الَّذي أَعطى للوطن ملامح بعينها، لكنَّها ملامح قلقة لا تركن إلى اللُّغة، والوصف، الشَّاعر الَّذي يحبُّ لكنَّه بحبِّه يحيل الأَشياء من واقعيَّتها إلى الخيال، كي يتحرَّر من هذا الواقع المؤلم الَّذي يجد نفسه فجأَة أَنَّه لا ينتمي إليه رغم أَنَّه الجنَّة. إنَّها الجنَّة المعادية باختصار، الجنَّة الَّتي تخلق الحسرة، والتفجُّع. لا أَراك غريباً ولكنَّ قلبي طير أَجبتُ فلم تسع الأَرض وجهي ولم تتَّسع للغريب الوجوه. كنتُ وحدي وقنِّينة الخمر تقسمني ما أَراه وما أَرتئيه فأَسيل على شاطئ الصَّحو خيط نبيذ أُخالط بين الحقيقيِّ فيَّ وبين الخيال. من هنا يمكن التأكيد على أَن التباس المكان كان عنواناً أَساسيَّاً للمادَّة الشعريَّة بناء على ما سبق ذكره.

غلاف تُبِلو.jpg


 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت