عشر العتق من النار

بقلم: نجلاء الخضراء

نجلاء الخضراء..jpg
  • بقلم: د.نجلاء الخضراء

يزهر العشر الأخير من الشهر الفضيل ويتألق بنهاره وليله بأجمل الطقوس والعادات التي توارثها الناس عن آبائهم وأسلافهم فترى فيها تقاليد العراقة والأصالة فتكون ممارسات روحية وشعبية في شكلها وطبيعتها. وقد تميز شهر رمضان عن غيره من الشهور بليلة القدر فكان شهر الخير والبركة وهو شهر القرآن

يزداد النشاط في عشر العتق من النار وتتضاعف الخيرات فتتضاعف عدد ركعات الصلوات وقراءة القرآن الكريم ويزداد الدعاء والتقرب إلى الله كما يزداد ارتياد المساجد فتكون في منتصف الليل وكأنها خلية نحل.

فبعد الانتهاء من صلاة التراويح تقام صلاة الرغائب في معظم المساجد وهي اثنتي عشرة ركعة وبعدها تعقد الدروس الدينية، وقبل الفجر بساعتين تقريبا تبدأ صلاة التهجد يعود بعدها المصلون إلى منازلهم لتناول وجبة السحور وقد يبقى بعضهم في المسجد يدعو ويبتهل ويتناول ما يحضره معه من الطعام والشراب قبل آذان الفجر.

كما تتزايد الصدقات وعمليات البحث عن الأجر في بيوت الفقراء والمحتاجين فعلى العيد وفرحته الدخول إلى كل بيت من بيوت المسلمين بحلوى العيد ولبس الجديد من الثياب.

تتجهز الأسواق لاستقبال أعداد مضاعفة من الزوار وذلك بزيادة الأنوار والفوانيس وبتعليق أوراق الزينة ومد البسطات على طول الأسواق ببضائعها المنمقة المرتبة بأسلوب فني متقن.

تتأهب البيوت وتقف على قدم وساق في العشر الأخير استعدادا لقدوم العيد فتبدأ عمليات تنظيف البيت والجدران والسقوف واعداد حلوى العيد وما تزال ممارسات رمضان قائمة من اعداد وجبة الإفطار وتجهيز حلوى رمضان لسهرة ما بعد التراويح واعداد السحور قبل آذان الفجر وربما انتقلت تلك السهرات إلى المساجد لإحياء ليلة القدر.

ليلة القدر خير من ألف شهر لهذا يهرع الناس فيها تقربا إلى الله وطلبا للغفران والرحمة والخير والبركة والعتق من النار.

سميت بليلة القدر لعظم الحدث والقدر الذي كان فيها وهونزول القرآن. ففيها تنزل الملائكة إلى الأرض حتى تضيق الأرض بهم لتشارك الناس بعبادة الله وتشاركهم صلواتهم ومناجاتهم وابتهالاتهم. وقيل ان في ليلة القدر تقدر الأرزاق والآجال وما يكون من التدابير الإلهية. وهي سلام حتى طلوع الفجر خالية من أي شر يكون فيها الثواب على أي عمل مضاعف أضعاف كثيرة.

أمر الرسول الكريم بالتماسها في العشر الأواخر من الشهر وفي روايات في العشر الأواخر من كل وتر وأن نردد فيها اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفو عنا.

تعد مظاهر وطقوس ليلة القدر من أبرز مظاهر رمضان وتبدأ من بعد صلاة التراويح بدرس ديني يلقيه أحد الشيوخ الكبار ثم إذ تبدأ جلسات الذكر التي يقيمها رجال الطرق الصوفية ويحضرها الناس من كل الفئات والطبقات فنرى الرجال والنساء والأطفال منتشرون في الساحات والأزقة حول المساجد يتزاحمون لحضور احتفالات ومظاهر وممارسات ليلة القدر حيث  تبدأ بدرس ديني عن ليلة القدر وفضائلها ثم يقوم دراويش المولوية بثيابهم البيضاء الفضفاضة وقبعاتهم الطويلة المصنوعة من اللباد والشبيهة بالطرابيش بالدوران دورات محورية بانتظام وانسياب وخفة ورشاقة على انغام التسبيح والتهليل وعلى كلمة الله الله والصلاة على النبي العدنان، وبمشاركة الدفوف  وهم يضعون يدهم اليمنى على قلبهم ويذكرون الله مع كل دقة قلب ويرفعون اليد اليسرى نحو السماء ويشاركهم الحاضرون بالتهليل والذكر مع دقات قلوبهم بحركة الرأس فقط وهم جالسون بأماكنهم، فيدخلون بحالة روحانية وتجلى إلهي عظيم يفقدون خلاله أي ارتباط بينهم وبين محيطهم، ومهما داروا حول أنفسهم أو حول دائرتهم التي يحتلونها فإن الدوار لا يعتريهم ذلك أنهم تدربوا على هذه الحركات منذ طفولتهم، ويتبادل الدراويش الأدوار في فترة الاحتفال حتى لا يشعرون بالتعب،  وتوزع أجزاء القرآن الكريم على الحاضرين لتتم ختمة القرآن ويقرأ عشر من القرآن بصوت جميل يجهش السامعين بالبكاء تستمر تلك الطقوس والاحتفالات حتى وقت صلاة التهجد وبعدها فترة السحور وآذان الفجر فلا يفارق المصلي المسجد حتى طلوع الفجر.

كل تلك الطقوس والممارسات والعادات تتم في جو من المحبة والألفة والتسامح حيث يتبادل المصلون تحيات الود والمباركة والمحبة وتقوى تلك الأواصر بالسؤال عمن تغيب في احدى الليالي الرمضانية ومعرفة سبب تغيبه ان كان تعب أو مرض أو سفر وبالصدقات والهبات والزكاة والكفارات التي توزع على الفقراء والمحتاجين منها ما يكون عيني ومنها ما يكون على شكل سلع ومنتوجات. كان الميسورون في السابق يرسلون للسؤال عن المحتاجين وارسال لهم الصدقات بكل سرية حتى أنه لا يعرف من هو المتصدق أما اليوم فبالإضافة إلى هذا تقوم جمعيات خاصة ومؤهلة بجمع تلك الأموال من الصدقات وتوزيعها حسب معرفتها إلى المحتاجين دون ذكر أسماء الطرفين على شكل أموال أو سلع.

في العشر الأخير من رمضان يهرع الناس إلى الأسواق ويبدأ موسم تجاري كبير للتزود بلباس العيد وشراء الحلويات الشرقية الخاصة به ولكن وقبل الدخول إلى السوق تستقبلك أصوات نداءات الباعة وكأنها ترنيمة متوارثة كما تستقبلك أنوار الفوانيس مختلفة الأشكال والألوان تتلألأ وكأنها الموسيقى الصامتة لكل هذا الصخب القوي.

تشهد الأسواق الشعبية القديمة حركة قوية وكثيفة للناس الذين أتو لشراء مستلزمات الغيد من الحلوى والسكر والمكسرات والبهارات والبزوريات والمشروبات والفاكهة والخضراوات واللحوم ومستلزمات القهوة وأدوات المنزل من أكواب وصحون وشراشف وزينة.

توارث السوريون فنون الأسواق بنداءاتها المحببة للقلب والتي فيها استمالة للزبون وتراهم يضعون العروض المميزة بمجرد المرور من أمامهم ولهم طريقة مدهشة في عرض البضائع بمختلف أنواعها فترى المعلقات والمدرجات والرفوف وتصنيف الألوان والمعروض على أشكال المربعات والمخمسات سواء من البهارات أو المكسرات أوالمخللات أو البزوريات أو الصابون أو الملابس والأقمشة والأحذية وغيرها الكثير من مستلزمات العيد وترى في كل تلك المظاهر خصوصية العيد من أجواء السعادة والفرح وشراء الجديد.   

وتتميز الأسواق الشعبية القديمة بأنها ترسخ مفهوم تعايش القديم مع الحديث بصورة متناغمة لا تخدش جمال الأصالة والتراث فتجد فيها الراحة واختلاف الأسعار وتنوع البضائع وتجد في التجول فيها متعة بحد ذاته إذ أنها تضم العديد من الأماكن التاريخية الهامة كالحمامات والخانات والبيوت القديمة والمتاحف والمدارس.

وهي مكان مريح ذو سقف يحمي من حرارة الشمس ومياه الأمطار من تلك السقوف الهرمي ومنها المحدبة والمقنطرة. كما تتميز الأسواق الشعبية بتخصصها فهناك سوق البزورية وآخر للعصرونية وسوق للأقمشة وسوق للأجواخ وسوق للعطور وسوق للرياحين والجزماتية والأدوات التراثية كالنحاسيات والخشبيات والموزايك وأسواق لصناعة السيوف وأخرى للجلديات ..... الخ فتكون بالتصاق الدكاكين بعضها وتنوعها وتخصصها في ذات الوقت لوحة فنية شعبية رائعة الجمال.

وما أن حل العشر الأخير من رمضان حتى انهمكت النساء بصر الورق واعداد الحلوى الخاصة به كالمعمول المحشي بالجوز والفستق الحلبي والتويتات والكرابيج ومنهم من 7صنع حلوى السنبوسك فتجتمع الخالات والعمات والسلفات والاخوات ويجلسن لتحضير الكعك وفي كل ليلة يصنع الحلو لأحد البيوت المشاركة بالعمل حتى الانتهاء من صنع الكعك للجميع أما الأطفال فكان دورهم انتظار وترقب خروج القطع الأولى من الفرن للتدافع عليها.

للسوريون مزاجان في التعامل مع حلوى العيد فمنهم من يسعون لصناعته في منازلهم ليوفرون التكاليف ويتحكمون بمواصفاته الخاصة ومنهم من يشتري الحلويات الشرقية المحشوة بالمكسرات من البغجاتي.

وتعد صناعة المعمول من العادات والتقاليد القديمة والمتأصلة إذ عرفه السوريون وكانوا يصنعونه في الأعياد الدينية ويقدمونه على أنه لقيمات مباركة معموله من جسد الله النابت من الأرض وكان شكلها أقرب إلى الكليجة 

 فقد عرف في العهود البيزنطية فكان يعد للأعياد المسيحية وقبل الصوم الكبير وكان يشكل على شكل مثلثات وصلبان وأقراص دائرية ترمز إلى تاج المسيح.

وفي العهود الإسلامية كان الطولونيون يصنعون قوالب خاصة مكتوب عليها (كل واشكر) وكان من اهم مظاهر الاحتفالات بالعيد وفي القرن 19 انتقلت صناعة الكعك والمعمول إلى البيوت وأصبحت تعد من الحلويات المعدة للعيد.

أما الحلويات الشرقية المحشوة بالفستق فكان أول ظهور لها في العهد الأشوري بشكلها البدائي وهي عبارة عن رقائق عجين محشوة بالفواكه المجففة والمكسرات بالعسل وقد اشتهر أهل حلب بصناعتها إضافة إلى الكرابيج المحشوة بالجوز والفستق والمغطاة بالناطف وهي ليست من أصل تركي نهائيا. ولكنها انتقلت إلى تركيا من حلب.

يبدأ العمل أيضا بتنظيف البيت ويشارك بها كل أفراد الأسرة لأنها تشمل تنظيف الأرض والسقوف والشبابيك وغسل الستائر والشراشف وكل شيء داخل البيت تقريبا وخارجه حتى يصبح جاهز الاستقبال المهنئين بالعيد

 ومن عاداتهم ألا يلقون الماء الساخن على الأرض كي لا تصيب الجن وفي حال اضطرارهم لهذا عليهم أن يستأذنوا منهم (دستور يا أسيادنا) ولا يرشون أحد بالماء لأن رش الماء يسبب الفراق 

توضع في منتصف المضافة طاولة مليئة بأطباق حلوى العيد وإلى جانبها أطباق الناطف والسكاكر وحلوى الحلقوم وفي ركن المضافة منقل نحاسي متوهج بلونه الأصفر وبجمرات الفحم المتقدة وقد غرس إلى جانبه منصب القهوة العربية السادة.

وفي ليلة 29 ينتظر الجميع البشرى القادمة من المساجد لإثبات عيد الفطر المبارك، فتبدأ مدافع العيد بإطلاق طلقاتها الواحدة والعشرين قبل العيد بيوم ابلاغا بانتهاء شهر رمضان وحلول العيد، ليأتي وقت دفع زكاة الفطر وسميت بهذا الاسم لارتباطها بالإفطار فهي تدفع عند غروب آخر يوم من رمضان ويمكن إخراجها قبل العيد بيومين وآخر موعد لها قبل صلاة عيد الفطر.

زكاة الفطر تطهير للنفس وجبر لكل نقص حصل في رمضان وطعمة للمساكين وجبر خواطرهم لأنها تدخل الفرحة إلى بيوتهم وقلوبهم فلا يكون العيد لفئة من الناس دون غيرهم إضافة إلى أنها تزيد التكافل الاجتماعي بين الناس في المجتمع يخرجها المعيل عن كل فرد من أفراد عائلته وهي مبلغ مادي تقدره وزارة الأوقاف. فترى الناس قبل العيد يبحثون ويسألون ويدلون بعضهم على بيوت الفقراء والمحتاجين والمتعففين والأسر المنكوبة لتصلهم زكاة الفطر وتدخل لبيوتهم فرحة العيد. أما اليوم فتنتشر الجمعيات الخيرية التي تقوم بدور البحث عن المحتاجين وتقوم بتنظيم سجلات خاصة لكل عائلة ويقومون باستقبال صدقات الفطر من الأغنياء اما باليد مباشرة أو عن طريق الايداعات البنكية ومن ثم تسليمها للمستفيدين عن طريق رسائل نصية ترسل لهم للتوجه لأقرب مركز للجمعية وموعد التوجه أو التسليم. وبهذه الطريقة يتم حفظ كرامة المحتاج المتعفف والتخفيف من أعبائهم وتأهيلهم لاستقبال العيد بفرحة وانشراح.

 

 

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت