"اليوم ماتت قضية، وكريم
في حَبْسِهِ
على سَريرِهِ
يَقْبِضُ على روحِهِ، يقولُ فيها
كلاماً جميلاً
يَتَذَكَّرُ رائحَتَها في الزيارةِ الأخيرةِ
يَتَسَلَّلُ
في تَجاعيدِ وَجْهِها وَيَلْعَنُ شُهورَهُ المُتَبَقِّيَّة.
هذا جزء مختار من نص كتبه الأسير ناصر أبو سرور، في نعي والدة رفيق دربه الأسير كريم يونس، التي رحلت بالأمس عن 88 عاماً، في قرية عارة داخل أراضي 48،
ويصف المقطع النزر اليسير من حزن سيكابده عميد الأسرى الفلسطينيين في محبسه، بعد أن فجع بنبأ وفاة والدته صبحية، قبل أن يتمكن من معانقتها خارج المعتقلات، حيث ينتظر الإفراج عنه في الـ5 من كانون الثاني / يناير2023، بعد نحو 40 عاماً قضاها في سجون الاحتلال.
"الناس يشيب شعرها، ولكن شاب الدمع في عيوننا يما
يا يما ما زال خنجر السجن في ظهورنا
رحمة الله عليك يا أمي
هذه اللي انتظرت وانتظرت وطال انتظارها
وفارقت الحياة وانتقلت إلى الرفيق الأعلى
رحمة الله عليك"
وبهذه الكلمات، ظهر الأسير محمود جبارين في تسجيل مصور يعود للعام 2018، وهو يقف باكياً عند قبر والدته، التي توفيت قبل أن ينال الحرية من سجون الاحتلال بثمانية أشهر، بعد قضائه حكماً بالسجن دام لـ30 عاماً.
يذكر جبارين أنه وفي ذلك اليوم، توجه في أول زيارة له خارج السجن إلى المقبرة التي تحتضن ضريح والدته، ووقف عند قبرها وودعها، ورغم أن الاستقبال الذي أقيم لحريته كان مهيباً، وشارك به المئات من أبناء مسقط رأسه أم الفحم وغيرها من البلدات الفلسطينية داخل أراضي 48، إلا أن هنالك من كان غائباً، وهو وجه أمه.
ويقول لوكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية "وفا": الأم تعتبر كل شيء، وغيابها فجأة ينزل كالصاعقة على الإنسان، ودفنها دون وداع يجعل منها مسألة صعبة للغاية لا يمكن وصف حجم ألمها. نعلم أنه قدر سيصيب الجميع داخل السجن أو خارجه، ولكن في سجون الاحتلال لا يسمح لأي أسير أن يودع أمه أو يقبلها للمرة الأخيرة أو أن يشارك في جنازتها ودفنها".
المسألة بالنسبة لمحمود جبارين قاسية لا يمكن أن توصف، ورحيل أحد أفراد الأسرة يزداد صعوبة في حالة الأسير الذي يقطع شوطاً طويلاً من حكمه في المعتقلات، كما أصاب الأسير كريم يونس.
يضيف: "ما أصابني أصابه. بعد 30 عاماً من السجن توفيت أمي قبل أن ينتهي حكمي بنحو 8 شهور، ولكن أنا علمت بموتها بعد 3 أيام، حيث وعند العدد الصباحي الذي يكون عادة عن الخامسة والنصف صباحاً، قال لي أحد السجانين إن محامياً في انتظار لقائي. اعترتني الحيرة من هذه الزيارة لاسيما توقيتها، وحين خرجت للقاء المحامي نقل لي خبر رحيل والدتي، فطلبت منه أن يتم دفنها واستقبال المعزين، فتفاجأت بقوله إنه تم دفنها قبل يومين".
ورغم تدخل أعضاء كنيست عرباً ومؤسسات حقوقية للمطالبة بخروجه للمشاركة في الجنازة أو إلقاء نظرة الوداع، إلا أن سلطات الاحتلال رفضت ذلك.
"الأم كنز كبير تمنيت أن أقبل قدميها ومن ثم يوارى جثمانها الثرى، ولكن هذا القدر" يتابع الأسير المحرر محمود جبارين.
في المعتقل حسب ما قال، لا يقع الظلم والعذاب والمشقة على الأسرى وحدهم، بل يطال ذويهم، فالراحلتان والدته ووالدة كريم تكبدتا الكثير من العناء في الزيارات على مدار 3 أو 4 عقود، يتوجهن مرة كل شهرين لسجن في الجنوب أو آخر الشمال لرؤية أبنائهن لعدة دقائق ومن خلف زجاج، في قيظ الصيف وقرّ الشتاء ودون أدنى معاملة إنسانية من قبل الاحتلال وسلطاته، ومن ثم يأتي الفقد. كم هو صعب.
ويعتقد أن أسرى الداخل الذين يحملون "الهويات الزرقاء" يطالهم عذاب أكثر، فعندما يزج بهم في سجون الاحتلال دفاعاً عن القضية الفلسطينية ولرفع الظلم عن الشعب ووقف تدنيس المقدسات، يتم تجريدهم من كافة الحقوق التي تشتمل عليها ما تسمى بـ"المواطنة"، ومنها الحق في الخروج من السجن للمشاركة في جنازات الأقارب من الدرجة الأولى.
وتعقيباً على ذلك، تقول مديرة مؤسسة الضمير سحر فرنسيس، إن حالة كريم يونس وغيره من الأسرى ممن فقدوا أحد أفراد أسرهم وهم في الأسر، تبرز الشكل العنصري والتمييز الذي على أساسه تتعامل إدارة السجون مع المعتقلين الفلسطينيين، مقارنة مع معتقلين إسرائيليين داخل السجون.
وتقول فرنسيس، إن كريم يعد "مواطناً إسرائيليا" بموجب قوانينهم، ولكن لأن تصنيفه كمعتقل أمني، يخضعه ذلك لمعايير وإجراءات أكثر تشدداً وعنصرية، وهناك جزء من ممارسات النظام التي تعكس سياسات الفصل العنصري والابارتهايد المتّبعة.
وتشير فرنسيس إلى العنصرية والتعامل بازدواجية في الحقوق لمن هم على نفس مستوى "المواطنة" في إسرائيل، حيث إذا تمت مقارنة الحقوق اللي تدعي إدارة السجون أنها تمنحها للأسرى الفلسطينيين، سنجدها أقل بالمقام الأول، وأكثر تعقيداً من حيث إمكانية التحصيل، مقارنة بتلك التي تمنح لمعتقلين إسرائيليين، حتى لو أدينوا بمخالفات متشابهة.
ويشمل ذلك، الخروج في إجازة شهرية أو طارئة بعد قضاء ثلثي مدة الحكم، أو استقبال الزيارات العائلية، أو استكمال التعليم وإجراء مكالمات هاتفية، وغير ذلك.
وتتابع المحامية سحر فرنسيس، لا توجد في معتقلات الأسرى الفلسطينيين هواتف عامة كي يتمكنوا من التحدث مع ذويهم بشكل يومي ، فما بالك بباقي الحقوق التي يتم حرمانهم منها لدواعٍ أمنية.
ووفقاً لها، فإن إسرائيل لا تكتفي بعقوبة السجن التي تفرض على الأسرى، بل تلجأ إلى منعهم من الرعاية الصحية والتعليم والعلاقة مع الأهل وزيارات المحامين، وما إلى ذلك من تعقيدات تشكل بحد ذاتها عقوبات إضافية تفرض على الأسرى الفلسطينيين في السجون.
وتضيف: "السجناء الإسرائيليون يسمح لهم بالتوجه لزيارة أهلهم مرة كل شهر أو كل شهرين، لفترة تتراوح بين 24 و 48 ساعة، وهذه مدة كافية للتوجه إلى الطبيب للحصول على استشارة إذا ما كان يعاني من ظرف صحي، ولكن في حالة الأسير الفلسطيني، فهناك الكثير من التقييدات التي تفرضها إدارة السجون بما يحول دون تلقي الرعاية الطبية اللازمة أو الحصول على استشارة من أطباء فلسطينيين لأنهم يمنعون من الدخول إلا بعد اجتياز جملة من الإجراءات غاية في التعقيد".
وتشير إلى أن إسرائيل لا تحترم الاتفاقيات بالمجمل ولا توقر الحد الأدنى من معايير المعاملة اللائقة للأسرى التي ينص عليها القانون الدولي خصوصاً قوانين حقوق الإنسان، وإذا ما اعتبرنا أن اتفاقية جنيف والقانون الدولي الإنساني لا يتناول الكثير من التفاصيل وإنما تكتفي بطرح المبادئ الواجب احترامها بشكل عام، نجد أن دولة الاحتلال لا تحترم الاتفاقيات التي تم تطويرها لاحقا، كالحد الأدنى للتعامل مع السجناء، وغيرها من التوصيات القانونية والإنسانية في هذا الإطار.
وتنوه مديرة مركز الضمير إلى أنه وفي حالة الأسير كريم يونس، بحكم المؤكد كانت الإجابة أن "الوضع الأمني" يجعل من مسألة إطلاق سراحه ولو مؤقتا لوداع والدته أمراً مستحيلاً، إذ أنه لا يمكن توفير العدد اللازم من الجنود لمرافقة الأسير لكي يتمكن من المشاركة في جنازة والدته، بداعي أنها تقام في قرية فلسطينية يتطلب الوصول إليها المرور ببلدات فلسطينية أخرى، وهذا يستدعي توفير المئات من عناصر الشرطة خشية أن يقوم بالفرار.
وتقول: "الذرائع الأمنية دائماً حاضرة، ونذكر ما حصل مع القيادية في الجبهة الشعبية خالدة جرار، حين حرمتها إدارة سجون الاحتلال من وداع ابنتها سهى، وشمل ذلك رفض مقترح تقدمت به هيئة شؤون الأسرى والمحررين، يقضي بنقل الجثمان إلى سجن "عوفر" للسماح لوالدتها بإلقاء نظرة الوداع عليه.
ويؤكد مدير مركز الدفاع عن الحريات والحقوق المدنية "حريات" حلمي الأعرج، أن الاحتلال يرفض إطلاق سراح الأسير الفلسطيني حتى لو كان على فراش الموت، ويمعن أكثر في معاقبته باحتجاز جثمانه إلى أن ينهي فترة حكمه.
ويشدد على وجود فوارق ترتقي إلى مستوى التمييز العنصرية ما بين الأسرى الفلسطينيين والمعتقلين الجنائيين اليهود، الذين يتم إلقاء القبض عليهم على خلفية أمنية على أو على خلفية جرائم بحق الفلسطينيين.
ويقول، إن الفئة الأخيرة تتمتع بحقوق كاملة، لها علاقة بالزواج وبالزيارات وبالخروج لرؤية الأهل، بالإضافة لخروج للجنازات الأقارب من الدرجة الأولى والمشاركة بها، بما يتضمن أصحاب الأحكام العالية، أما الأسير الفلسطيني، فمحظور عليه ذلك بحجج وذرائع أمنية.
ويؤمن الأعرج أن سلطات الاحتلال تحاول ترسيخ ما يسقط حقوق للأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال، وأنها لا تنظر للفلسطينيين إلا بشكل فوقي تميزي، وللأسير باعتباره "إرهابيا" يخضع لعقوبة السجن.
ومن هذا المنطلق وفقا للأعرج، لا يمكن أن تنتظر من الاحتلال أن يمنح الأسير حقاً إنسانياً في لحظة حرجة عندما يفقد أحد أفراد أسرته ليلقي عليه نظرة الوداع، كما هو الحال مع كريم يونس الآن، ومن قبله القيادية خالدة جرار التي فقدت اثنين من أفراد أسرتها خلال فترتي اعتقال لدى سلطات الاحتلال، ابنتها سهى في تموز / يوليو 2021، ووالدها في آب / أغسطس 2017.
ويتابع: "نحن أمام حالة من التمييز العنصري المغلفة بوسم أسيراتنا وأسرانا بالإرهاب، ولذلك يحظر عليهم هذا الاحتلال اعطائهم أي من الحقوق الإنسانية الأساسية، وبموجب ذلك يتم رفض الطلبات الخاصة التي تقدم ليتمكن الأسرى الفلسطينيون من المشاركة في جنازات أحد أفراد أسرهم".
وتتحدث القيادية في الجبهة الشعبية الأسيرة المحررة خالدة جرار، عن شعور القهر الذي ينتاب الأسيرات والأسرى الذين يتلقون خبر فقدان أحد أفراد الأسرة خلف أسوار السجن.
وتقول: "لا يسهل وصف الشعور والألم الذي يتبع الفقدان، هو قهر مضاعف، حيث لا يسمح لك بالمشاركة في جنازة ولا بإلقاء نظرة وداع أخيرة، فتصبح وبدل أن تصبح متلهفاً للخروج للقاء الأحبة يتحول ذلك إلى شوق لزيارة ضريح أحدهم، وهو إحساس يتعاظم كلما اقترب موعد الإفراج".
تلقت خالدة جرار خبر رحيل ابنتها في اليوم التالي لوفاتها، وشكل ذلك لها صدمة وحزناً، ولكن الألم الأكبر ينبع من الحاجة للمكابرة أمام السجّان، وهذا يقود لحالة من العجز، ففي اللحظات التي تتمنى أن تكون متواجداً فيها بجانب العائلة للتشييع والوداع، تجد نفسك أمام موقف يتطلب منك التماسك وإبداء الصلابة، كما تقول.
لم يتملك خالدة جرار أي أمل في أن توافق سلطات الاحتلال على طلب المحامين بالسماح لها بالمشاركة في جنازة ابنتها أو إلقاء نظرة الوداع على جثمانها، رغم أن حكمها كان يفصلها عن موعد الإفراج شهران ونصف الشهر، فحتى المشاعر الإنسانية لا يعرفون لها طريقاً.
وتضيف، أن المحامين حاولوا تقديم طلب إما لإطلاق سراحي للمشاركة في الجنازة، أو لإحضار جثمان سهى لمعتقل "عوفر" لإلقاء نظرة الوداع عليه، وأنا كنت على يقين بأن إدارة سجون الاحتلال سترفض المقترحين لأنها تكون معنية بإيقاع المزيد من الألم بشكل يكشف مستوى حقدهم".