قصص من النكبة

بقلم: المتوكل طه

  • المتوكل طه

**************************

طفولة المخيّم

 

حدّثني صديقي فقال: كنا نسوح في أزقة المخيّم، ونعود بعد أن يغلق أبو العبّود المقهى ويغلق التلفاز، وغالباً تكون الأزقّة معتمة بعد أن حطّم الصبيانُ أضواءَ الأعمدة بحجارتهم، كأنهم لا يريدون أنْ يروا مأساتهم المرنّقة بمياه الصرف الصحيّ وضيق المكان وتداخل البيوت.

وغالباً ما نسمع شخير بعض النائمين أو حتى غطيطهم الخفيف، إذا كنا نمشي صامتين، وفجأة نتوقّف لنتبيّن تلك الصرخات الضعيفة التي توقظ فينا المتعة الشريرة، فنقترب من مصدر الصوت ونصيخ السمع.. فإذا بنحيبٍ ورجاء مكتوم وتأوّهات وغنج يفيض من ذلك الشبّاك، فيتسمّر الفتيان، ويحاول بعضهم أن يأتي بتنكة أو حَجَر ليصعد عليه ويستطلع الأمر من بين شقوق الشباك المتهالك، ويبحلق وتضطرب أنفاسه، ونحاول أن نقفز معه لنرى المشهد، لكنه يصرّ على البقاء، ولا ينزل عن عليائه إلّا وقد تبّلل سرواله من الاهتياج.

ويضيف: كانت وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين قد أقامت حمّامات مشتركة في المخيم، فجعلت يومي الاثنين والثلاثاء لاغتسال النساء، وباقي الأيام لاغتسال الرجال. والمشكلة التي أدركناها بعدما كبرنا؛ ماذا إذا نام الرجل مع زوجته في ليلة لا يوجد بعدها يوم لاغتسال الرجال؟

ويجيب: كانوا يتيمّمون.. ويضحك!

***

وأردف: لطالما وزّعت وكالة الغوث البُقَج على اللاجئين. فقد كانت توزع أكياساً من القماش على كل أُسْرة في المخيّم، فيها ما تيسّر من ملابس وأحذية، مرّة في الصيف وأخرى في الشتاء.

كانت الأُسر تتبادل فيما بينها الملابس تبعاً لمقاسات أبنائها، وكان الجميع يطير جذلاً إذا ما فاز بقميص أو سترة أو سروال، وتكون فرحته أعظم إذا وجد حذاء ينتعله فيقيه شرّ البرد أو الحصى أو ما يجرح القدمين. وصدف أنْ وجدت أُمّي في البقجة حذاءً نسوياً ذا كعبٍ عالٍ، فخلعتْ الكَعْب ودفعت لي بالحذاء، فغضبت شقيقتي! فانتعلتُه ورُحتُ أتبختر به بين أترابي، الذين لم يميّزوا النعل الذكوري من الأنثوي!

 وهذا ذكّرني بتلك المسيرة ، التي ارتدى فيها الرجالُ أحذيةً نسائية ، تضامناً مع النساء في آوروبا ! فقلتُ ؛ لعلّ في الأمر نكبة ..

***

قلت له: احكي لي عندما أكلتَ وحدك غداء الضيوف!

انفرج فمه، وسرح بعيداً، وقال: لم نكن نتناول اللحمة إلاّ في الأعياد، أو عندما يمرض أحدنا.. وكنّا ملهوفين ودائمي الجوع. وفي يوم عدتُ من المدرسة ودخلتُ إلى الصالون، فوجدت الأرض مفروشة بمشمّع نايلون، وفوقه سِدر مقلوبة، وحوله صحون سَلَطة ومخلّل ولبن رائب، فجثوت لأتذوّق فقط! ودقّ سِنّي، فرحتُ آكل وآكل.. حتى أتيتُ على الدجاجتين وكيلو الرّز والباذنجان، مع السَلَطات واللّبَنات.. فدخل أبي مع الضيوف.. ولماّ رأوا المشهد ضحكوا، فلحقني أبي يطاردني بعِقاله يضربني به.. فمسكه الضيوف.. وهربت!

وماذا أكل الضيوف؟

قال: فقسَتْ لهم أُمّي عدداً من البيضات مع زيت الزيتون، وصحن لبنة مكبوسة، وتطلي، ورُبّ بندورة مطبوخة.. من حواضر البيت يعني، ومع إبريق شاي.. وكفاها الله!

***

في إحدى الليالي، سمعت أُمّي تعاتب أبي بحنان: لماذا ضربتَ الصبيّ؟ لقد أدميْته يا رجل!

قال والدمع في صوته: يا مستورة، ليس معي قرش واحد! ومنذ شهرين لم أجد ورشة تشغّلني، ولم أعمل يوماً.

 ولطم وجهَه فبكت أمّي، وبكيتُ أنا.. وما زلتُ أبكي!

***

قال لي: هل تعلم؟! عندما طردتنا العصابات الفاشية من بيوتنا، وتشرّدنا، أقاموا لنا بيوتاً من الزّنك والشوادر، عشوائية.. وبعيداً عنها بنوا حمّامات للرجال وأُخرى للنساء.. جَماعيّة! وعندما كانت أُختي الكبيرة تزحم في الليل، كنتُ أحمل لها الإبريق، وأنتظرها أمام المراحيض، فاحتجّت النساء، لأن صبيّاً يراقبهن وهن خارجات. أمّا اليوم، حمّامات ورخام وبلاط صيني وحنفيّات ومحارم تواليت.. واللّه عِزّ!! وحفّاظات قُطن بدل الشرايط وأكمام القمصان المهترئة والمَسامِك...

***

وسألني صديقي: هل تعرف ما هي الجاروعة؟ قلت: نعم، هي البعارة أو التبعير أو التصيّف.. وضحكنا.. وضحكنا، ثم قلنا معاً: الّلهم اكْفِنا شرّ هذا الضحك!

والجاروعة أيامٌ تتبعُ مواسم القطاف، حيث كان فلاحو القرى المجاورة لمخيّمنا، وبعد أن ينهوا جَمْع ثمار الخضروات أو قطف بيارات البرتقال أو جَدّ أشجار زيتونهم، يتركون لأبناء المخيم المجال لأنْ يدخلوا إلى حقولهم ليقطفوا ما تبقى أو ما تُرِكَ في أعالي الشجر من حَبّ وثمار أو ما تساقط منه على الأرض.

وكثيراً ما كنّا نعود إلى المخيم، وعلى ظهورنا أكياس مليئة بالخضار أو الفاكهة، خاصةً في موسم البطاطا أو الليمون أو اللوز.

***

.. وما زلنا نتلاقى، ولم أعد أستمع إليه، لأنّه صار سياسيّاً.

 والسياسيون مثل القرود؛ إذا تزاعلوا أفسدوا الزرع، وإذا تصالحوا أكلوا المحصول!

 

 

 

******************************

***

 

البدلة

.. ومات أبو فيروز، ذلك الرجل الذي جاء جريحاً وحيداً إلى قريتنا، عشيّة النكبة، فقد وقعت قنبلةٌ على اللاجئين الذين خرجوا من سكنة درويش قرب يافا، هرباً من المذابح، فَفَقد أبو فيروز سَمعَه، إذ فجّر قيزان القنبلة طبلتيْه، مثلما مزّقت عائلته برمّتها.

كان لأبي فيروز بدلة سوداء، تبذّ أيّ طقم رسمي أو "تاكسيدو" يتزيّا بها المشهورون من نجوم السينما ورجال الأعمال، وكانت القرية تحسد أبا فيروز على بدلته، التي يحرص عليها حرصه على حياته!

كان يعلّقها على مسمار الحائط، بعد أن يلفّها بشرشفٍ حتى لا يظهر منها شيء، ويلفّعها خوف الغبار والشمس، ولا يلبسها إلا في الأعياد وفي بعض الأعراس.

حاول بعض العِرسان أنْ يستعيروا البدلة، فرفض أبو فيروز، وغضب، كأنهم يريدون استعارة زوجته!

وبعد أنْ دفنوا أبا فيروز، اجتمع رجال القرية، فشكّلوا لجنةً لحَصْر تَرِكة الرجل واستلام بدلته.. غير أنّهم اختلفوا على مَن سيرثها!

وفي النهاية استطاع مختار القرية أن يحسم الأمر، وتكون البدلة في عهدته، فهو لا يلبس البدلات، بل الديمايات والقنابيز، وأولاده قد تزوّجوا، وستكون البدلة بمثابة نفر من سكان القرية، يحرص عليها ويحرسها.

واتّفقوا على أنّ كلّ عريس يستطيع أن يستعيرها يوم زفافه، شرط أنْ يحافظ عليها.

والمفارقة أن مَن كان ضعيف البنية قد ظهرت عليه البدلة فضفاضةً، واضطر أنْ يبحث عن حزامٍ جلدي ليشدّ به خَصْر البنطال، حتى لا يسقط على قدميه.

وربما تردّد المختار لأن يعيرها لمَن كان سميناً، خوفاً من أنْ يفتقها أو يفختها أو تتمزّق بين إليتيه، ما خلق عداوات جديدة للمختار، وجعل الاتهامات تنهال عليه، بدعوى التحيّز وعدم العدل.

 بعد بضع سنوات، فَقَدت البدلة رونقها، وتفسّخت خيوطها، وكلَحَ لونها، وبدَت عليها تلك البقع الملطوخة على صدرها وفخذيها، وتهلهلت، ولم تعد تصلح للعرسان.

عقد المختار اجتماعاً لرجال القرية، وقد أحضر البدلة وعرضها عليهم، محاولاً إقناعهم بأنها أدّت واجبها وآن الأوان لأن تستريح.

أين ستذهب البدلة؟

تعدّدت الآراء واختلف المجتمعون، وانقضى النهار دون أن يتوصّلوا إلى قرار، فأرجأوا الاجتماع لليوم الثاني، ولم يتّفقوا، فمدّدوا مؤتمرهم لليوم الثالث، فالرابع.. وفي اليوم الخامس توافقوا على أنْ يحملوا البدلة إلى متحف المدينة، لعرضها هناك، مع شرحٍ مكثّف معها، باعتبار أنّها قدّمت خدماتٍ جليلة للناس، وأنّها ما تبقّى من يافا، ومن رائحة البلاد!

ذهب المختارُ برفقة ثلاثةٍ من رجال القرية، وقد حملوا البدلة بحرص واهتمام، وقصدوا المتحف.. فاستقبلهم المدير وتسلّمها!

وما كاد المختار ومَن معه يخرجون من البوابة، حتى أمر المديرُ عاملَ النظافة في المتحف بأنْ يُلقيها في سلّة المهملات.

******************************

وجه غريب

 

لم تكن أراضي بلدتنا بعيدة عن تلك المستعمَرة، التي أقامتها العصابات الصهيونية، وأطلقت عليها اسم المُوشاف الجديد.

كان الموشاف قد تضاعفت أكواخه الحجرية وبيوته التي أقامها هؤلاء الغرباء، وراحوا يُسَيّجون حولها بالأسلاك الشائكة والأشجار الحرجيّة. غير أنّ بستاننا الممتد الكبير يقع بمحاذاة الموشاف مباشرة، فكنت أرى سكان البيوت القريبة وهم يدخلون ويخرجون، وصدف أن كانت صبية سمراء فارعة الطول تقطن أحد تلك البيوت، فكنت أطيل النظر إليها وكانت تلحظ نظراتي.. وشيئاً فشيئاً صرت ألوّح لها إلى أن استجابت لنداءاتي البعيدة، فاقتربتْ من السياج، وتسلّلت منه وجاءتني.. فإذا بها مهاجرة يمنيّة تتحدث العربية بطلاقة.

تواصل عبورها من السياج إلى بستاننا، وتحوّل حوارنا تدريجياً إلى علاقةٍ تعمّقت إلى أن أصبحنا مثل زوجين على سريرٍ واحد.

كانت ترتعش تحت ثوبها، إلى أن تحقّق الكمال. والحبّ ليس نزلة بَرْدٍ تُصاب بها، الحبّ يجعلنا ضعفاء. وقد ملأت خزانة قلبي بقلائدها الساحرة.. تلك الفاتنة الذهبية، التي تعزف الناي دون أن يُلامس شفتيها! فالحبّ شغف، والصداقةُ سَكينة.

 ووقعت النكبة، وانقطعت عنّي تلك اليمنيّة، التي كانت قد تعرّفت عليّ جيداً وتعرّفت عليها، وعلمتُ أنّها تعيش مع أُمّها وأبيها، وأنّ أخاها قد التحق مع عصابات الهاغانا، وأنها عروسة جندي آخر، طالما عاشرها وغاب عنها، لهذا لم تكن تخشى أن تكتمل علاقتي الجسدية بها. ولا يوجد مَن هو صالحٌ.. دائماً.

أقْبِلْ أيها الألم! إننا نرحب بك.

.. وحلّت نكسة حزيران العام 1967، ودهمت العصابات وجيش الاحتلال ما تبقّى من أرضنا! لم أكن أتوقع أنّ تلك اليمنيّة حملت منّي، وأن عريسها قُتل بعد أُسبوعٍ واحدٍ من آخر لقاء جمعنا معاً.

كنتُ في دكّاني أبيع الخضروات والفاكهة، وكنت قد تزوّجتُ، ونسيتُ تلك المرأة، غير أنّ وقوفها أمامي بعد شهور من نكسة حزيران قد أعادني مرة واحدة إلى ما كُنّا عليه من تواصلٍ في ذلك الكوخ، الذي يتوسّط بستاننا. لم أعرفها بداية الأمر، وحسبتها زبونة، فإذا بها تسلّم عليّ وتعيدني إلى تلك الذكريات، وقد صعقتني عندما أخبرتني أن ابنها الوحيد هو من صُلْبي!

أنكرتُ الأمر، وحسمتُ ذلك الحوار المخيف بأن أكّدتُ لها أنني لم أعرف امرأة غير زوجتي، وأنها تتوهّم علاقةً مع عدوٍّ لها لا يمكن له أنْ يُعاشر مَن تحتلّ أرضه.

ذهبتْ، وحسبتُ أنَّ المسألة قد انقضت.. غير أنّ الحاكم العسكري قد جاء بقوّة عسكرية طوّقت دكّاني، وقاموا باعتقالي.

بعد أُسبوعٍ من الاعتقال والتحقيق، أعلمني الحاكمُ العسكري أنه قد تمّ اتخاذ قرار بإبعادي خارج الوطن. وأضاف أن قصة تلك المرأة غير حقيقية، وحذّرني من أن أنبس بكلمة واحدة عن علاقتي تلك بها.

لم يكن أمامي غير أنْ أطفق في بلاد الله وأسعى في مناكبها، إلى أن حَطّتْ راحلتي في السويد، حيث الجبال الضبابية والمطر الحارق! وكم كان حنيني إلى تلك النسمة الّلعوب! التي كانت تُؤَوِّب في جنبات بستاننا في الفصول المتتابعة.

 وبعد ثلاثين عاماً، حملتُ نفسي وقصدتُ زيارة بلدي وأهلي، وبإمكاني العودة بوساطة جواز سفري السويدي. وهبطتُ، وقلبي يخفق شوقاً، يسابق خطواتي نحو الوصول إلى البيت والحارة.. وفي بهو مطار اللد، وعند نقطة فحص الجوازات، رأيت ضابطاً يكاد يكون نسخةً منّي! فتوجّهتُ إليه وسألته: ما اسم أمّك؟ استغرب الضابط سؤالي وظنّ بي الجنون، فتشاغلَ ولم يجبني. غير أنّ الغمّازتين اللتين كانتا على وجه تلك المرأة أكاد أجزم أنهما انتقلتا على خديّ ذلك الضابط .. غير أنّ نساءهم يضعن أطفالاً على جلودهم بقعةُ دمٍ تُشبه الوَحْمة التي لا تزول، وظننتُ أنّ هذا الضابط قد ولد دون بقعة، أو ربّما كانت وحمته على صدره، تحت قميصه!

حملتُ حقائبي وقصدتُ الخروج من معبر التفتيش إلى خارج مبنى المطار، فوجدت الضابط قد لحق بي، وسألني: لماذا سألتني عن اسم أمّي ؟! قلت له: لأنك تشبهني! فأجاب سريعاً بلهجةٍ عربيةٍ يمنيّة مكسّرة: أنتَ غلطان، أنا لا أشبهك ولا أشبه أحداً من قومك، انصرف واخرس! وإلّا أعدتُكَ من حيث أتيت.

 

 

 

 

 

 

أولاد عمّي صابر

 

أشقاء؟ كيف؟

أوقفهم الشرطيّ، بعد أن قَلّبَ وثائقهم وجوازات سفرهم، وحَضرَ الضابط المناوب، وطلب منهم أن يتبعوه إلى مكتبه!

كيف يكون هذا يا سادة؟!

قال سلام : نحن أشقاء من أب وأمّ، لكني بقيت في الضفّة الغربية، ومن الطبيعي أن أحمل جواز سفر فلسطيني دبلوماسياً، فأنا مدير عام الوزارة. أما عادل فهو شقيقي الذي التحق بالجامعة الأُردنية في بداية السبعينيات، وبقي في الأردن، وظلّ يحمل الجواز السفر الأردني مع رقم وطنيّ. ويَمان هو شقيقنا الأوسط الذي تخرّج من جامعة بيرزيت، وتعرّف مع بداية الثمانينيات إلى زوجته المقدسيّة، واستطاعت أن تضمّه وتلمّ شمله معها في القدس، وصار يحمل وثيقة سفر إسرائيلية. ونضال شقيقنا الصغير سافر إلى فرنسا والتحق بجامعاتها، وبقي هناك وحصل على الجنسية الفرنسية.

وكنّا أربعتنا في القاهرة للمشاركة في حفل زفاف ابن عمّنا عائد ، الذي هاجر أبوه إلى مصر بعد النكبة، ويحمل وثيقة سفر مصرية.

نظر الضابط إليهم، وجَمَع وثائقهم في يده، ووقف.. صامتاً!

خرجوا من مكتبه ومعهم جوازات سفرهم، واتّجهوا نحو بوابة ختم الجوازات.. فكان شرطي آخر!

تمعّن في أوراقهم، وتصفّح جوازاتهم، ثم رفع سماعة الهاتف.. واتّصل!

ويبدو أن ضابطاً ثانياً قد تلقّى الاتصال، فحضر من فوره، وساقهم إلى مكتبه، واستمع إلى حكايتهم مرّة أُخرى.. وبالتفصيل. وبعد أكثر من ساعتين، تمكّنوا من ختم جوازات سفرهم، لكنّ الطائرة التي كانوا سيستقلّونها.. قد أقلعت.

 

******************************

نخلة الغريب

هنا تلّة "ظَهر الجّاجة"، ما زالت على حالها! وذلك هو"واد الخبّيزة" كما هو، ندبة غائرة وسط هذا السّهل الممتد! وهذه الطريق كانت ترابية ضيّقة، أما الآن فهي شارع اسفلتي عريض. إذاً، سأعرف كيف أصل إلى بيتنا؛ خلّيك دُوغري، لا تعرّج يميناً أو يساراً، امشِ، تمهّل، كان هنا سور المدرسة، وخلفه الصَبْرات..آه، إذاً، عَرّج يميناً، وابقَ على نفس الخطّ مئة متر، آه.. نعم! هنا كانت الساحة، وهناك صفّ الدكاكين والجامع.. توقّف، واذهب يساراً، وواصِل السّير، لمسافة مئتي خطوة تقريباً، ثم توقّف.. نعم.. واصل.. توقّف! توقف! هنا كان بيتنا.. آآه.. وهذه هي النخلة التي كانت تتوسّط حوش الدّار.. إنها هي.. إنها هي..والطريق المستقيمة هي أحياناً الطريق الملتوية.

هبط من المركبة، وأطلق ساقيه مثل طفلٍ يطارد طائرته الورقية، أو طائرٍ صغيرٍ يحاول الصعود.. وعانق النخلة، وجال بعينية حولها وفي المكان.. فلم يَرَ أثراً لقريته التي هدّموها، وجعلوها سهلاً وسيعاً، تشقّه الطريق الإسفلتية وطرقٌ فرعيةٌ ترابيةٌ أُخرى، فيما تتشكّل الحقول من مربعات كبيرة متراصّة بمزارع القُطن الممتد إلى البعيد.

زاغ وارتبك وتلعثم، وجهده العَرَق، واضطرب، فلم يعد يعي هل تهرّ دموعه فرحاً على أنه عاد ليزور قريته، التي تركها وهو ابن إحدى عشرة سنة، أم حسرةً على أنها بادت ولم يعد ما يشير إليها!

أشعل سيجارةً، ونسي أنّ لفافة أخرى بين إصبعيه، فألقى بالسيجارة الأولى، وراح يمجّ نار الثانية، ثم راح يتحدّث، كالممسوس مع نفسه.. وفجأة ركع على ركبتيه وراح يلطم ويصيح، وينادي بأعلى صوته: يا الله ! فيتصادى نداؤه المشروخ بين أشتال القطن، وفي أفق تلك الظهيرة الناغرة.. ثم هدأ قليلاً، وأشعل سيجارة ثالثة أو رابعة.. وجلس واستند بظهره على جذع النخلة، وعيناه تتراقصان اضطراباً، فيما يحرّك رأسه، هكذا، دون تركيز، كأنه ينظر في الجهات، وهو موزّع الأهواء، طائش الرؤية، منفعل الملامح.. وجهه كالزّهرة الحمراء، ولسانُ حاله يقول: أنتِ الأرضُ التي لها ألفُ سماء.

 وكنتُ أقف متكئاً بظهري على المركبة، أراقبة وأتابع ردود فعله.

والحبّ هو مَنْ يتولّى القيادةَ في قلوبنا.

من بعيد، طالعتنا عجاجة تقترب منّا، لتظهر سيارة كبيرة تترجرج على الطريق المتربة، إلى أن وصلتْ حيث نقف، فهبط منها رجلٌ يتمنطق بمسدس، وسار بثقة نحو النخلة، وظهر بيده جهاز اتّصال يخشخش بصوت متقطّع..

مَنْ أنتَ؟ وماذا تفعل بأرضي؟

 نهض صاحبي سريعاً، ووقف، ومازال ظهره ملاصقاً لجذع النخلة، وأجاب: أنا! أرضك؟ يا سبحان الله! ألا تعرف مَنْ أنا؟!

لا.. ما بعرف! شو بتسوّي هُون؟

وَلَكَ هذي أرضي، هنا كان بيتي، وهنا كنتُ ألعب وأنام، وهذي أرضي.. والنخلة زرعتها مع أبي قبل النكبة بعام، وأطلق عليها اسمي..

هههه.. أرضك؟!! اذهب من هنا، وإلاّ..!

وإلا ماذا! أقول لك هنا كان بيتي وهذه نخلتي..

هل يعني أنك ستبقى هنا؟

ساد صمتٌ ثقيل، وتجمّد الرّجلان مكانهما! وفجأة عانق صاحبي النخلة، ملقياً رأسه على جذعها، والدمع يرشح من وجهه.

اتّجه صاحب المسدس إلى سيارته الكبيرة، ثم عاد وفي يديه منشار كهربائي، وقصد النخلةَ، ووضع أسنانَ المنشار على أسفل جذعها، وضغط على كابس التشغيل، فما هي إلاّ ثوان حتى ترنّحت النخلةُ وسقطت، فابتعد الجميع حتى لا تسقط عليه..

وعندما لا ترى إلّا ألَمَك.. ستفقد الرؤيا.

بعد دقائق قليلة، مدّ الرّجل يده واحتضن مسدسه، وهو مكانه، وقال: خُذ نخلتك.. وانصرف من هنا..

والخطيئةُ هي ذاتها.. عقاب.

***

لم يتوقف صاحبي عن البكاء، طيلة ساعة عودتنا إلى المدينة، لكنه كان فَرِحاً لسببٍ واحدٍ؛ لقد عرف الطريق إلى بيته.

والنسيان مثل الغفران، لا يؤسّس لعلاقةٍ جديدةٍ أو جميلة، لكنّه يوقف الألمَ، الذي يلتهمُ البهجةَ ويسلب الرّاحةَ وهدوءَ النّفس.

 

 

*************************

حَبْشين

 

"بيّارته أكبر من البحر"، كانت تقولها لنا أُمّي عندما يأتي يوم العيد، ويسلّم عليها ويعيّدها دون أن تتبدّل ملامحه الحجرية الصارمة، ويخرج مكتفياً بكاسة شاي.

ويبدو أنه ارتخى للنهاية اليائسة، فاستسلم، كمريض، لا يتغيّا الشفاء!

وربما كان يعتقد أن شَجَرهُ مروحةُ الدنيا، وأن بيّارته أغنية خضراء، ولكن الخنازير قد أخذت قالب الحلوى، ولن يرحمه غيرُ هذا الصمت والحرمان اللذين أعطياه الموازنة الدقيقة بين البقاء والفناء، مثلما أعطياه مقاربةً يظل معها شهيداً في بيت عزائه الذي لن يُغلق إلى أبد الداهرين.

***

ربما يبتسم، لكنه لا يضحك ولا تُرى أسنانه! ولم يحضر عُرْساً، ولم يشارك في زفَّة أو سامر. يؤدي يومه بآلية رتيبة، ويجلس في حسبته يبيع الخضار والفاكهة، ويظل صامتاً في ذاته ومشاويره الغامضة الزائغة.

كان لقبه "حَبْشين"، ولا يدري أحدٌ ما معناه ومنْ أطلقه عليه، لكنهم ينادونه بأبي زهدي.

وأبو زهدي الذي كان يملك بحراً من بيارات يافا الممتدة حتى أراضي اللد والرّملة.. هاجر إلى بلدتنا وافتتح حسبته، وحرّم على نفسه أكل البرتقال أو شرب عصيره ما دامت البلاد تحت دياجير الاحتلال.

لكن جار أبي زهدي الذي يعرف أنه يشرب من إبريق الفخّار الموضوع على بسطة الشباك الكبير.. قد عصر كمية من البرتقال، وصبّها في الإبريق رحمةً بأبي زهدي ليتذوق فاكهته التي حرّمها على نفسه!

وكالعادة، مشى أبو زهدي إلى إبريقه، ووضعه على فمه، وكرع جرعةً، ثم ألقى بالإبريق بعيداً، فتهشّم!

نزلت جرعةُ البرتقال إلى أمعاء أبي زهدي كأنها سمٌّ زعاف، فتلوَّى، فحملوه إلى المستشفى، فضاقت أنفاسه، ولم يلبث يومين حتى مات!

 

****************************

 

البغلة في الإبريق

 

لم يخرج من قريته حتى يعرف أن الدنيا أبعد من خط المحراث، لكنه كان يتنفّس مع الجذور التي تقطعت في التراب الذي حَزَّه لتوّه، فيعرف أن الموسم سيكون مائساً وجزيلاً. أما ذلك العام، فقد يبس سطحُ المروج وتثلّم المحراث، وتقرّحت جروح البغلة، بل أخذه النومُ ولم يستيقظ على مدار أسبوع لصلاة الفجر، حتى أنه قال: لقد رأيت مناماً صعباً، ونسيتُ أن أستعيذ بالله من الشيطان، وأن أتفل عن يساري ثلاث مرات... لقد كانت إشارات تؤكد الذي جرى.

***

كان أبو العبد حرّاثاً محترفاً، حتى إنهم قالوا: إن بغلته تفهم عليه، وتشفق على عياله! وفي الشتاء كانت الحراثة وافتراع الأرض يتوقّفان، فيظلّ أبو العبد في جامع "سيدنا عليّ" القريب من الشاطئ شمال يافا خادماً أميناً له، يعبئ أباريقه، ويشطف المتوضّأ والكنيف، ويغلق بوابته ليعيد فتحها قبل التذكير لصلاة الفجر.

وزلزلت الأرض، وانطبقت السماء عليها، وتفشّت شائعات المذابح قبيل النكبة، وغاصت العُصابات في الأرحام والدم والأعراض، فحَمَل أهالي قرية "سيدنا علي" بعض أمتعتهم وذهبوا شرقاً لينجوا بأعراضهم وصغارهم، فوضع أبو العبد ما يملك من جنيهات في خُرْج البردعة وغطّاها بالجاعد، واعتلى البغلة وخلفه ابنه العبد وأمامه ابنته الصغيرة، وسارت أم العبد مع أهلها خلفهم. وما إن وصلوا إلى مشارف  القرى الشرقية حتى باغتتهم العصابات برصاصها المجنون وزعيقها وقنابلها، فتفرّق سرب المهاجرين، وجفلت بغلة أبي العبد، وربما أصابتها رصاصة، فهاجت، فوقع أبو العبد مع صغيريه عنها، وشَرَدت البغلة بما تحمله!!

***

حلّ اللاجئون في المدرسة، ونزل بعضهم عند أقاربه، ثم رحل معظمهم إلى شتات الجهات، وظلّ أبو العبد وحيداً في المدرسة، فقد قَتَل الرصاصُ زوجَته، ومات صغيراه لدى سقوطهما العنيف عن البغلة، على رغم أنهما بقيا على رمق من الحياة لمدة شهر تقريباً قبل أن يدفنهما أبو العبد بيديه!

عمل أبو العبد آذناً وفَرّاشاً دون أجر في المدرسة اليتيمة التي كان ينام في إحدى غرفها، والناس لا تقطع إحسانها ولفتاتها تجاه هذا الثاكل الصموت!

كانت كلمة "البغلة" هي كل ما يردده دون قصد مع نفسه، فيسمعه البعض يرددها، فيسألونه؟ فيقول: لا أدري! فيقولون: ربما في القرية الفلانية أو العلانية، اذهب واسأل، فربما وجدها أحدهم.

يحمل أبو العبد نفسه ويدور في القرى، ويسأل مَنْ يصادف: أين البغلة؟ فيحسبونه معتوهاً أو مجنوناً، فيتركونه ويمضون في شؤونهم، حتى وصل الأمر بأبي العبد إلى أن يُفتّش زواريب البهائم وسقائف الحمير والبغال وحوايط الغنم والبغال، فيظنونه سارقاً، فينهرونه، فيزداد غضباً، وينفجر حانقاً إلى أن راح يفتش الدكاكين والمحلات، فيدخل على أحدهم ويأمره أن يفتح جارور مكتبه أو خزانةً منصوبة في محلّه، وينظر في المرطبانات والأباريق، فيستغربون سلوكه، ويسألونه: عمّا تبحث يا هذا؟!

فيجيب: عن البغلة!

وهل البغلة هنا؟

فيقول: ربما تكون هنا في الخزانة أو هناك في الإبريق.

وما زالت البغلة تركض في السهوب والشعاب والجبال والليل، وما زال أبو العبد يبحثُ في الإبريق

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت