في ذكرى النكبة .. المعركة معركة رواية وارادات

بقلم: كمال الحسيني

  • د. كمال الحسيني *

يحيي الشعب الفلسطيني هذه الأيام الذكرى الأليمة التي أحلت به عام 1948 بفعل جرائم العصابات الصهيونية الوحشية، وما ارتكبته من مجازر مروعة بحق العرب الفلسطينيين، والذاكرة الفلسطينية مازالت  تستعيد فصول النكبة منذ عام 1948 والتي قامت فيها الحركة الصهيونية وعصاباتها الفاشية بارتكاب المجازر الجماعية، واقتلعت وطردت وشردت شعباً بأكمله من أرضه ووطنه، في أبشع جريمة تطهير عرقي عرفها التاريخ الحديث، والتي ما زال شعب فلسطين يعيش آثارها ويتجرع مرارتها حتى يومنا هذا، داخل مخيمات الوطن وفي مخيمات اللجوء والشتات بعيداً عن أرض وطننا فلسطين .

إنها ذكرى النكبة، ذكرى المأساة الإنسانية الكبرى التي يندى لها جبين العالم لذي يدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث اقتلع شعب من أرضه ليحل محله محتلون صهاينة لا حق لهم بالوجود على أرض فلسطين بحكم التاريخ.

تأتي ذكرى النكبة هذا العام في ظل تواصل جرائم الاحتلال الإسرائيلي واستمرار مخططاته الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية، ومحاولاته تقويض فكرة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة بدعم مباشر من الإدارة الأمريكية التي انتقلت من دور المنحاز إلى دور الشريك مع الاحتلال، عبر مسلسل من الإجراءات والممارسات العدوانية والحصار المالي والخنق الاقتصادي، ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية من خلال التنصل من قرارات الشرعية الدولية، في إطار الحرب الشاملة التي يشنها الاحتلال على شعبنا، من قتل وحصار واعتقال ونهب للأرض والاستيطان واستمرار سياسة الطرد والتهجير، في ظل نوايا ومنطلقات حكومة الاحتلال التي يتضح من برنامجها ذلت الوجه العدواني والعنصري لها، في ظل قوانينهم العنصرية وإجراءاتهم المتطرفة والعدوانية، ومخططات الضم التي تحظى بالدعم الأمريكي، وتواصل النهج الاحتلالي العنصري فيما يسمى بقانون " المواطنة " و" الولاء للدولة اليهودية " وقانون "  النكبة " الذي يستهدف أبناء شعبنا في الداخل وثقافتهم الوطنية وانتمائهم الفلسطيني الأصيل، إلى جانب التصعيد الإسرائيلي الهمجي على شعبنا ومواصلة انتهاج النوايا الحقيقية للاحتلال الذي يسعى لتفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها الأصليين وتوسيع المستوطنات استكمالاً لفصول النكبة التي حلت بشعبنا عام 1948 ومحاولة قطع الطريق أمام قيام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967.

إن هذه المأساة مازالت صفحاتها شاهدة على جرائم ومجازر الاحتلال وعصاباته الفاشية المتطرفة التي ارتكبت جرائم منظمة في ذلك الوقت بحماية ودعم وإسناد سلطة وقوات الانتداب البريطاني، فبريطانيا التي تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان والتحضر والمدنية هي السبب المباشر في نكبة الشعب الفلسطيني نتيجة ذلك الوعد المشؤوم من قبل وزير خارجيتها والذي عرف باسم " وعد بلفور " !!

في هذه الذكرى الأليمة، وبعد أربعة وسبعين عاماً عليها ، علينا أن نواصل التحرك على كل المستويات لإلزام بريطانيا بالاعتذار للشعب الفلسطيني والتكفير عن تلك الجريمة التي مازالت شاخصة أمامنا كجريمة بحق الإنسانية، وكنوع من أنواع التطهير العرقي، وعلى العالم، كل العالم أن يقف أمام مسؤوليته لإجبار الاحتلال الإسرائيلي على الامتثال لقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية .

ان ذكرى النكبة ليست مجرد ذكرى عابرة في تاريخ الشعب الفلسطيني وعلى المؤسسات والقوى الفلسطينية كافة أن يكون على جدول أعمالها ما يفيد هذه القضية وما يعزز من مكانة الثوابت الوطنية وترسيخها كثقافة وطنية لكل الأجيال الفلسطينية، وتوريث حق العودة جيلاً بعد جيل إلى أن يتحقق هذا الحق الثابت الذي يشكل رأس الثوابت الوطنية وجوهر وأساس القضية الفلسطينية .

ولا يختلف الفلسطينيون، الذين اقتلعوا من أرضهم، عن غيرهم من البشر، ولهذا سعت الكتابة الروائية والأعمال الكتابية والفنية التي وضعت النكبة أمام عين الحقيقة، إلى تأثيث معمارها الفني بالشخصيات والأحداث اليومية، بما ينسجم مع المادة التاريخية المكتوبة أو الشفوية المروية على لسان الفلسطينيين الذين عاشوا في تلك المراحل التاريخية التي سبقت النكبة، وقد استطاعت الرواية الفلسطينية، وبعض الروايات العربية المكتوبة عن فلسطين، أن تستعيد الحياة المتدفقة في مدن فلسطين وقراها، في سردية مضادة للمقولة الصهيونية التي تتحدث عن أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وكافة المزاعم والأكاذيب الصهيونية الأخرى القائمة على أسس كاذبة، فما هم الا عابرون في كلام عابر.

لمواجهة فصول النكبة وتداعياتها المستمرة وحفاظاً على تاريخ ورواية شعبنا فان معركة الرواية مهمة على صعيد مجابهة رواية الآخر/ النقيض ودحضها، وهذا يتطلب من المؤرخين والباحثين والكتّاب العرب والفلسطينيين أن يسهموا بشكل متواصل في جمع وتوثيق الرواية ونشرها والاهتمام بالتاريخ الشفوي الذي يتعلق بمجازر الطرد والتشريع والجرائم المروعة التي ارتكبت هنا وهناك، لتبقى الرواية الفلسطينية حيّة وحاضرة وعنيدة أمام كل محاولات التشويه والتزوير، ومحاولات التسلل لفرض روايات مشوهة والتطبيع مع الاحتلال كما نرى على شاشات بعض العرب .

وحتى أيامنا هذه،  يقف 64 مخيماً فلسطينياً شاهداً على النكبة،  التي حّلت بالشعب الفلسطيني سنة 1948، عندما اقتلعت العصابات الصهيونية أكثر من 57% من شعب فلسطين من أرضه، ومن هذه المخيمات هناك 58 مخيماً مسجلة رسمياً لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، تتوزع على 19 مخيماً في الضفة الغربية، وثمانية مخيمات في قطاع غزة، وعشرة في الأردن، وتسعة في سوريا، و12 في لبنان، وهناك ثلاثة مخيمات في الأردن، وثلاثة أخرى في سوريا غير معترف بها لدى الأونروا، كما أن هناك أربعة مخيمات كانت قائمة في لبنان تمّ تدمير ثلاثة منها، بينما تم نقل سكان الرابع وإغلاقه.

ويبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى الأونروا حالياً نحو خمسة ملايين و400 ألف لاجئ، غير أن هؤلاء ليسوا كل اللاجئين الفلسطينيين؛ فالكثير من الفلسطينيين رفض التسجيل لدى الأونروا لاستغنائه عن خدماتها، كما أن الكثير من الفلسطينيين لم يسجلوا أنفسهم لإقامتهم خارج مناطق عمل الأونروا التي تنحصر في الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن وسوريا ولبنان.

أما عدد اللاجئين الحقيقي فهو يصل إلى نحو ثمانية ملايين و490 ألفا يمثلون نحو 66.8% من مجموع الشعب الفلسطيني البالغ 12 مليونا و700 ألف نسمة؛ إذ أضيفت إلى لاجئي 1948 أعداد كبيرة من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة "النازحين" المقيمين خارج فلسطين التاريخية وغير القادرين على العودة إلى بيوتهم، كما أن هناك نحو 150 ألفا ممن هُجِّروا من أرضهم، ولكنهم ظلوا مقيمين في مناطق فلسطين المحتلة 1948.

ومن قلب هذه المعاناة وفي ظل هذه التحديات الجسام التي تواجه شعبنا وقضيتنا الوطنية، انبثقت مؤسسة سيدة الأرض لتكون لها رؤيتها ورسالتها الوطنية والثقافية الثابتة والثاقبة والواثقة، وأن تتحمل مسؤوليتها كمؤسسة وطنية في فضح وتعرية كافة المشاريع المشبوهة والتحريفية التي تستهدف النيل من روايتنا ومن هويتنا الثقافية ومن ذاكرتنا الجماعية، حيث أسهمت مؤسستنا وعلى مدار خمسة عشر عاماً في نشر الثقافة الفلسطينية وفي اعادة احياء التراث والفلكور الفلسطيني والقيام بفعاليات متنوعة ومهرجات كبيرة ومؤثرة على كافة المستويات الفلسطينية والعربية والدولية، حيث شقت سيدة الأرض طريقها باختلاف كبير وبرؤية واثقة الخطى ببوصلة وطنية ترسم طريق الحرية واعلاء راية الهوية الحضارية والثقافية والانسانية للشعب العربي الفلسطيني في كافة أماكن تواجده.

تمر ذكرى وراء ذكرى وكل ذكرى لها ذكريات، وستبقى ذكرى النكبة ذكرى الوجع الأكبر، ذكرى " التغريبة الفلسطينية " المستمرة إلى أن يعود اللاجئون إلى الديار لتطوى هذه الصفحة، وتكون مجرد ذكرى في السفر الفلسطيني وفي متحف التاريخ .

سنواصل في مؤسسة سيدة الأرض نضالنا المشترك مع شعبنا، لترسيخ مكانة حق العودة للاجئين، وابراز الوجه الحضاري لشعبنا، ومطالبتنا للعالم ليقف الى جانبنا لتطبيق القرار 194 بما يضمن عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم التي شردوا منها، ولن نتخلى عن مسؤوليتنا الوطنية وسنكون رأس الرمح دائماً، وسنجعل من فعالياتنا الثقافية والفنية قنطرةً في مسيرة العودة ولن نكل ولن نلين، وستبقى رايتنا خفاقة على قمة أُحد ثقافتنا الوطنية، وسنبقى نردد مع شعبنا: اما العودة واما العودة.

 

  • الرئيس التنفيذي لمؤسسة سيدة الأرض

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت